دكان الضيعة
من رأى الخوري يتمشى مستعجلًا ظن أنه يقيس سطح قبوه … زكَّى غيظه وحنقه لون سمرته فصار باذنجانيًّا، يتحدث ويشير كأنه يماشي شخصًا، يسيِّره شعوره الداخلي فتارة يبطئ وطورًا يسرع، ومن رآه تحت أذيال تلك العتمة الرمادية الهابطة على الضيعة رويدًا رويدًا خال أن أحد عمالقة التوراة قد نشر.
وقبل أن يلف الليل القرية بشملته السوداء مرَّ بطرس على الطريق الملازق بيت الخوري، فطار عقل الكاهن حين وقع نظره عليه، فبصق من حيث لا يشعر، وعلت همهمته وحثَّ مطيتيه كأنه رائح إلى دفن ويخاف أن تفوته الصلاة وما يليها … ثم انفجر يقول: دكان بطرس خرب الضيعة، كنا بألف خير قبل هذا الدكان، عوَّد الناس على الشرب ولعب الورق، فهجروا الحقول، الكروم وبساتين الزيتون والتين أكلها الشوك والعليق، الأرض كلها بور، قندول وبلان، كانت الضيعة تبيع من كل الأصناف، فصرنا لا زرع ولا ضرع.
حنا طنوس كان يطبخ قنطار تين ويبيع قنطارين وأكثر، واليوم اشتهى أولاده قشرة التين، ومن أين يأتي التين؟! الأرض إن أطعمتها تطعمك، وإذا دينتها توفيك القرش عشرين، ولكن الذي كان يدينها راح، وترك أولاده غارقين في دكان بطرس، لا شغل ولا عمل، شغلهم القمار وشرب بيرة وعرق.
وأخذ يفتش عن أسماء المشروبات الحديثة فما دار على لسانه اسم واحد من أسمائها، فانتفض وأشار بيده إشارة غضب وقال: مشروبات غريبة ما لها دين ولا مذهب، ما عاد يعجبهم النبيذ والعرق، ولكن الشرب هين عند القمار … يا عضرا نجينا، تدرجوا من لعب المنقلة والداما والطاولة إلى لعب الورق، ومن لعب الورق إلى القمار، متى كان الإنسان يبيع الطنجرة؟ جرجس بن حنا طنوس باع الطنجرة حتى يقامر، يا خراب الضيعة!
ضيعتك تخرب قدام عينك، يا خوري يوسف، وأنت واقف قبالها مثل الخيال؟! لا لا لا لا، وبِّخ وأنِّب ولا يهيننك أحد كما قال بولس الرسول.
يعلم الله أنَّا ما قصرنا، ولكن على من تقرأ زبورك يا داود؟ ناس مثل الحيطان، إذا لم نسكِّر دكان بطرس راحت الضيعة، وعلى الشرف والطهارة ألف سلام.
بنات ونسوان، شباب ورجال في دكان بطرس الملعون، يقابلهم بضحكته الشيطانية، يتدحرج بينهم مثل البرميل، كرشه قاعد قدَّامه كأنه في الشهر التاسع. لعنة الله على هاتيك السحنة الملعونة! المنافق يعمل حاله مثل المهرج ويضحك على ذقون الناس، والناس حمير لا ينقصهم إلا الذَّنَب. كان أفقر واحد في الضيعة فصارت الليرات معه مثل التراب، تعجبك ضحكته عندما يزوي هاتيك العين الحولاء … الشيطان بذاته.
وكانت زوجة الخوري تتنصَّت ولكنها لا تسمع إلَّا كلمات متقاطعة، ما فهمت منها إلا ما دلها على أنه يتكلم عن بطرس ودكانه، وبطرس عزيز على الجميع، ودكانه ملتقى الخلان … يحول عينه الحولاء صوب الجيوب، وليفعل الناس في دكانه ما شاءُوا، فهو غير قيِّم على الأخلاق، لا يعنيه إلا أن يبيع ويقبض.
وتقدمت زوجة الخوري منه وقالت: نسيت حالك يا خوري، نحن في كانون، الطقس بارد.
فكزَّ المحترم وقال: ما عليكِ، الطقس بارد، وأنا حامي.
فقالت في نفسها: الله يطفيك. ثم قالت له بعطف: اقعد، تدفَّأ واحكِ، من يعارضك.
ودخل الخوري، وقبل أن يقعد انتفض رافعًا رأسه ويديه نحو السماء، فلاحت أصابعه كالمدرى وانتفشت لحيته كالبلَّانة وصاح: غضب الله، من فوق، ينزل عليك يا بطرس، خربت الضيعة. سألني الوعاظ عن دكان بطرس فنكرت الحناء وأثرها محافظة على سمعة الضيعة، أما الآن فغير ممكن أن أسكت.
– اسمع مني يا خوري، ما لك وما لهم، كلهم من حزب بطرس، يدَّين هذا، ويقرض هذاك، ولولا نفوذه ما عينوه أمس مختارًا، وما سألوا عن أحد، هذا شر، ما لك وما له.
– اسكتي يا خورية، لا تشوري، هذا شغلي، هذا واجب كهنوتي ديني، من يحمل عني خطيتي يوم الدين؟ أنت يا حرمة؟! وأنت كم مرة قلت لك: لا تدخلي دكان بطرس، لا تشتري شيئًا من عنده، كوني مثلًا صالحًا، لا توصلي موسى بطرس إلى لحيتي؟ سمعتي؟
– ايش بك الليلة يا خوري؟ نحن يجب أن نكون لعموم الضيعة.
– هذا مطلوب من الخوري لا الخورية، الخوري يكون للعموم، فهمت؟ الآن أقدم عريضة لسيدنا البطرك التمس فيها «الحرم» لبطرس ومن يدخل دكانه، القمار ممنوع دينيًّا.
– ليس هذا من رأيي يا خوري، اسمع مني، لا تتعب نفسك وتقلق الضيعة.
– من سألك عن رأيك حتى تقولي ليس هذا من رأيي؟ كان يقع في «الصينية» أيام الآحاد لا أقل من مائة قرش، فصارت لا تجمع إلا عشرة قروش. كانت «صينية» عيد الميلاد تجمع خمسمائة قرش، البارحة ما جمعت إلا أربعين، أكل البيضة وقشرتها ابن الحرام. القرش الذي كان يحطه الولد في الصينية صار يشتري به علكة من دكان بطرس، أنا ساكت، ولكن كيف أسكت عن القمار؟ من يسرق فسطان أمه ويبيعه؟ ابن رشدان باع فسطان أمه المخمل في البترون ولعب بحقه، يا خزيتنا ويا هتيكتنا!
قومي هاتي الدوا.
فترددت الخورية وأخذت تتفرس في وجه الخوري، فصاح بها: ما عرفتيني بعد؟! أنا خوري يوسف.
– ايش بك الليلة.
– قومي قلت لك.
وقدمت له الدواة ولفيفة الورق الطويل العريض، فنشر واحدة منها وانكب يكتب لصاحب الغبطة.
وتحلحلت الخورية فصاح الخوري: إلى أين؟ إلى الدكان إن شاء الله.
فقالت الخورية: حس عياط. فقال الخوري: وماذا نسمع بعد اليوم غير العياط، القلة تورث النقار يا خورية، قولي لي ما لك وما لهم.
حرق أنيابه فأسمع صريف القعو بالمسد، وأخذ يقرأ ما يكتب: فيا سيدنا الكلي الطوبى، إن هذا الدكان جهنم أرضية، فإذا لم ترشقوا صاحبه بالحرم الكبير راحت الفضيلة وطار الدين، نصير مثل البهائم، لا بل البهائم خير منا، البهيمة لا تقامر على غداها وعشاها، أما أولاد ضيعتنا فصاروا يقامرون على كل شيء، ولا يستبعد أن يسرقوا أواني الكنيسة الفضية والذهبية ليقامروا.
وكانت الخورية تسمع وتتمرمر، وخبرت أخاها القادم من الدكان عما نوى عليه زوجها فقال لها: اتركيه يعمل مثلما يريد، الحالة لا تطاق يا أختي، سمعتِ العياط طبعًا، سَكِر خليل وجرمانوس وكان ختام السكرة ضربة سكين.
فصاحت الخورية: ضربة سكين!
فقال أخوها: نعم، نعم، وقريبًا يلعب الرصاص، اتركي الخوري.
فقالت الخورية: وماذا عمل بطرس؟
فأجاب أخوها: بطرس مشغول باله، خبرته امرأته أن ابن غاريوس أخذ ثلاثة رجال يعرفهم من الدكان وغدَّاهم في بيته، فقامت قيامته عليه؛ لأنه خسَّره بضعة قروش.
فرقصت لحية الخوري غضبًا وأخذ يشد على مغلف العريضة البطريركية وهو يلصقه، كأنه يشد على رقبة بطرس الغليظة ويقول: هذا النوري يريد أن يمحو صيت الضيعة وكرمها، يريد أن يحرم الضيافة ابن الكلب حتى يربح قرشين ثلاثة، ومتى رحنا إلى القرى والضياع من يطعمنا إذا عرفوا أننا نبيع الغرباء الخبز والبيض والزيتون؟ الله يقصف عمره ما أرداه!
ثم التفت بالخورية وقال متهزئًا: قولي لي بعد: لا تطلب «الحرم».
هذا لا يكفُّ شرَّه عن الضيعة غير «الحرم». عندما ينقطع الناس عن المعاطاة معه وتقف حركة دكانه يتربَّى.
فقالت الخورية: ومن يسأل عن «الحرم» اليوم؟ الذين كان يخوفهم «الحرم» ما بقي منهم أحد.
فمدَّ الخوري يده إلى حذائه القريب منه، فحنت الخورية رأسها لتتقي الضربة، ولكن المحترم لم يفعل توقيرًا لأخيها، فقال الأخ للخورية: لا تقولي مثل هذا الكلام يا أختي، نسيتِ أنك أنت خورية؟
فصاح الخوري: تغيرت أختك يا سلوم، دائمًا تعارض وأنا صابر.
وبينا هم في هذا الحديث جاء أحد الآباء يشكو ولده الذي يسرق كل ما تصل يده إليه، ويقايض عليه في الدكان إذا لم يكن معه دراهم.
فصاح الخوري: هه، قولوا لي بعد: لا تحرمه.
وما سمع الشيخ كلمة «الحرم» حتى وقع على يدي الخوري يقبِّلهما، ثم أخذ يبحث عن رجله المتحصنة تحت ذيل جُبَّته ليقبِّلها أيضًا، فنبح الكلب وهجم، فزجره الخوري، فعاد إلى مقعده، ولم تنقطع موسيقى هريره.
وقال الخوري للرجل: قل لهذه المجنونة بنت عمك، خبرها أن الحرم هو لعنة الله، ومن تحل عليه مصيره الخراب والهلاك إذا لم يصلح سيرته الفاسدة.
وبينا هم يتحدثون عن ويلات الدكان علا الصياح، وهرع بعضهم إلى بيت الخوري يسألونه الإسراع للحجز بين العائلتين الملتحمتين بسبب ضربة السكين.
فقال الخوري لفتى من ذوي قرباه كان عنده: البس ثيابك، واغدُ علي لتأخذ مكتوبًا إلى بكركي.
قال هذا وهو يشد حذاءه، ثم توجه إلى حيث المتشاجرون، وبعدما حسم الخلاف قال لبطرس وهو عائد إلى بيته: ما قلت لك يا بطرس لا تسقِ أحدًا في دكانك؟ ما قلت لك لعب القمار يخرب الضيعة؟
ولما جاء الأحد كان الحرم في عب الخوري، فتلاه على مسامع رعيته بعد قراءة الإنجيل، فهدر الشباب وهمهم الشيوخ، وأراد بطرس أن يحتجَّ فأسكته عتل من جماعة الخوري، فانسحب من القداس وقعد قدَّام دكانه يبتهر، فقال له أحد العقلاء: لا تهد ولا تقد، «الحرم» على القمار والسكر يا بطرس، فلا تقع ولا توقع الناس.
وهدأت الرِّجْل أيامًا، وانكف الكثيرون عن ارتياد الدكان حتى أفاق الناس ليلًا على صياح بطرس واستغاثته: احترق الدكان!
وكثر القيل والقال، قال فريق: هذا الحرم. وقال آخرون: الحرم لا يحرق البيوت ولكنه يضرُّ بالشخص. أما الخوري فاحتار في حل هذه المشكلة، وهو يعرف قصصًا كثيرة عن مفاعيل الحرم، إما أن يحرق دكانًا وكل ما فيه من بضاعة فهذا كثير.
وبعد كدِّ ذهنٍ واجتهادٍ عنيفين وصل أخيرًا إلى هذا الحل الوسط: إن لم يكن هذا الحادث من مفاعيل الحرم فهو دون شك من تأثيره؛ فالله لا يترك دينه، إنه ينجده من وقت إلى آخر ليعتبر البشر.
ونام مطمئنًّا إلى هذا الظفر، وقبل أن يغطي رأسه بلحافه قال للخورية: كيف رأيت «الحرم» يا خورية؟
فقالت: يحرق بيوت الناس … وبصوت لا يُسمَع: ويروي غليل الخوري …
وظل الخوري والناس مشغولين بتعليل هذه الأعجوبة، حتى كان بعد ظهر السبت، فقرع الخوري الجرس وأقبلت الرعيَّة على الاعتراف، وفي طليعتهم حنينة زوجة بطرس صاحب الدكان.
وبعد أخذٍ وردٍّ اعترفت حنينة للخوري بأنها هي التي أشعلت النار في الدكان، فعجب الخوري وصاح: أوه! أنت حرقت دكانك يا بنتي؟ هذي من يعملها غير المجانين.
فأجابت حنينة: أحسن من أن يحترق قلبي وقلبك … حلني يا بونا.