لا! يا بونا
سمَّوها ست الإخوة لأنها أخت سبعة، كان لها عمة تدللها وترعاها بمقامهم جميعًا، وكلما خطرت أمامها رافقتها بنظرة كلها محبة وقالت: سبحان الخالق، كأنَّها أنا!
وبعد طوفان من النصائح الثمينة، قالت الأم لبنتها تسهيلًا لأمر هذا الزواج، وفكًّا لهذه المشكلة: عوِّدي نفسك عليه.
فضحكت ست الإخوة وقالت: أهو أكلة يا أمي؟
فأجابتها: أي نعم، كل شيء عادة.
وجرَّبت ذلك ست الإخوة فوجدت مرشح أهلها قريبًا أكره منه بعيدًا.
أما عمتها التي تحبها فكانت تنفض طوقها كلما استشارتها وتجيبها: أنت حرة، من يغصبك عليه؟!
ولما أطبقت الكماشة فكيها على ست الإخوة كانت تقف عمتها ست البيت حيالها، وتهم بالكلام ثم تنثني، وكثيرًا ما كانت تدنو منها فتضع يدها على كتفها، وترفع حاجبيها وتكاد تنطق، ثم تعدل ولا تقول شيئًا. وإذا كانت ست الإخوة قاعدة وضعت عمتها يديها على خصرها وانحنت نحوها، ثم تستوي ولا تقول شيئًا.
فقالت البنت لنفسها: حيَّرتني عمتي يا بشر!
وتذكرت يومًا كلمة كان يرددها أبوها كلما اغتاظ من عمتها: قصتها لا تنتهي إلا في القبر. فراحت تبحث عن تلك القصة.
فتجهَّم وجه العمة وقالت: هذي إرادة الله فيَّهْ، تعب ساعة ولا كل ساعة، الله ساعد.
فاستنجدت ست الإخوة بما عندها من دلال وغنج وقالت لعمتها: الله، الله قال لك: ابقي عزبة يا عمتي!
فضحكت ست البيت وقالت: ليتك تقبريني ما أحلاك! ذكرتِني أيام عزي. لا يا حبيبتي، الله ما قال لي لا تتزوجي، ولكن الناس. كل البلاء من الناس.
– لا تضحكي عليَّ … كيف؟ بحياتك فهِّميني، الفخ منصوب قدَّامي.
فتعجب المسكين وقال: والتحليلة؟!
فقلت: لها حلة.
وقعدنا نتفق على خطة … فجنَّ المسكين، وسقط على يدي، فقلت له: اقعد بعيدًا، ما لك حق. وحق القربان الطاهر، ما سمحت له ببوس ذيل فسطان عمتك.»
فقالت ست الإخوة: بحياتك يا عمتي، سمِّي لي إياه.
فضحكت وقالت: اسمه مثل اسم صاحبك: مخايل.
فشهقت ست الإخوة وضربت كفيها على ركبتيها، فقالت العمة: اسمعي، اتفقنا على خطة ما عملتها مرأة قبل عمتك الحقيرة بعيونكم.
– بلى يا عيون عمتك، كل ابن عصر يستصغر من كان قبله.
وسكتت ست البيت هينهة حسبتها بنت أخيها ساعة، وتعلقت عيناها بوجه عمتها فتصورتها بنت ثلاثين، انبثق في وجهها نور جديد كان أشد وضوحًا في عينيها، لم تشأ البنت أن تقطع صمت عمتها.
وتابع الشماس: لأن الرجل رأس المرأة، كما أن المسيح رأس الكنيسة، وكما أن الكنيسة تخضع للمسيح، هكذا فلتخضع النساء لأزواجهن في كل شيء.
وأخذ الخوري يوجه إليَّ النصائح، فقال كما سمعت عدة مرات في الإكليل: وأنت أيتها العروس المباركة قد سمعت ما قلته لزوجك.
فأعجب العمة هذا الثناء وقالت لبنت أخيها: عمتك بنت أخوية، كانت ريسة، لا أحد غيرها من بنات الضيعة كان يقرأ ويكتب، صوت حلو، وتلحين ملائكي يُسكِت الخوري والشمامسة.
والتفت إليَّ الخوري وقال: وأنت أيتها الابنة المؤمنة، ست البيت، أتريدين عبد الله لاوندس هذا، الواقف هنا، زوجًا لك؟ فما جاوبت.
قال البعض: مستحية، مستحية.
وقال غيرهم: قالت نعم، كلِّل يا محترم.
فقال الخوري: ما سمعت، وأعاد السؤال.
فأجبته: لا، يا بونا.
وماجت الخليقة، وكل من معه كلمة قالها. هذا يقول لي: عيب. وهذا يقول: لا تخيبينا يا ست البيت. وأنا مصرة لا أقبل.
فقال الخوري: وأخيرًا يا بنتي؟
فجاوبته: الأخير مثل الأول.
فطار صوابي إذ ذاك وقلت للخوري: اشهد يا محترم، أخذت مخايل بطرس زوجًا لي.
وصرخ مخايل من بين الناس: اشهد يا بونا، أخذت ست البيت زوجةً لي.
وحمي الشر يا بنتي، وجرى الدم …
مسكين هذاك الخوري، كان روح قدس! فشل، ورقصت لحيته على الحبل.
– وأنت ايش عملتِ؟
– أنا ايش عملت؟ كنت حاطة روحي على كفي.
– والزواج؟
– وأخيرًا؟
– وأخيرًا، الكنيسة حليمة، حلَّوا الحرم، وسبقني مخايل إلى أميركا كما اتفقنا، وهناك مرض المسكين بالحمى ومات، ورجعت عمتك من مرسيليا.
سمعتِ قصة عمتك يا بنتي؟ هذي هي.
– معلوم، معلوم، كأن «الصلاة الفرنجية» معمولة لحفظ حرية البنت الضعيفة.
– وإذا كان العمل جائزًا وصحيحًا، فلماذا حرموكم؟
– الزواج صحيح ولكنه غير جائز، وقلَّما يحدث، ويعدُّ تمردًا على ما رسمته أمُّنا الكنيسة المقدسة؛ ولهذا ما استصوب الناس عملي، ولكن أنا رأيته أحسن من تركيب القرون … مسألة الحب طبيعة لا تتطلب فلسفة، والضعيفة فيها بطل، فكيف إذا كانت جبَّارة مثل عمتك؟
المسيح أقام العازار من الموت لأنه كان يحبه، فكيف أقبر قلبي إلى الأبد؟ لي فرد قلب.
سمعتِ قول المثل: «ظلمك خوريك» لا تصدقي، لا الدين ولا الخوري ولا الشرائع تظلم، الحق كله على الأهل، وعلى البنت الجبانة.
قولي لا، واستريحي طول العمر. الناموس ضروري، وإلا صارت الناس مثل البهائم، ولكن الناموس لا يجبر الناس. ايش معنى قولهم: بسمت الله ورسوله؟ أي: بناموس الله. وإذا تعدى الناس على الناموس فالحق عليهم.
صدقيني إذا قلت لك: لا تمر جمعة حتى أبصره في نومي، وهذي أكبر تعزية.
مسكين مخايل! لا تضحكي يا بنتي، الحب المتين لا يموت، وكل فرس لها خيال.
قومي نرجع، اكتمي السر ودبِّري أمورك، البنت من طبعها الحياء، قوِّي قلبك وكبري رأسك، لا تنساقي مثل النعجة … خلاصك في يدك يا إسرائيل.
ولما اشتد الضغط على ست الإخوة دخلت على أبيها الذي ما عاق دفنه إلا بقية نفس تتردد بين الجلد والعظم، وهناك صرَّحت لوالدها بما في نفسها.
فألقى عليها والدها نظرة يأس، ثم اصطكت أسنانه، وقال بصوت كأنه آتٍ من بعيد: البنات من صدور العمات، روحي يا بنتي، الله يستر عليك، نحن في غنى عن «صلاة فرنجية» ثانية … بيتنا معوَّد …