الناطور
حنا ديب من بيت حطَّ عليه الدهر، ولد في عليَّة تسامي الكنيسة وتنظر إليها شزرًا، أكل جده ديب حصرم الوجاهة فضرس والده، باع توته وزيتونه وكرمه وتينه حتى العلية، ولم يترك لابنه حنا غصنًا يقع عليه الطير، فشب حنا واكتهل في قبو جاثم على كتف «الوطا»، تلك البطحاء الواسعة اللابسة من ورق الزيتون ثوبًا لا يبلى، إذا سرَّحت فيها نظرك من قدام قبو حنا تخالها مظلات جيش مرابط في ذلك الغور، ترتفع بينها شجرات عفص وسنديان وبطم ركبها العريش فبدت كأنها عذارى دوار في ملاء مذيَّل. على حفافي هذا المنخفض المنبسط تنوء الأشجار المثمرة بأعبائها، وفي وسطه طريق عام يربط ثغور لبنان: صيدا وبيروت وجونيه وجبيل؛ بقصباته المشهورة: دوما وبشري وإهدن. كان ذلك يوم كان لبنان منيعًا لم تهتك حرمته الوعرة طريق الدواليب، فقلما خلا ليل من قفل مكارين تلطف أجراس بغاله وجلاجلها وحشة الليل.
كثيرًا ما كان يسمع الناس عياط المكارين: يا حنا، ما عندك ماء تسقينا؟ وكان حنا يهتز للسقيا، على قلة الماء في القرية وبعد البئر عن قبوه، فكان لا يمسي إلا وجرته ملآنة استعدادًا للطوارئ، وهو ابن بيت أطعم بسخاء، فكيف لا يسقي؟ والماء لا يكلفه إلا قليلًا من التعب. فعند كل غروب شمس كان يُرَى منتصبًا كالبرج فوق أرجاء بئر الدرب أو بئر الدكان يملأ جرَّته «البغَّالية»، ثم يحملها بيده اليمنى دون أن تنطوي قامته الشامخة. وإذا التقى بأحد، وهو على حاله تلك، ينبسط وجهه تجملًا، ولكنه لا يبتسم ولا يضحك.
إن رؤية بيت دبَّ فيه ثم هجره ابن خمس كانت تؤلمه جدًّا، وكيف يتحامى ذلك، والآبار كلها حول الكنيسة أو قربها، وهو محتاج إلى الماء؟ لا بد إذن من النظر إلى عِليَّة بيت الكريدي وتذكر أيام عزِّه في الطفولة. ومع أن حنا مُشتهٍ العضَّةَ بالرغيف كان يتجمل ويُرِي الناس أنه بألف خير شبعان مكفيٌّ مثلهم، بل كان يفوقهم بأَنَفةٍ يدل عليها شمم طبيعي في هيكله المتناسب بدانة وطولًا. كان في خده صعر لا يستقيم، وكبرياء موروثة، إذا دخل بيتًا ولم تُبسَط له طرَّاحة أو مسند على الأقل يظل واقفًا، ثم يلوذ بعذر وينصرف. عرف الناس هذه الخصلة فيه، فإذا رغبوا في مسامرته، أو كانوا في حاجة إلى «شريك» في لعب الورق، مدُّوا له الطراحة والمسند، فيقعد بطل لعبة «الداكا» وتُختَم السهرة بأكل الجوز والتين اليابس والزبيب.
كان لحنا شاربان معتدلان، لونهما خروبي كجلدة وجهه، يركزهما حين يؤاتيه «الورق»، وإذا خانه الحظ حك نقرة في ذقنه، ومتى غُلب يصعد الدم إلى وجهه فيسوَدُّ، ثم لا يلبث أن ينقلب إلى وكره، فيستقبله كلبه غبار محييًا بذنَبه، مقبِّلًا بملء شدقيه، حتى إذا سمع حِسَّ إنسان أو حيوان وقف على حائط المصطبة قدام باب القبو وطفق ينبح، ولا يزال يهر حتى يبتعد الحس أو ينقطع، فيعود ليقعد حد صاحبه الذي يربت له على ظهره مثنيًا على نخوته.
كان حنا يحدِّث كلبه كأنه بشر، وكثيرًا ما كان الكلب يفهم عنه. وهذا الكلب أنوف عفيف، فيه كثير من أخلاق صاحبه، لا يطوف على الأبواب كرعاع الكلاب، ربَّاه حنا على عزة النفس والأنفة، فهو لا يتبذل ويلحق بصاحبه في الضيعة، وإن كان لا يتركه في البرية، يظل مع ابن خاله الحمار يتداعبان، وإذا غاب حنا وحماره، ينطر غبار القبو ولا يبرحه.
وكان خلاف على الناطور، فانشقت الضيعة حزبين، حزب يؤيِّد الناطور السابق، وحزب لا يريده، فسعى محبُّو السلامة في فض الخلاف، فلم يقعوا على شخص يرضى عنه الجميع، فقال الخوري: حنا، يا أولادي، هذا رجل طيِّب أمين، بيته على كتف «الوطا» ولا يملك عريشة ولا زيتونة، وما قال أحد إنه قطف عنقود عنب، أو حبة زيتون. ضيعتنا تحتاج إلى ناطور أمين، صاحب ذمة مثل حنا.
وفوتح حنا بذلك فأجاب: الدهر يجور على السلاطين، الحاجة لا تصيِّر ابن ديب الكريدي كلب الضيعة، لا لا لا.
قال حنا هذا ورفع يده بإباء، فوقف كلبه على سلاحه، وازداد حنا حدَّةً فهرَّ الكلب، فاضطر حنا أن يبتسم له حتى يسكت.
وبعد مساعٍ عنيفة قَبِل حنا عصا النطارة وأظهر عبقرية عجيبة. كان بخلاف النواطير صامتًا فلا يعرف أحد أين يكون، إن خراج القرية ذو التواءات، والوطا مشتبك الأشجار، ولكن صمت حنا ذلَّل هذه المصاعب كلها وهابه الذين يعبثون بالأرض. أما كلبه غبار، رفيقه الدائم، فكان يلزم الصمت حين يأمره حنا بذلك، وكثيرًا ما كان يستنيبه فيرسله وراء خروف ضال أو عنزة شاردة، فيسوقهما أمامه ويجيء بهما إليه، فيأخذ حنا الضريبة المفروضة له على كل رأس.
وظل حنا في وظيفته هذه عشر سنوات لم يلطخ اسمه بشهادة زور أو سوء أمانة. وفي أيام المواسم حين كان يخشى غزو الثمار، كان لا ينام إلا غرارًا، يرابط كل ليلة في مخرم فيصون الكروم والإجاص والسفرجل، ولا يستريح باله حتى يتم قطاف الزيتون. وفي ذلك الحين يتبرع له الفلاح الوسط برطلين ثلاثة حلوان سهره وتعبه، أما الملاك الكبير فلا يعطيه أقل من خمسة، وبعضهم كان يعطيه عشرة.
وفي أحد أيام الشتاء انتصب حنا كالمارد على شرف من صخور شير الكروم ليشمل بنظره خراج مملكته، قلب رأسه صوب كسارة العين، والفتاح والبيَّاضة، فما رأى بهيمة في غير موضعها، فتطاول لسطوته التي أمست تغنيه عن اللف والدوران والوقوف بالمرصاد. نعم، ليس كانون كشهر أيلول حين تكون المئُونة على العود، فاليد في الصيف ممدودة، ولكن متى كانت الحال هكذا؟ لا معازة ولا بقارة، ولا قطع إحراج. أعجبت حنا نفسه كثيرًا وشكر ربه على هذه النعمة، ورفع يديه ابتهالًا وحمدًا، فإذا بالصخر يزحل من تحته، وظلا منحدرين معًا حتى استقرَّا على شفير النهر.
وكان في الجبل المناوح معَّاز يرعى قطعيه فصاح: راح طعام القرد، الله يسهِّل … الله يسهل، استراحت المعازة والبقارة. ولكن حنا نهض وأخذ ينفض ذيل شرواله ويمسح يديه المقلوقتين، ثم طلع في الجبل يفتش عن عصاه وطربوشه المغربي. كان طربوشه عالقًا في رأس شجرة زعرور فتسلقها وأخذه، أما عصا الرعاية فلم يجدها، فعاد إلى البيت على أمل أن يعود ويفتش عنها في غد.
وما بلغ الرامية، وهي ساحة عمومية تحت بيته، حتى خفَّ كلبه غبار إلى استقباله، يبصبص بذَنَبه، ويرتمي على صاحبه كأنه فرح بنجاته.
ونام حنا تلك الليلة، ولكن أفكاره لم تنم، طفق يحاسب نفسه فقال: خطية مَنْ برقبتي؟ والله العظيم ما اتهمت أحدًا زورًا، ما حكمت على أحد بتخريب إلا بعدما رأيته بهذه العين التي يأكلها الدود، فما هو ذنبي إذن حتى وقعت هذه الوقعة؟
وبعد أخذٍ وردٍّ طويلين استخلص من الحادث الجلل أن الله راضٍ عنه، والبرهان نجاته، فلو سقط طير سقطتَه ما سلم. وكان آخر سهم رماه في فضاء التخمين قوله: لو كنت مت كانوا قالوا: مستاهل، رجل ظالم. أنا ما ظلمت، ولكني وقَّفت الناس عند حدهم، نشكر الله.
وأيقن البقارة أن لن يغدو حنا إلى النطارة كعادته، فسرحت أنعامهم في الأرض المحمية، فإذا به يفاجئهم ويدحرهم إلى الأرض البور.
وجاء أول السنة المارتيَّة التي كانت تؤرخ بها الدولة العثمانية، فاتفقت كلمة الضيعة على تجديد ولاية حنا فظلت عصا النطارة في يده، وفتش الناس عن مشكلة أخرى تغذي حزبيتهم.
وفي صباح يوم من أيام الربيع، استيقظت الضيعة على دقات حزن فهلعوا، ولما علموا أن الميت هو حنا خف الجزع. وقع في حفرة قدام بابه لا يزيد علوها عن قامة فانتُشِل منها ميتًا، وكان الحزن عليه خفيفًا؛ لأنه خاتمة أسرته فكاد أن يكون مأتمه صامتًا لولا بناته. أما زوجته فكانت تبكي على مهل، لم يمش أمام جثمانه غير كاهن واحد هو خوري الضيعة، وكان ترتيله نيئًا؛ لأن لا مسعف له، فحنا كما عرفناه لا يملك مالًا فيُنعَى إلى قرى عديدة.
مشت القرية كلها في جنازته شاعرة أن رجلًا من الطيبين مات، لم يتفجعوا عليه ولم يبكوه، ولكنهم قدروا أمانته بصمتهم.
وكان كلبه غبار في عداد المشيعين، يمشي من عن يمين التابوت كئيبًا حزينًا. أثَّر منظر هذا الكلب الوفي في المؤاجرين فكانوا ينظرون إليه باعتبار وتقدير حتى قال أحد ظرفائهم: هذا الكلب أحق بالتعزية من زوجة حنا …
أما الصغار فكانوا يداعبونه، ولكنه يجدُّ، فيتركونه وشأنه.
وعاد الناس عند الظهر نافضين أيديهم من تراب الفقيد، ما عدا الكلب فإنه نام على التراب المهال على باب القبر، كان يشق عينيه إذا ناداه من مرَّ باسمه، ثم يغرق في كآبته العميقة.
وعند الصباح رأى الناس التراب منبوشًا، والكلب قد لفظ أنفاسه فيما حفر، فجرُّوه من المنطقة المكرسة. وظلوا عامًا يتحدثون عن وفاء غبار ويخلقون لموته أسبابًا وعللًا.
أما القول الفصل فكان حين فُتِح باب قبر حنا، بعد سنة ونصف، بوجه ضيف جديد، رأوا أشلاء حنا مبعثرة خارج تابوته، فعلموا أن «غبار» مات حزنًا وجزعًا على صاحبه إذ لم يستطع إنقاذه.