حظ ونصيب!
كانت لوسيا خصبة البطن، فما دار القمر تسع دورات حتى أهلَّ الصبي، فملأ الفرح البيت وتعدَّاه إلى القرية، فزوجها اسطفان محبوب من كبار القرية وصغارها، عُرِف بالفتوة والمرح، فكنَّوْه قبل الزواج بو مروّه. شاب تام الخلق، وإن لم يكن آية في الجمال، شجاع، غيور، كريم النفس، لا يتخلف عن فرح ولا يقصِّر في ترح، قيدوم الشباب في الحوادث السوداء والبيضاء، هو أول من يحدو للعريس، وأول من يندب الميت، حاضر القلب واليد واللسان، لا عيب فيه غير حَوَلٍ في إحدى عينيه فصحَّ فيه قول المثل: يا حينو لولا عينو.
سلَّف جميع الناس فهبُّوا جميعًا يهنِّئونه بابنه البكر، فامتلأ بيته سكرًا ورزًّا، وصابونًا وفراريج. وكان اسطفان مزهوًّا بهذه النعمة يقعد شاربيه بين دقيقة وأخرى، ويقدم النُّقل والقمح المغلي لكل زائر وزائرة، ويحشو جيوب الصغار لوزًا وزبيبًا. يكاد الفرح يقطر من عينيه، ولكنه يحاول ألا يعرِّض إحداهما فينظر بالوراب.
وكانت الأم الراقدة في زاوية ذلك البيت الطويل المتواضع تهشُّ وتبشُّ، رادة التهنئات والتحيات بأحسن منها، مع أنها كانت ممغوصة، ولكن سرورها بثمرة أحشائها المبكرة غطى على وجعها.
وبعد أشهرٍ مرض الطفل فعالجته القابلة بالبابونج والحقن، فانكسرت شوكة الحمى، ولكنه ظل كزهرة لا تيبس ولا تينع. اتسعت حدقتاه وقشط اللحم عن وجنتيه، فأمست ذقنه حادة بعد استدارتها الفاتنة. كان الطفل يذوب وأمه تذوب معه فتضعضع الوالد. أم تبكي، وولد يئن، ووالد يقعد كئيبًا حزينًا قدام باب بيته يشكو إلى الله همه.
ورأت أم إلياس طبيبة أطفال الضيعة، وهي عجوز ربَّت خمسة عشر ولدًا، أن الكي ضروري فكووه أولًا في القمة، وإذ لم ينجع طبها هناك انحدرت إلى لحف الذقن، ثم هبطت إلى البطن فكوته ثلاثًا فوق السرة، ففارق بعد أيام.
وبعد عام رزق اسطفان ولدًا آخر كان حظه كأخيه، ثم ثالثًا ورابعًا فلحقا بأخويهما حتى مات صبره وكاد يكفر بربه. لا يدري كيف يعزي زوجته التي يحبها فيطفر إلى الحقل، أما الزوجة المسكينة فأين تهرب؟
كانت تبكي كلما وقعت عينها على السرير وتقول في نفسها: الذنب ذنب من يا ربي؟ من المذنب منا؟ إن كنت أنا أو زوجي فما خطيئة أطفال أبرياء حتى لا يعيش منهم واحد، دخيلك يا مار جرجس، وا لو، صبي واحد فقط حتى نقدر أن نعيش، مسكين ابن عمي! ما تغير أبدًا، ما رأيت منه إلا كل خير.
ثم أقبل الخامس فأشارت إحدى العجائز أن يسموه باسم أحد الوحوش ليردوا عنه «القرينة» التي خنقت إخوته جميعًا، فقالت الأم إنها علَّقت في رقابهم جميعًا «كتاب مار قبريانوس» وطوق قصحيا، والله العظيم ما تركت واحدًا بلا كتاب ولا طوق، عن مذبح كل قديس أخذت بركة، يا قلة الحظ!
فقالت العجوز: اعملي مثلما قلت لكِ، سميه نمرًا أو أسدًا أو فهدًا فلا تقربه «المطرودة» أبدًا، نسوان كثير أصابهم مثلما أصابك وخلصتهم بهذه الواسطة.
ثم كان مؤتمر خماسي من الجدين والأبوين والعجوز، فاختاروا اسم فهد للمحروس الخامس، وتهللت الأم وعاشت زمنًا بهذا الأمل الجديد.
وجاء يوم العماد فحملت الولد عرَّابته، ومشى والده وعرَّابه خلفهما إلى الهيكل حيث كان الكاهن والشمامسة وبعض الأقارب ينتظرون، وشرع الكاهن في رتبة العماد، ولما بلغ قوله: أنا أعمدك يا … سأل العرَّاب عن الاسم المختار، فتعالت أصوات من الشعب: فهد، فهد، يا أبونا.
فرقصت لحية الخوري غضبًا وقال: فهد، ايش هو هذا الاسم؟ الوحوش في غنى عن العماد، أنا لا أعمد الضباع والفهود، هاتوا اسم قديس، فاهد، ما شاء الله!
– نرجوك يا محترم.
– لا لا لا، مستحيل يا أولادي، مستحيل، لا تجربوني. وكان الجد من العارفين بهذه الأصول فصاح بهم: لا تغلِّطوا الخوري، الخوري معه حق. سمِّ يا معلمي الاسم الذي تريده.
فتماسك الخوري وضبط نفسه وقال: أنا أعمدك يا ساسين باسم الآب والابن والروح القدس.
فهمس الشيخ في أذن جاره: هذا اسم قديس ابن عم فهد. ثم قال للخوري: عال يا معلمي، عال، كان الله قاعد على لسانك، أصبت عصفورين بحجر واحد.
وجاء دور الغداء فأكلوا في البيت طعامًا شهيًّا أعدته أم فهد، وتأنقت فيه ما شاءت، وخرج الكاهن داعيًا للولد بالسلامة، وللبيت بالبركة …
وفي ليل ذلك النهار استيقظت لوسيا على صراخ ولدها، فأخذت تصلِّب فوق سريرة، ثم جاءت بكتاب مار قبريانوس فعلقته فوق رأسه في عمود السرير الأفقي، فنام حتى الصباح.
ومرَّت أيام وأسابيع لم يشكُ فيها الطفل ألمًا ولم يوجعه شيء، ثم حبا ودب وتجاوز عمر إخوته، وأمه ما تزال مضطربة، خافت ألا يكون اسم فهد كافيًا لصد «القرينة» فقالت في نفسها: لماذا لا نلتجئ إلى مار ساسين سميِّه في العماد؟ مار ساسين قديس نشيط، تُفزِّع به الأمهات الأولاد متى تشيطنوا.
وظل هذا الفكر يروح ويجيء حتى قلقت في إحدى ليالي كانون وقلق زوجها معها فقالت له: ناوية أن أنذره لمار ساسين، فما رأيك؟ الأحسن أن نمسك الحبل على الطرفين.
– الرأي رأيك، اعملي مثلما يلهمك ربك.
وفي الغد فصَّلت لوسيا لفهدها ثوب راهب، ونذرته للقديس ساسين، وأرخت شعره على أن تقصه في تمام السنة الرابعة يوم عيد القديس ساسين، وفي مقامه، وتزن ثقل الشعر ذهبًا.
وبعد سنتين وبضعة أشهر كانت أم فهد وزوجها في الطريق إلى حاقل، ومعهما خروف يقوده زوجها، وخرْج من القمح المدقوق على ظهر الدابة التي تركبها الأم والصبي، وما أطلوا على «حاقل» حتى رأوا الرءوس تموج في ساحة كنيسة القديس ساسين كسنابل الحصاد، موسم يقصده المؤمنون من أماكن بعيده، وفود وفود معها نزور وقرابين، شمع وبخور، زيت ونقود.
وبعد أن زاروا الكنيسة واستراحوا ذبحوا الكبش، وأوقدت النار تحت الهريسة التي نذرتها أم فهد فطورًا للمعيدين.
تلك كانت أول مرة شهدت فيها لوسيا عظمة عيد مار ساسين، إنها لم تحضر إلا عيد قريتها، وعيد قريتها ليس من فحول الأعياد؛ لأن القدماء لم يحسنوا اختيار قديس من أصحاب العجائب الكثيرة، والمعجزات الكبيرة. قديسهم وسط؛ ولذلك كان عيده بين بين.
وقفت أم فهد كالمشدوهة تسمع وترى: رقص ودبكة، أغاني عتابا وميجانا، شباب تسامى للعلى وكهول، فتحت سوق عكاظ بين القوالة، واحتدم القول حتى أدَّى أخيرًا إلى «الجفاء» الذي يسميه الشعر الرسمي هجاء، ولولا العقلاء علق الشر.
هوذا ضيعة كبيرة جاءت جرد العصا، فحسب العقال للعاقبة حسابًا. كانت أم فهد مكروبة ولا تدري لماذا، أما أبوه فكان يمشي كالراقص، يحيِّي هذا، ويصافح هذاك، يعرف الكثيرين من الزائرين فهنَّئُوه بالسلامة، ودعاهم إلى أكل الهريسة على سلامة المحروس، فوعدوه خيرًا.
وكان الصبي يسأل أمه أسئلة ساذجة فتجيبه وهي كالساهية، ترتاع كلما اشتد الصخب وتتأهب للرجوع ثم تتذكر أنها ناذرة، وغدًا موعد قص شعر الصبي ووضع النذر على المذبح.
وتلاحى شباب قريتين فحجز العقال بينهم وصالحوهم، فعادوا إلى مجالسهم يشربون ويأكلون ويسمرون، وانقضت الليلة على سلامة وعافية.
وفي الغد كانت أم فهد في الهيكل راكعة قدام المذبح، فجزَّ الكاهن شعر فهد، ووزنت الأم ثقله ذهبًا، وقعدت بين النساء تصلي صلاة الشكر متضرعة إلى مار ساسين حارس ولدها. أما أبوه فكان بين الرجال، يحدث هذا، ويتندر على ذاك، وزوجته تصرف على أسنانها متألمة من استهتاره، تنظر إليه نظرة تبكيت وكأنها تقول له كلما وقعت عينها على عينه: سماعِ كلام الله يا رجل، احترم صاحب المقام الذي حفظ لك ابنك. بيد أنها كانت تتعزى إذ ترى أكثر المصلين مثله.
وما انتهى القدَّاس حتى كانت أم فهد وبعض المؤاجرات يكسرن الهريسة، بينا كان الشباب متحلقين حول حبل جرس مار ساسين. الجرس شهير يقصده الشباب الأشداء، وينتظرون عيده ليظهروا مواهبهم العضلية، فكان الحبل ينتقل من يد إلى يد.
وكان شاب ذا شاربين معقوفين كذنَبِ العقرب، وأنف أقنى كأنه منقاد نسر، عيناه كالجمر لكثرة ما وقد من الكحول؛ فاحمرت أعين الشباب حسدًا واحتكوا به، وكان الخبط واللطم واللكم، وماجت الجماهير في تلك الساحة حتى خلتهم قطعة واحدة تتحرك.
واستيقظت أم فهد من همكتها بالهريسة على صراخ الجماهير، وسباب الشباب، فما رأت فهدًا حولها، فصرخت: ابني، ابني!
وزجت نفسها بين الجماهير تصرخ صراخًا يفتت الأكباد ويسمعه حتى صاحب المقام … ففعل صراخها في الجماهير ما لم تفعله همة المصلحين، فهمدت الضوضاء، وانجلت المعركة عن عدة جرحى، وبعج بطن فهد، فأكلت الهريسة عن نفسه …