الجنون فنون
عرفته يوم كنت في أسكلة جبيل، وإني لأضحك من نفسي كلما تذكرتُ كيف تهيَّبت صمته وسمته يوم اجتمعت به. عرفته — أول مرة — في سهرة عند أحد أبناء عمومته فرأيت عجبًا: صدرًا عريضًا نافرًا كالترس، ورأسًا كالبطيخة كأنه وُدِعَ موقتًا بين كتفيه الناشزتين، تندلق تحت ذقنه غدَّة تخفي رقبته القصيرة، عينان تبصان فوق أنف صغير بالقياس إلى ذلك الوجه المفرطح.
راعني صمته فحسبت له حسابًا، وأخذت ألملم أطراف حديثي وأزن كلماتي، أحكي وعيني معلقة بوجهه، أنتظر كلمة من فيه لأعرف زيادته أو نقصه كما علمني العم زهير، ولكن إبراهيم لا يتكلم.
وانصرفنا وصاحبنا ما فرَّط بشيء من وقاره، فقلت لرفيقي في طريقنا إلى البيت: حقًّا الصمت زين.
فقال: تعني صمت الشيخ إبراهيم؟ هذا رجل مجنون عاقل.
قلت: مجنون عاقل! هذا فوق علمي، فسِّر، حفظ الله عقلي وعقلك.
فأجاب: تقول الناس إنه مجنون، ويقول هو: الناس مجانين، لا يفهمون عنه. يتحدث غالبًا كالمجانين، وأحيانًا كالعقال.
فقلت لرفيقي: شوَّقتني إلى حديثه. فقال: إن نطق أبو الهول تسمع من القصص والأحاديث ما يموِّنك شهرًا.
عند السلطان عبد الحميد مليون ونصف ليرة.
عند الإمبراطور غليوم خمسة ملايين.
عند المسيو لوبه مليونان.
عند قيصر روسيا سبعة ملايين.
عند والي بيروت ٣٠٠ ألف ليرة.
وهناك أرقام غير هذه لا تعد ولا تحصى، لم يسعها دفتر إبراهيم فاستعان بحيطان بيته، كان كلما سمع باسم ملك أو عظيم نزَّل اسمه في سجله وحيطانه.
حدثني إبراهيم عن علاقته المالية مع بيت روتشلد حديث واثق جاد، قال: إنها بلغت المائة من الملايين، الجماعة أمناء، ولكن حلاوة المعاملة أخذ وعطاء.
فقلت له: ديِّن أهل بلدك، الغريب يتعبك.
فتنفس كالقنفذ وحملق، فالتفتُّ لأرى أين أنا من الباب، ولكن ضحكةً بلهاءَ أطلت على أثر ذاك الهيجان أمَّنتني، ولا سيما حين قال: أنا مجنون؟! من يديِّن مجانين، أنا أديِّن مائة ليرة ومائتين؟ أنا لا ألعب بهذه المبالغ الصغيرة. البارحة سلَّمت البنك العسملي عشرين مليونًا، كنت أديِّن مبالغ صغيرة، ولكني صرفت الكتَّاب واسترحت من بلادتهم، نوم للظهر، طق حنك في المكاتب، شرب قهوة وتدخين. خربوا بيت الشيخ إبراهيم، الله يخرب عمرهم.
ورأى من شباكه المطل على الطريق غنَّامًا يسوق قطيعًا صوب بيروت فنهض وقال: أستأذن، هذا القطيع لي جمعة منتظر، لا بد من مرافقته إلى نهر إبراهيم.
فقلت: أرافقك إذا أمرت.
فضحك وصاح: هذا كلام من يعرف قيمة البشر، تفضَّل، أهلًا وسهلًا، نشكر الله حظينا بواحدٍ عاقل، أهل بلدنا كلهم مجانين، يضحكون عليَّ؛ لأني أرافق غنمي إلى قرب النهر، بحياتك قل لي من يسيب رزقه؟
وبعد أن قطعنا ميلًا قلت له: رعيانك أمناء، والشمس على الغياب، فما قولك في رجعتنا؟
فقال: لا بأس، عددت الغنم ثلاثمائة راس، أنا في التجارة أسلِّم تسليمَ أعمى.
وبعد أن زوَّد الرعاة بنصائحه الثمينة وودعهم قال لي: معك سيكارة؟ قلت: نعم، لا تؤاخذني يا شيخ، ظننت أنك لا تدخن.
فقال: ظنك في محله، ولكن أحيانًا يضيق صدري، أنا مهموم.
– أنت مهموم! الملوك والسلاطين مديونة لك ويضيق صدرك؟ ايش خليت للفقراء والمساكين يا شيخ إبراهيم؟
فهمهم وغمغم، فقلت له: لا بد لك من حرمة، تزوَّج تنفرج همومك.
فقهقه، وألقى على كتفي يدًا كالمهدَّة، فسمَّرني على قارعة الطريق، وقال: طفت الدنيا وما لقيت واحدة ملائمة، أنت تعرف بنات البلد، عاشرتنا أربع خمس سنين، اسمع أعد لك، وكدبني إذا قدرت.
«أسمى» قامتها طويلة، طلعة مثل البدر، تلميذة الراهبات، تفهم من الإشارة، ولكن يا حينها لولا عينها، شرسة، كلامها نبر مثل رشق الحجارة.
و«مَي» بنت أصل، جمال ومال، أنا صاحب ملايين ومهما زاد الخير نفع، ولكنها متكبرة تحتقر البشر، نظرت بعينك كيف سلمت بتواضع على الرعيان وسألتهم عن أحوالهم، إذا أنا ما حاسنتهم وجاملتهم يسرقوني … وواحدة مثلها لا تطيق الراعي يخش في البيت.
و«سلمى» دينها ومعبودها دفاتر الموَض الجديدة، تسأل مأمور البوسطة عنها كل يوم، حديثها وشغلها البيزيك والباصرة، وأنا مشغول مع المديونين وكلهم ملوك وسلاطين.
و«جوزفين» حلوة جدًّا ولكنها تقامر، بطيَّر التركة إذا استولت عليها بعدي.
– العمر الطويل يا شيخ براهين.
– وعمرك يطول، تدك بيرا ووسكي حتى تنتفخ، فما رأيك ببيت صاحب ملايين مثلي يصير قهوة للرائح والجائي؟
وحملق بي وقال: ربما قلت لي خذ «سنية»، آه من «سنية»! كنت فكرت فيها، ولكن نفرت منها بعدما سمعتها تسب إخوتها، وتلعن أمها، وتظل معبسة بوجه أهل بيتها، مع أنها تبتسم لعابر الطريق، لا شك أنها تعاملني كأهلها متى رفعنا الكلفة.
و«مرتا» كسلانة لا تفيق إلا قرب الظهر، ثم يمضي النهار بين غسل وجه، وضفر شعر، ونتف حواجب. الشغل عندها عيب، إذا عملت فنجان قهوة تذمرت وقالت: تقبر القهوة ما أثقل دمها. بحياتك خبرني أين تصير الملايين إذا تزوجت واحدة مثلها؟ أكثر المديونين عدوُّهم الدفع، ومن يقيم دعوى على سلطان وإمبراطور؟! قل لي.
– لماذا ديَّنتهم؟
– ديَّنتهم يا سيدي، علقنا. سماعِ أَكفِّ لك، و«بهية» زرناها فقعدنا على كرسي مخمل عليه شبر غبار، بيتها منبوش مثل شعرها، شعر جنِّية، ثياب موسخة، فما يصير بحال الشيخ براهين إذا أخذها؟
انظر ترتيب ثيابي ونظافتي … كيف … هكذا يكون صاحب الملايين.
و«هيلانة» لسانها مثل المبرد، شغلها الحكي في قفا الناس، رفيقاتها عدوَّاتها، حمارة متفلسفة، قالت: إبراهيم من يأخذه؟! نسيت المجنونة أن إبراهيم تلميذ عينطورة، يحكي الفرنساوي مثل البلبل: ناسبا موسيو؟ بارول دونور جاتيه لابرميه دان ما كلاس. جميلة هيلين لو ما تكون مدعية متعجرفة.
و«سعدى» وقحة، متفرنجة لا تنطق إلا بالسب واللعنات، تصرف فوق طاقة أهلها، تضرب الخادمة كما تضرب الحيوان، هذي من يقاربها يا شيخ؟
قلت: لا أحد.
فقال: إذن الحق معي.
قلت: معلوم، مؤكد، أما …
فانتفض وقال: بلا أمَّا، وبلا ممَّا، سماعِ ما كفَّيت بعد: و«ليلى» جاهلة ومن يقنعها أنها جاهلة؟ كل دخل إخوتها لا يكفيها ثمن بودرة وحمرة.
و«جميلة» لا تعرف شيئًا من أمور البيت، غريبة عن أورشليم، تستعين ببنات الجيران على تفصيل قميص، وترقيع صديرية، وإذا كانت لا تحسن تدبير نفسها فكيف تدير بيت صاحب ملايين؟
وأخيرًا تنهد تنهيدة بقرة وقال: ما بقي إلا «المحروسة»، عرفتها طبعًا، آه! هذي كانت موافقة جدًّا، ولكنها تكبَّرت علينا، عرفَتْ أني أحبها من كل قلبي فتدلَّلت. قالوا لي إنها جنَّت، مسكينة! تمر أغلب الأحيان على الطريق فينسلخ لها قلبي، صارت تهرب من الناس، ما صدقت حتى رأيت بعيني.
والتفتَ فرآها فقال لي: انظر، هذي هي، تأمَّل كيف مالت عن الدرب، حقيقةً إن الإنسان متى فقد عقله صار كَلَا شيء.
فقلت: والديون يا إبراهيم، متى تحصِّلها؟
فقال: أمس طالبت السلطان عبد الحميد مطالبة مرَّة، خوفوني من حالته المالية، يفرجها الله يا شيخ، ملايين كثيرة.
وكان في الأسكلة مجنونة اسمها «حلا» يشتد جنونها على الهلَّة، فقال لي إبراهيم: سماعِ صريخها، هذي حلا، مسكينة! جننها واحد اسمه مرقص. يا حلا، سدي بوزك، خمَّنتِ أنك وحدك مجنونة؟
وهمَّ بالعود إلى حديث النساء فإذا بأربعين خمسين رأسًا من البقر تساق صوب بيروت فقال: هذي البقر لي.
ووقف يحدث أصحابها، ويوصيهم بالصبر على البيع ليحصلوا على أحسن الأسعار: توقوا أولاد الحرام، خذوا، هذي توصية لوالي بيروت خليل بك، كتبت له أن يعطيكم عشرة آلاف ليرة، قيِّدوها له على الحساب.
ونظرت لأرى كيف يكون كتاب التوصية عنده، فإذا به لم يعطهم شيئًا.
– اشتروا البضاعة اللازمة لحمص وحماة، برجوعكم نحاسبكم ونكرمكم …
والتفت إليَّ وقال: في الحركة بركة.
وارتعد إبراهيم فجأة فروَّعني، اهتز عضوًا عضوًا كمن ركبته الحمَّى النافضة، وكان يصحب تلك الرجفة اهتزازات كالموسيقى الموقعة، ولَّدها اصطكاك أسنانه وهمهمته، فتركته وفررت خائفًا مذعورًا، وما ابتعدت عنه قليلًا حتى انقطع ذلك الإيقاع، فالتفتُّ فرأيته مهرولًا ليلحق بأبقاره.