مأتم قروي
وشاخ شلهوب فقسم ما يملك بين بنيه، وراح ينتقل في تلك الأبراج الاثني عشر، وهو لا يملك من دنياه التي أنماها غير أربعين ذهبًا، ادَّخرها لتكون تكاليف رحلته إلى الآخرة.
كان يحسب هذا المبلغ وفائدته المركبة طوال خمسة وخمسين عامًا، فيصفق كفًّا على كف تحسرًا على ثروة ضخمة أفلتت من يده، ويقول بصوت عالٍ: راحت.
فيخال بنوه أنه متحسر على المرحومة والدتهم، فتغرغر عيونهم بالدمع. ثم يتوغل شلهوب في دنيا ذكرياته فيتخيل مأتمها الحافل وما كلفه من ذهبات فتتزعزع أركانه: ثلاثة آلاف قرش! ليتني ما سمعت من الناس وعملت بعقلي، كنت وفرت نصف المبلغ على الأقل.
وتلمَّس «كمره» الذي كان لا يحله لا ليلًا ولا نهارًا فاطمأن. لم يكن يأسف على فراق دنياه كأسفه على هذه الذهبات التي سيتفرق شملها يوم دفنه، والفراق مر، فيقول: قلة عقل، خوري واحد كثير علي، مسكين ابني داود! ركبته العيلة، أمس كانت حرمته طائفة بالحارة تفتش عن أقة خبز، سمعتها تقول لأم جرجس: جمعة عمي عندنا، وما في معجننا رغيف، فانسلخ قلبي.
وكبرت مروءة شلهوب عند هذه الذكرى، فمد يده إلى عبه ليعطي كنته مجيديًّا ثمن عجنة، ولكنه استظهر على التجربة بإرادته الحديدية فلمَّ تلك اليد وبزق على الشيطان. إن المبذرين إخوان الشياطين.
وعجت البقرة فصاح بكنته: عشِّي البقرة يا عمي، هذي حيوان لا يحكي ولا يبكي.
ثم عاد إلى تفكيره. أدرك أنه يضيع الوقت بالتفكير، فعذر نفسه؛ لأن العتمة تعوقه. ولو أنه ضوَّا السراج كانت الخسارة أجسم، فما يعمله لا يوازي ثمن الزيت، فهو إذن قد وفر.
ونام تلك الليلة بعد صراع هواجس عنيف، فرأى أحلامًا غريبة: موتى يخالطهم كأنه وإياهم في شبابه، ورأى امرأته أيضًا جاءت تطالبه بأشياء أشياء، وحسر اللحاف عن رأسه فرأى النور ينسل من شقوق الباب فنهض من فوره، وخرج يتمشى على المصطبة مزيحًا كابوس أحلام الليل عن صدره، ولكنه غرق في أحلام اليقظة فقال: يظهر أن الله راضٍ عني، انتظرت عزرائيل مرات وما جاء. ثم استضحك وقال: الله يبعده.
وطفق يتأمل الضيعة وإطارها الجميل، فرأى منظرًا عجبًا، قد يكون كان، ولكنه لم يحس به كهذه المرة. كل ما في الحقل جميل ثائر: جنت الزهور وتطاولت الأعشاب، واشرأبَّت شفاه البراعم، والسنونو تهبط وترتفع كأنها ترقص في الجو، فأعجبه المنظر وتذكر الموت فقال عفوًا: الله يبعده.
ومرَّ واحد من لِدَاته فعزم عليه فعرج، وقعدا يتذكران أيام الشباب ويتحدثان عن الدينا الزائلة، وذكر له شلهوب أنه أبصر في منامه زوجته، وتذاكرا في تأويل ذلك الحلم، فأجمعا الرأي على أن زوجة شلهوب محتاجة إلى معونة روحية، فنوى شلهوب على إعطاء خوري الضيعة حسنة قداس.
وأيقظ ابنه الصغير، فأخرج المعزى من المراح، وبعد أن استعرض شلهوب ذلك الجيش، شيَّع «الشيخ» — وهو كرَّاز عزيز على قلبه — بنظرات أبوية وابتسامات مملوءة إعجابًا، ثم أخذ مسبحته وتمشى يصلي فرضه.
وفي مساء هذا اليوم الجميل نفضت شلهوب البرداء فاصطكت أسنانه، قاوم ما استطاع، ولكنه لم يثبت فنام.
وطالت نومته وكثر عوَّاده، فهو على حرصه وتهالكه على الدنيا كان يغالي في عيادة المرضى ابتغاء للأجر. كانت مروَّته عظيمة، جوَّاد سخي بكل ما لا يمس كيسه، ولكل شيء عنده حساب مقوَّم.
وساءت حال شلهوب فاستعدت الضيعة ليومه، وليس المأتم في القرية بالأمر الهين؛ فعلى كل بيت واجبات كإطعام المؤاجرين، وتقديم المرطبات، والسيكارات، والقهوة حتى الكحول والنقل والإركيلة.
وبان الموت في شلهوب فقعد الخوري حدَّ رأسه لا يفارقه خوفًا عليه من عدو البشر، والناس شطران، شطر يروح وشطر يجيء. والغادي يسأل الرائح: أين صار؟ أما المحترم فكان يجيب الجميع بضجر: الأمر بيد الله … ما بقي إلا القليل.
وقف دولاب العمل في القرية، فجميعهم ينتظرون الساعة، وعقرب الساعة بطيء جدًّا.
وكانت الحشرجة تتقطع فيخالون أنه مات حتى إذا امتدت يدٌ إلى الكمر ردَّتها يد شلهوب وعاد يغرغر.
وبلغ أنسباء شلهوب في القرى النائية أنه نوى الرحيل، فتهافتوا على القرية فملئُوها، واستحالت البيوت مطابخ، فاستهلك العوَّاد ما هيَّئُوه ليوم الدفن، فهرع صاحب الدكان إلى البندر يتحوَّج. وطال نزاع شلهوب فراح الناس يعلِّلونه على عادتهم فقال واحد: في رقبته ذخيرة عود الصليب، فأجابه الآخر: من أين له الذخيرة؟ فتشه الخوري فما وجد غير ثوب السيدة.
فقال آخر: إذن واقد نير.
وبينما كان عوَّاده الغرباء يتغدون في أحد البيوت قرع الجرس حزنًا فتنفس الجميع الصعداء وهرولوا إلى بيت الفقيد، أما سمعان — مجهِّز موتى القرية — فكان أرشق من النسيم. حلق ذقن الفقيد، ثم انتزع «الكمر» وشرع يُلبِس شلهوب بذلته الدهرية: شروال جوخ، وصدرية مخمل، وزنَّار حرير مخطط، وكَبَران، وبعدما أصلح هندامه أنامه نومًا مريحًا، فبرز في أحسن سمت، فاكتسى وجهه سيماء الطوباويين.
وانعقد على الأثر مؤتمر المناعي، فشق كبير الضيعة الحديث قائلًا: كلنا غلة الموت، شقي المرحوم وتعب، ولكنه جمع. مات — والحمد لله — مجبور الخاطر بالمال والرجال.
وبعد هذه الخطبة البليغة التفت إلى بطرس ابن شلهوب البكر يسأله عن كبر المأتم وصغره.
فأجابه: الثوب الذي تفصِّله نحن نلبسه.
فصاحت أخت الفقيد وهي عجوز درداء: أملاكه نصف الضيعة وتقول: كبير وصغير!
فصاحت بنته: لا تستخفوا فينا، انعوا البلادين.
وانقطع الكلام، فاستل الشيخ مسبحته من جيبه وطفق يعد القرى التي اعتادوا أن ينعوا إليها الوجهاء، فزاد عددها على الخمسين وتجاوز عدد كهنتها المائة.
ومشت الأقلام على الأوراق، فتقدم كهل من الشيخ وقال بصوت منخفض: أنطون حرد لأنكم ما نعيتم قرية زوجته.
فقال الشيخ: سيدنا البابا فقط معصوم من الغلط. أنطون، لا تؤاخذنا يا عمي.
وتبادلا ابتسامة رضى زاد بها عدد الكهنة خمسة.
وقال متزعم: ما افتكرتم بسيدنا.
فصاح الجميع: محفل كبير بلا مطران.
فقال الخوري: المال لا يكفي الخوارنة، ما مع المرحوم غير أربعين ليرة.
فاصفرت وجوه أبناء شلهوب، فقال واحد من الناس: اجعلوا «المعلوم» نصف مجيدي.
فقال الشيخ: لا يا جماعة، لا تمسخوها، المال موجود.
ومال على بطرس يوشوشه، فقضي الأمر واقترض بطرس خمسين ذهبًا.
وحمل الشباب نعي شلهوب إلى البلاد ساحلًا وجردًا، لم ينسوا النادبين والنادبات.
وانصرف بعضهم إلى إعداد غداء المحفل الكبير، فذبحوا خمسة رءوس من معزى المرحوم وفي مقدمتها «الشيخ» الذي كان يحبه حبًّا جمًّا.
وأفاق شلهوب من غفوته الطويلة فقالت له حفيدته الصغيرة: ذبحوا «الشيخ» يا جدي.
فأجاب شلهوب: الله يقطع رقبة من ذبحه. ونظر إلى ثيابه وقال: من قال لكم حتى تلبسوني بذلتي؟
فقالت البنية: قالوا إنك ميت.
– من قال؟ لا، ما مت بعد، وأين الكمر؟
وعلقت عيناه بوجه ابنه بطرس، إلا أن بطرس لم يكن يدرك شيئًا في تلك الساعة، كان مشغول البال بمن نعى، وبما استدان، وبما ذبح من القطيع، ولكن شلهوب كان عند حسن ظن ابنه هذه المرة، فمات بعد هنيهة وانفرجت الأزمة الشلهوبية.