مرفع!
– اعلفيه، كلما زاد الخير نفع، لا تقولي إلا جا المرفع، بعد جمعة ونصف يا أم طنوس.
وجاء أحد المرفع فتحلقوا في ساحة الكنيسة يتنافسون بمرفعياتهم، أحاديث حامية أشبه بالنقار واللغط منها بالمذاكرة، الخوري يروح ويجيء تاليًا صلاة الصبح الطويلة في كتاب الفرض، يكاد ينشق صدره من أحاديثهم. أمَا جاءوا ليسمعوا كلام الله، ويذكروا «موتاهم» بصلواتهم هذه جمعة الموتى؟ فما بال هؤلاء المجانين لا يلهجون إلا باللحم والخمر؟ نسوا تعاليم الكنيسة التي تأمرهم بالصلاة في هذه الجمعة. صح فينا المثل: عند البطون ضاعت العقول.
وأطبق كتابه ليقول لهم هذه الكلمة، ولكنه خشي أن يجاوبه أفرام الشقي فيقع الشر بينه وبين أولاده، فأرجأ ذلك ليقوله في الكنيسة.
لم يكن الإصغاء كالعادة، فتمرمر الخوري على المذبح. لم تقع عينه، وهو يبخر الشعب، إلا على رجل واحد متخشع يصلي بحرارة، تارة يسجد مقبلًا الأرض، وطورًا يرفع نظره إلى صورة قدِّيس الضيعة، ويقرع صدره بانسحاق قلب. كان الخوري يتعزَّى إذ يرى هذا الفقير يصلي بحرارة فيقول في نفسه: أنا أعظم من ربنا؟ أما قال لِلُوط: لا أهلك المدينة من أجل العشرة؟ غنطوس وعيلته فوق العشرة.
وهجمت عليه بغتة فكرة ثانية، فقال: غنطوس يصلي بحرارة لأن ليس عنده مرفعية، الآن فهمت كلام الإنجيل: طوبى للمساكين، إن لهم ملكوت السموات.
يا إخوتي المباركين
جعلت الكنيسة المقدسة هذه الجمعة تذكارًا للموتى، وما معنى تذكار الموتى وكيف نذكرهم؟ بالبكاء والنحيب! لا، هذا ممنوع، والدليل قول بولس الرسول: إن الذين يموتون بالرب لا ينبغي أن تحزنوا عليهم. إذن، فبم نتذكرهم يا إخوتي؟ نتذكرهم بصلواتنا، نتذكرهم بتضرعاتنا، بصدقاتنا وإحساننا إلى المحتاجين منا.
فتنهد هنا غنطوس عن غير قصد وبلا شعور، وجأر بالصلاة هاتفًا: أعطنا خبزنا كفاف يومنا.
ما وجدتكم فاهمين هكذا، ما سمعت في الجمعة الماضية إلا حديث مرفعيات: هذه الذبيحة تعمل كذا، وهاتيك تعمل أكثر من هذي، ونبيذ فلان أطيب من نبيذ فلان، وخابية فلان باردة، وخابية فلان مثل النار … حديث لحم وخمر كأن ضيعتنا المشهورة بالتقوى والعبادة استحالت خمَّارة.
لا تكونوا مثل الذين قال عنهم بولس الرسول: آلهتهم بطونهم، البطن مخزن التجارب فلان تحشوه باللحم والخمر.
منكم ناس إذا قلنا لهم: لا تشربوا الخمر، قالوا: مار بولس جوَّز لنا ذلك لما قال: قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان، وخذ قليلًا من الخمر لإصلاح معدتك. صار المجانين لاهوتيين. مار بولس قال: قليل من الخمر، ولكن أنت، يا ابني، تشرب خابية ولا تروَّى. مار بولس قال: خذ قليلًا من الخمر لإصلاح معدتك. أما مِعَدنا نحن إذا أصلحناها فكل طحين الشام لا يكفينا.
وأنكى شيء هو قولكم: خميس السكارى. متى كان للسكارى خميس؟
كلوا، يا إخوتي، وسروا، وافرحوا، ولكن لا تنسوا الإحسان والصدقة. تذكروا وأنتم تأكلون، من ليس عنده أكل.
أشركوه في ذبايحكم، أشركوه بالخيرات التي أنعم الله بها عليكم.
فكروا بالقريب وأنتم ترقصون وتدبكون، وتغنون وتزمرون. حافظوا على عادات أجدادكم الطيبة في هذا الأسبوع. لا تعملوا كما يعمل غيرنا من جهال القرى: إذا لم يكن في الضيعة عرس عملوا عرسًا كاذبًا.
فتغامز بعض الشباب بالأيدي والعيون كأنهم اهتدوا إلى فرح جديد لم يخطر ببالهم.
كما ترفِّعون بخير تصومون وتعيِّدون بخير.
وخاب أمل الشباب بالعرس المنشود، فعملوا عرسًا كاذبًا أنفقوا عليه بسخاء، فأدرك الخوري أنها غلطته إذ ذكَّرهم لما وعظهم بما كانوا ناسين، ولكن الخوري ظل راضيًا لأن جو الوئام لم يتعكر.
وعند انتهاء صلاة تلك العيلة البائسة دخل الخوري وزوجته بالطعام، فكان عشاء سري حقًّا.
وقعد المصلون تحت سنديانة الكنيسة يتذاكرون حوادث المرفع في أثناء انتظارهم ساعي البريد، ثم انضم إليهم كثيرون من ذوي المهاجرين، وكل يترقب النجدة من وراء البحر، فانكشف ذاك النهار الميمون عن أعظم حدث في تاريخ القرية المتواضعة: رسالة من قنصل أميركا يسأل فيها عن غنطوس إلياس المحفوظ له في صندوق حكومة الولايات المتحدة مبلغ مائة وسبعين ألف دولار تركة له من أخيه.
فاهتز غنطوس لهذه البشارة ومات موقتًا.