السلامة غنيمة!
النار في الموقد تبربر وتغني وإبريق القهوة يدندن، حتى إذا دبَّ الخادم بالحطب هزج الإبريق وبقبق، وهلال منبطح في الزاوية ملتف بعباءته، يجرد ساقه ورجليه إظهارًا لجوربيه المخططين وبابوجه المزركش، يغصب نفسه على القراءة ناظرًا من وراء نظارتين ذهبيتين، غرَّته الأبهة فركبهما فوق أنفه الأفطس. كان يتزنر بحبل القد أو الشعر، ويكوكي خلف والده حاملًا الجراب فلا يبلغ الحقل إلا بعد ألف جهد، حتى إذا مشى القلم المجهول في لوح القدر، تبدَّلت صورة هذا البيت.
فرَّ أبو هلال من وجه العدالة إذ جرح أحد بني عمه جرحًا مميتًا، فإذا الثروة في انتظاره بالريو ديجانيرو. ربح الجائزة الأولى في «البيش»، فأصبح بين ليلة وضحاها من أصحاب بيوت المال، طويل التجارة، عريض الجاه. ومشى قدمًا، فأمسى سيدًا خطيرًا توقره الجالية، وسمعت كلمته أصحاب المقامات من رجالات البرازيل.
ولدنا العزيز هلال
احسب حساب غدرات الزمان، السترة تكفينا، ما سمعت قول المثل: على قد بساطك مد رجليك؟ لا تكبر فشختك يا ابني.
وطوى رسالته هذه على حوالة بألفي ليرة إنكليزية، فخطا هلال خطوة واسعة أدت إلى خطوات أوسع وكثرت أقاويل الجيران، هذا يقول: توفيق غريب عجيب، المال مكبوب على الطرقات حتى يجمعه مرهج! والله العظيم قصة عمنا مرهج قصة غريبة. وإذا بزوجته ترد عليه قائلة: الدنيا سعود وبخوت.
ومثل هذا الكلام كان يتداول في زوايا بيوت عرشين وعلى مصاطبها كلما اجتمع اثنان، أما عند بيت مرهج فتسمع: هاتوا الطين، قدموا حجارة، أصوات تتعالى على الحيطان، ووجوه الجيران تتقلص وتتمدد وتصفر وتخضر، والسن تقول: كان هلال في شروال خام مصبوغ، وصديرية ديما، وكانت الأرض لا تطبق ثقالته، فكيف به وقد لبس الجوخ؟ من ينجينا من شره متى كمل القصر؟
وما صفف قرميد بيت هلال حتى لاحت للقرية أشباح النفوذ الرهيب وتحققت ظنونهم. طمح هلال إلى مشيخة الضيعة وراح يسعى لها، سخت نفسه عن مائتي ليرة إنكليزية إن صيره مدير الناحية شيخًا.
ودرى حزب الشيخ بما يطبخ هلال فتهيَّئُوا للكارثة، كيف تفلت المشيخة منهم؟ هذا لا يكون. فأعدوا للأمر المال والرجال، فغلا سعر السوقة وتدلَّلوا حينًا، وخفض لهم الأنصار جناح الذل، وظلوا يداورونهم حتى اشتروا أصواتهم آخذين عليهم العهود والمواثيق، ثم حاموا حول صاحب الرفعة مدير الناحية فرضي بالتي هي أحسن …
لم يكن عزل شيخ في عهد المتصرفية بالأمر الهين، ففكر المدير بحل مريح مربح، فبقي الشيخ في منصبه الرفيع، وعمل من هلال بيكًا. كان موسم التبرع للأسطول العثماني، فتبرع هلال بخمسين ليرة عثمانية إعانة للأسطول الشاهاني المظفر، ونامت المائة والخمسون الباقية عند المدير نومة أهل الكهف، ففتح البيك هلال بيته على مصراعيه: سفرة ممدودة للرائح والجائي، أكل وشرب قهوة وإركيلة وسكاير أكسترا عند البيك، سهرات تارة تكون صامتة تُقضَى بلعب الورق، وحينًا باجتماع القوَّالين يغنون للبيك الطازج، داعين لأفندينا بطول العمر … وهلال ينفق عن سعة، والحوالة في ظهر الحوالة.
هوذا رجال البيك ينصرفون من «الدار» قرب منتصف الليل، ممسِّين جنابه واحدًا واحدًا، وهو يرد كل مساء بأحسن منه، وخصوصًا لمن يودعون جنابه بالبكوية، ويكشر بوجه من يغلط ويقول: خواجا هلال. والويل لمن يقول: هلال فقط.
إلى سعادة قائمقام كسروان المحترم
إن صاحب الدولة مظفر باشا متصرفنا المعظم يشكر أريحية هلال بيك مرهج لتبرعه بخمسين ذهبًا عثمانيًّا، إعانةً لأسطول الدولة العلية، أيَّدها الله، فبلِّغوا المومأ إليه شكر أفندينا، ودمتم محترمين.
وما خرج آخر واحد من السُّمَّار حتى صاح هلال بك: فريدة، هاتي ورقة عن الكنسول، عتم، توقي.
النار لا تزال تثرثر، وإبريق القهوة يبربر، فارتفع الغطاء واندلعت القهوة على الوجاق، فهرولت فريدة، فصاح البيك: على مهلك، كب القهوة خير، ربما جاءنا مكتوب من الوالد، طوَّل، ضاقت يا فريدي.
فصاحت فريدة: وكيف لا تضيق فيك، لو أعطوك مال القارون تبذرقه بيومين، اخبزوا، اطبخوا، حمِّسوا البن، هاتوا السكر، أين الدخان يا فريدي؟ كل مال البرازيل لا يشبعك.
– قلت لك ألف مرة: هذا لا يعنيك، لا تنقي، اعملي إركيلة.
– إركيلة! راح الليل يا معلمي.
– نعم إركيلة، هاتي الورقة.
ونتشها بغضب فما صارت في يده حتى خربش عليها: سيدي الوالد. ولكنه ضرب عليها وكتب: يا بيِّي، وهو يقول: بلا سيدي بلا بطيخ أصفر. ثم بدأ كتابه كالمعتاد: بعد تقبيل أيديكم. ولكنه عاد فخربشها وقال: أنا هناك حتى أقبِّل يده! ما قبَّلتها حتى أقول له ذلك. بحياتك يا ربي ألهمني كيف أكتب حتى تصل البوليصة مثل البرق، انفضحنا، كبَّرنا «الفشخة» فانفسخنا، مؤكد أن أولاد الحرام كتبوا له عن كل شيء، ما تركوا كبيرة ولا صغيرة حتى خبَّروه عنها، وخصوصًا ابن عمي بولص الحسود الكلب، رأى نفسه صغيرة، لا أحد يسأل عنه، مؤكد هو الكاتب لوالدي. تركته رنجه وقالت لأم سليم: بيك مثل هلال أفضل بكثير من فلاح مثل بولص. كان الوالد يبعث الألف خلف الألف، ومنذ سنتين ما بعث بارة، معناتها أنه هناك أرذال يبخون، ركبنا الدين، وإذا تأخر الوالد انفضحنا، كل هذا هين عند حجز حوائج البيت، أو الحبس.
بعد السلام والكلام، أخبرك حصلنا بجاهك وكدِّك على عِزٍّ ما حصل عليه أحد في بلادنا، ولكنه يتدهور إذا لم تعجِّل بإرسال الدراهم، عجِّل، وإلا راحت البكوية طعام القرد، عجِّل، أنا على نار، انقطاع تحاريرك قطع ظهري، ابعث ألف ليرة بالتلكراف حالًا حالًا حالًا حالًا.
ثم أخذ المكتوب وأحرق بجمرة إركيلته زواياه الأربع، ووضعه في مغلف كان أحد التلامذة نسخ له عليه عنوان أبيه، ونام على أمل أن يسلمه في غد إلى ساعي البريد.
نام ومِلءُ رأسه الهواجس، فقضى ليلته تلك بين الغافي والواعي، نام ولكنه لشدة اضطرابه خال أنه لم ينم، فقضى ليلته لا ينتهي له حلم حتى يبدأ آخر. وأفاق مع الصبح فإذا به لا يتذكر إلا واحدًا: رأى أن بئره فارت كالقدر، ولكن لون الماء غير صافٍ، ثم طغى الماء فكاد يطمُّ البيت فاستنجد وصرخ، فإذا بساعي البريد يدق الباب، فقعد في فراشه يفرك عينيه وهو يقول: الله يعطينا خيرك.
فأجاب الساعي بعد السلام والإكرام: كله خير يا جناب البيك، المدير يتغدى عندك يوم الأربعاء.
فوجم هلال، وسترًا لضعفه أجاب بنبرة: أهلًا وسهلًا.
أما فريدة، وكانت تهيئ القهوة للبيك، فصاحت: العمى، ما لهم شغل غير الأكل والشرب، اطبخي وانفخي يا فريدة …
وقال البيك: ومن أميركا؟
فمط الساعي شفتيه، وهز جفنيه وساد السكوت.
وبعد أيام رؤي كهل نحيل أصفر اللون، مرتخي الشاربين، في يده حقيبة أكل الزمان شيئًا من زواياها الأربع، يقطع طريق الضيعة بضعف وتوانٍ، ولا يسأل عن أحد، يقف متأملًا كل شيء.
استغرب الأهالي زيَّه فأطلوا من الأبواب يرون أين يقصد، وأي بيت يدخل، ولم ينزووا في بيوتهم إلا حين دخل بيت هلال بك، فقعدوا يرجمون، هذا يقول: غايته كذا، وذاك: هذا مرسال.
ودخلت واحدة من أولئك النساء المترجلات على المجتمعين وقالت: يا جماعة، إن صدق ظني، هذا أبو هلال.
فصاح بها زوجها: مجنونة أنت! أبو هلال يهز البلاد متى جاء، الله يرد عنا، يد البيك قصيرة ولا يهدأ.
فدقت المرأة يدًا بيد وصاحت بعناد: هذا هو، من يشارط منكم؟
وكان هو، ما عليه غير ثياب عتيقة، وفي يده حقيبة رثة فاضية، أغناه البيش، وأفقرته البورصة.