السلالم!
لما لملمت عاصفة الانتخاب أذيالها حتى انقضَّ القرويون من جبالهم الصلعاء على العاصمة،
يلوِّحون بعصيهم ونبابيتهم،
١ وعلى رءوسهم لبَّادات
٢ كقوالب السكر، معصبين عليها بكوفيات مختلفة الألوان. السكاكين المزرعانية
والخناجر الجزينية مشكوكة في زنانيرهم العريضة، وفي يد كل فتى معتدٍّ بنفسه طبر
٣ ودبوس.
٤ وفي كل هنيهة تنطلق غدارة
٥ فتوقظ القمم الغافية حول الطريق.
لم يبقَ في القرى إلا الحزب المقهور، تأكل قلبه الخيبة، وينتفض كلما قرع الجرس، أو
غُنِّي
بيت «عتابا» أو «ميجانا» يحسب كل بادرة في القرية نكاية وتحرشًا به.
مرت الوفود عجالى على ساحة البرج يعرب هزجها عن الفرحة الكبيرة بفوز «النائب» الكريم،
وإن
كان أكثرهم لم يروا خلقته … يتقدم كل ضيعة زعيمها الذي زرع الدنيا آمالًا وأماني، حين
دعا
للنائب مأجورًا أو موعودًا … فريق أكبر همه عزل المختار المستبد، وفريق يرى كل النصر
في فض
البلدية وتعيين الرئيس والأعضاء من أفراده، وجماعة يحلمون بشق الطريق، فضيعتهم من لبنان
عند
الجابي، وليست منه ساعة اقتسام الميزانية … هي حبيبة قلب النائب حتى مساء يوم الاقتراع،
ويغيب عنها وجهه الكريم ووجه سماسرته مع غياب شمس ذلك النهار. وجماعة ينتظرون المياه،
فقد
أسقمتهم مياه الآبار الموبوءة، وجميعهم موعودون «بمدارس» يتعلم بها أولادهم الهمل.
٦
أما قيدومهم
٧ فتوظيف «ابنه» يشغل باله … «فالمحروس» حامل السرتفيكا، والسرتفيكا اللبنانية
تخوِّل حاملها حق فتح مدرسة … ووجيه القرية تعب وضحَّى، ولولا مساعيه المشكورة لم تقم
للحزب
قائمة. أما كان الفرق سبعين صوتًا بين المجلي والمصلي؟ إِذَن فأصوات ضيعتنا هي التي أمالت
الكفة، ومن قال غير هذا نفقأ في عينه حصرمة … لو ضوَّءُوا أصابعهم العشر قدامنا ظلوا
مقصرين. هكذا كان يقول في قلبه.
كل هذه المآرب تكومت حول بيت «النائب» الذي ملأ الدنيا وعودًا لو تحقق واحد منها لباهى
لبنان سويسرة. ضاقت ساحة البيت على الوفود التي تنصبُّ فيها، فتصادموا بالرءوس والمناكب
ليفوزوا بطلعته البهية، وحميت المجاحشة بين الوجهاء على الدنو من جنابه، وهزَّ يده بحرارة
على عيون الناس، فالعظيم من وقف حده.
كان استقباله لهم مرضيًا، وإن قل عرض ابتسامته بعض الشيء، وهزلت هشاشته وبشاشته عن
ذي
قبل. لقد غاض كثير من ذلك اللطف العرمرم الذي بدا منه حين زار الضيعة، كان ينحني فيها
احترامًا للمكاري
٨ والمعَّاز،
٩ وقد خلع كتف الخوري حين انكبَّ على يده يقبِّلها إظهارًا لتقواه، واليوم يستقبل
برخاوة يد حتى أبو طنوس الذي فتح بيته، وسيب
١٠ معجنه للمصوتين مدة «المعركة».
لم يدرك العوام ذلك فظلوا يحدون ويتهددون خصمهم، كانت أغاني القوالة
١١ تملأ آذان النائب فيفرح بالثقة الكبرى، والشعبية القوية التي لم ترَ بيروت
مثلها، ويلتفت إلى زميله قائلًا وهو يهز برأسه: قلوب طيبة ياهو، ما شلَّاه!
١٢ فيضحك النائب الآخر ويقول: وجماعتي أطيب!
كان وجه النائب يعبس حين يذكِّره «الهازجون»
١٣ بوعوده الغزيرة. ولما جاء دوره خطب فيهم وأجاد الشكر، وقال إنه لا يضن على
أنصاره بشيء حتى روحه، فصفقوا تصفيقًا حادًّا، وأطلقوا آخر ما معهم من خرطوش، وعادوا
إلى
ضيعتهم يبتهرون
١٤ ويتهددون، فنبض نائبهم قوي كما كان قبل الانتخاب، وإن انكمشت ابتسامته واصفرَّت
قليلًا …
وانتظروا مهندسي الري والطرقات، وترقبوا الصحف ليقرءُوا مراسيم العزل والتوظيف وفتح
المدارس. تذاكروا شئون حقولهم التي تصلح جنائن، والطريق المزفتة التي تنقل ثمارهم العتيدة
١٥ إلى أسواق المدن، واستعرت
١٦ نيران المنافسة بينهم على من ستكون جنينته أحسن، وأخيرًا تركوا الحكم للأيام …
وكان حكمها قاسيًا.
أما «صاحبهم» فكان مشغولًا بنفسه، يعللها بمنصب أسمى، ويستغل تلك المظاهرة، فهاب
المضطلعون بالحكم «شعبيته» وأصاب السهم المعلَّى.
١٧
وانتظر جماعته حتى ملُّوا، عملوا حساب فضلهم عليه فوجدوا أنهم لو لم يؤيدوه لكان اليوم
يبيع مما يملك ليفي ديونه. إذن فلهم عنده دين مستحق، وما عذره، وهو رجل الساعة؟ وإذا
كان لا
يعمل، فمتى؟
وخرجوا من الكنيسة يوم أحد قال فيه الإنجيل: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم. فقال
عقيدهم: نخوة
١٨ يا شباب، إذا كان سيدنا يسوع المسيح، وهو أبو الرحمة، لا يعطي بلا طلب، ولا
يفتح لأحد بدون دق باب، فكيف الحكومة؟
وبعد التشاور وجهوا إليه ثلاثة انتخبوهم بعد جدال عنيف، فاستكان على مضض من ظنوا أن
القرعة تصيبهم.
ومكث الوفد أسبوعًا في العاصمة حتى قابل الزعيم ثلاث دقائق، وعاد من عنده مثقلًا
بالوعود.
وبعد أشهر ظهرت الميزانية وليس فيها شيء، لا طريق، ولا ماء، ولا مدرسة، ولا موظف، ولا
ولا …
فغضبوا غضبة مضرية، ولكنهم بلعوها خوف الشماتة … وكان صاحبهم يعلو ويسمو وآمالهم تكبر
وتنمو، ولا شيء يتحقق. شعاره معهم قول المثل العامي: أسقيك بالوعد يا كمون.
١٩
وأخيرًا عوَّلوا على اقتحام المدينة جميعًا مهنئين ومطالبين «نائبهم» الجالس سعيدًا
على
كرسي الحكم، وإذا لم ينجحوا اتخذوا خطة أخرى، وتعلموا درسًا جديدًا من الحوادث.
كان عهدهم ببيت «النائب» صغيرًا، وهو في شارع كذا، فإذا به صار قصرًا، وحوله عرصات
فسيحة
ظهروا قليلين فيها، فتهيبوا الموقف. على البوابة جندي يخفر المدخل، فدخلوا الباحة بعد
الاستئذان، وحاولوا الارتقاء في السلم الرخامي ذي الساعدين المعقوفين فمنعوهم. والتمسوا
مقابلة «صاحبهم» فقيل لهم: مشغول بشئون الدولة، خارجية وداخلية.
استقبلهم بالنيابة عنه أحد رجاله؛ فأصروا على مقابلته هو لأن لهم قِبَله مطالب وليسوا
بالمتطفلين عليه.
فأجابهم: اكتبوها … فهز أحد الأهالي رأسه وقال: كأنك لا تعرف قول المثل عن الحبر
والورق!
وصاح الجمهور: أين صارت الطريق؟ … ففات الرجل مَثَل الحبر والورق، فضحك وقال لهم:
معاليه
مهتم بها.
– والماء؟
– أيضًا.
– والمدرسة؟
– أيضًا وأيضًا.
– والبلدية والمختار والناطور؟
– كله يصير.
– هذا كلام سمعناه مرات، قل له يطل علينا على الأقل، لنا حديث معه.
– هذا غير ممكن الآن، في رأسه ألف مشكلة، دوَّخه شغله الكثير. فقال جَسُورهم: ونحن
تركنا
شغلنا وقابلناه لما زارنا، وتقاتلنا لأجله. يتخبأ كأنه لا يعرفنا؟
فقلب الكاتب شفتيه، وهزَّ كتفيه … وانفتحت البوَّابة بعنف، فدخل وسفق
٢٠ الباب خلفه، فعلا الصراخ والصياح، ولوَّحوا بالنبابيت والدبابيس والعصي، فهرع
الخفير إلى التلفون يطلب قوة تردُّ الرجال المحمرَّة عيونهم عن بيت الزعيم، ولكن شيئًا
من
هذا لم يقع.
وقع حادث غريب جدًّا، تحقق حلم سلم يعقوب الذي امتد بين السماء والأرض فصعدت عليه
الملائكة ونزلت، هذا سلم قصر الزعيم يقف في الجماعة خطيبًا، استحال ساعداه يدين رهيبتين
أشار بهما إلى الحشد فخرجوا جميعًا، وأصغوا إليه بأفواه نصف مفتوحة، فقال لهم:
يا إخواني، تريدون دخول القصر العظيم، هيهات هيهات، في الدنيا سلالم مختلفة:
سلالم حجرية، سلالم خشبية، سلالم من لحم ودم، وأنتم واحد منها.
أما سمعتم قول ذلك الفيلسوف: كانوا سلَّمًا لي فصعدت عليهم؛ ولذلك اضطررت إلى
دوسهم لإتمام سيري، أما هم فحسبوا أنني أستخدمهم للصعود والاستراحة عندهم.
مساكين أنتم يا جماعة! أنا أحمل الناس على ذراعي ليدخلوا القصر الشاهق، فأكافأ
منهم بمسح أرجلهم بجبهتي. يستندون على أصابعي لئلا يسقطوا، وإذا دخلوا قعدوا
يتنادمون ويسمرون، وأظل خارجًا، أقاسي حرَّ الصيف وبرد الشتاء، وإذا منُّوا علي
فبقليل من الماء، ومكنسة عتيقة ليذهبوا أقذارهم عن سواعدي وصلعتي.
٢١
أنا سلم، أما أنتم فسلالم ومطايا تحملون الذين يصعدون على ظهوركم ورءوسكم
وأعناقكم. أقسم لكم بالله أنني ما دخلت القصر، وكثيرًا ما ينسفونني ويهدمونني إذا
تعرَّضوا للخطر … نحن في الهوى سوا يا إخواني …
وتعجب الخفراء من صمت الجمهور العميق وتحديقهم إلى القصر، فقالوا لهم: لا تنتظروا،
فالزعيم خرج من الباب الخلفي، روحوا في سبيلكم.
وتعجب الجمهور من بلاهة الخفراء فقالوا لهم: ما سمعتم وعظة سلم القصر؟
فصاح بهم عقيد الخفراء: مجانين أنتم يا بشر، السلالم تتكلم؟!
فأجابوا: نعم، نعم! وأبلغ وعظة سمعناها وعظتها.
فضحك العقيد وقال لهم: مساكين أنتم! من لم يكن لنفسه واعظًا كلَّت عنه جميع المواعظ.
امضوا بسلام، وانتظروا الدورة الآتية … ولكن المجاذيب لا تتعلم!