مرشد الأخوية!
ومن هذا «المركَّب» النحيل ينبعث صوت جهوري عريض يوبِّخ ويؤنِّب بلا مبالاة ولا خوف، صوت كاهن مؤمن بسلطانه الرسولي فلا يمالئ ولا يحابي، يعلم ويعمل ناشدًا الكمال المسيحي لنفسه ولرعيته.
وجاء موعد صلاة الأخوية — قرب ظهر الأحد — فدقَّ الخوري الجرس أول مرة، وطفق يصلي متمشيًا تحت تلك الشميسة الناعمة، شميسة مواتية يندر وجودها في كانون، فاستبشر الخوري وعدَّها نعمة.
واستدارت حلقة أبناء الأخوية في تلك الشميسة، هؤلاء على حجارة، وأولئك على جذع السنديانة الدهرية، وبعض الصغار في جوف الجذع يتوشوشون، فزأرهم الخوري فخرسوا.
أما النساء فقعدن ناحية، على صفَّة في ظل جدار الكنيسة المنخورة حجارته العتيقة، تتوسطهن الخورية والشيخة.
فقرع سمعان الجرس خمس ضربات وجلس، فتنحنح الخوري وسأل دون أن يلتفت: كمل الجمهور؟
فنظر سمعان إلى الجدول وقال: باق فلان وفلانة.
فسعل الخوري وقال مغتاظًا: فلانة معذورة أم طفل، ولكن الشيخ بطرس ما هو عذره؟
فقال أحدهم: رأس السنة، حساب كمبيالات وتحصيلات.
فقال الخوري: المثل يقول: ساعة لك وساعة لربك. وأتبعها بكلمة وهزة رأس أعجبت أبناء الأخوية فضحكوا. وشرع يقرأ فصلًا موضوعه: أحبب قريبك كنفسك.
ووافقت نهاية الفصل قدوم جناب شيخ الضيعة، فأطبق الخوري كتابه والتفت إليه قائلًا: خلصت من سماع كلام آبائنا القديسين، فسماعِ يا شيخ، كلام هذا الخاطي. ربنا وصانا، يا إخوتي، بمحبة قريبنا كنفسنا، سمعتم قصص الذين عملوا الخير وكيف كان جزاؤهم فوق، وسمعتم كذلك حكايات القادرين على الإحسان وما فكُّوا ريق فقير، وكيف استقبلتهم إخوتهم الشياطين تحت. المكاوي طالعة نازلة، خذ وهات، على أيديهم، على أرجلهم، على رقابهم، على صدورهم، على بطونهم وظهورهم، ما تركوا من جلودهم مغرز إبرة بلا كيٍّ.
هذا الذي أصاب من حب ماله؛ وترك قريبه يشقى لأنه جوعان، عريان، بلا مأوى. الشيطان ذكي منحوس — وجرَّ واو منحوس جرًّا طويلًا — يخترع القصاص الملائم والمؤلم المنكي.
وفيما كان الخوري يعظ بحرارة صاح مُكارٍ من خلف الكنيسة: معنا بطاطا، بطاطا ممتازة، بطاطا بقعكفره.
فامتعض الخوري وعدَّل شاربيه وصاح: تعال يا بيَّاع، اقعد اسمع كلام الله ونفِّق حمولتك.
ثم التفت صوب الخورية — زوجته — وقال: عشرة أرطال تكفينا يا خورية؟ فأيَّدت قوله بحنوة رأس، وابتسمت مع الضاحكين.
فأجاب أكثر من واحد: معناتها أخوة.
فقال الخوري: إذا كنتم إخوة فاقسموا قسمة حق، كما يقول المثل. لا يا إخوتي، أنا لا أطلب قسمة حق، بل ربع ربع ربع الحق. يعني: أعطوني من الجمل أذنه. نعم يا أحبائي، عندنا عمل خيري كله أجر، وصيت حسن. الأجر مؤجل، والشرف معجَّل، فتنبهوا وانتظروا.
ومضى الخوري في حديثه يمط ويمغط، فقال واحد: تفضل يا معلمي، احكِ.
فأيقظ الخوري شاربيه النائمين، وقال: أخوكم منصور حنا بلا بيت، عار على ضيعة مثل ضيعتنا أن ينهدَّ فيها بيت منذ سنتين ولا تعمِّره.
فتعالت الأصوات: قائمة — لائحة — امسكوا قائمة.
فقال الخوري: شيخ بطرس، تفضَّل.
فتلكأ الشيخ، فقال القندلفت: هذي قائمة، قولوا.
فزجره الخوري بنظرة حادة، وإذ لم يلحظ صاح به: أعطِ الشيخ الورقة.
فقال أحدهم: قيِّدوا، شغل عشرة أيام.
وقال ثانٍ: خمسة.
وقال ثالث: سبعة.
وقال مُكارٍ: شغل ثلاثة أيام على الدابة. وقال آخر: ريال مجيدي. وقال غيره: نصف مجيدي.
وانتظر الخوري دفعة الشيخ، ولكن الشيخ ظل هادئ الأعصاب، فقال الخوري: والشيخ بطرس؟
فمأمأ جناب الشيخ وقال: ار … ار … ريالين.
فصرخ الخوري: وا لو! ابن عمك منصور يدور على أبواب الناس؟ افتح كيسك، افتحه، الله يفتح بوجهك باب السماء … إلياس دفع نصف مجيدي وما عنده عشا ليلة، ومتَّى مشتهِ العضَّة بالرغيف ويدفع بشلكين، وأنت الشيخ بطرس، يدخل لك كل طلعة شمس مبالغ … تدفع ريالين؟ هذي ما أنزلها الله بكتاب.
ولم ينفع الكلام، وحرن الشيخ. ظلَّ عند قوله لا يتزحزح. نتش الخوري القائمة وعدَّلها بنظرة مستعجلة وهز برأسه وقال: تأخرنا، قوموا نصلِّ.
وبينما هم خارجون من الكنيسة إذا بعجوز تدفع إليه بيد مرتعشة صُرَّة نقود قائلة: احسبها يا معلمي. فحسبها الخوري، فأربت على ثلاثة ريالات، فألقاها في الكيس وبارك أم جرجس.
وكانت السهرة تلك الليلة عند المحترم، وفيما هم يسمرون فرحانين بما عملوا، جاء أحدهم وكان قد غاب عن الأخوية بإذن، فقال: عرفت أنكم تبرعتم اليوم لأخينا منصور لتعمِّروا بيته، لا تستأجروا معلمًا، أنا أبني البيت من أول حجر إلى آخر حجر.
فتناظر الحاضرون متهللين، وقبله الخوري في جبهته قبلة رنانة، والتفت نحو الجمهور متحدثًا إليهم بكل جوارحه ما عدا لسانه.
وانتصف الليل وما شعروا. وفيما هم يتسلون بأكل الزبيب والتين اليابس والجوز واللوز إذا بصراخ حاد: دخيلك يا معلمي، عجِّل يا خوري يوسف، بطرس حصل له عارض.
وسار الخوري مشمرًا، فسبقها إلى البيت، رأى الشيخ بطرس قاعدًا في فراشه يدعم رأسه بيديه التنتين، فتقدم منه جاسًّا نبضه، وقال: بسيطة يا شيخ!
فأجاب الشيخ: قصة حلم بشع، هذي وحلة وعظة النهار …
فضحك الخوري وقال: مليح، فإذن زرت جهنم ورجعت، الحمد لله على السلامة.
كان في نيته أن يدفع خمس ذهبات، فلما رأى أنه لا يزال حقًّا على الأرض جعلها ثلاثًا، ولما واجه صندوقه اكتمل وعيه فأسقط المبلغ إلى اثنتين.
وأدار المفتاح في القفل فطنَّ ناقوسه تلك الطنة المحبوبة، فطرب الشيخ ولم تطاوعه يده على تسريح أكثر من واحدة من ذلك الجيش العرمرم. وبعد تردد طويل سقطت الليرة الذهبية في كف الخوري.