ميلاد
– الضغط يولِّد الانفجار، انفجرتُ يا جماعة.
ثم قال يقلد صوت أمه: ميلاد، بحياتك، تملِّي الجرة. وبعد سكتة كأنها تفكير انتفض وصاح: ما بقي إلا يا ميلاد كنِّس البيت، يا ميلاد غسِّل الصحون، يا ميلاد غسِّل الثياب، يا ميلاد اعجن، ويا ميلاد اخبز … وأين الموت يا هو؟ ما عندي دقيقة أحك رأسي.
فتضاحكت أخته فروسينا، فانفجر غضبه وكشَّر عن نابه متهددًا فتضاحكت وقالت له: الذي يسمعك تحكي يقول إنك خوري مرقص غرقان بين كتب اللاهوت والسرياني حتى ينسى غداه وعشاه. هذا شغل الفلاحين مثلنا يا عيوني، أنا قاعدة، وأين أمك؟ وأين أبوك وإخوتك؟ كلهم في الشغل.
وقع هذا الحديث في أذنَيْ الوالدة، فألقت عن كتفها حملة الحطب، ووقفت تتنصت، ثم دخلت وهي تتكلف الابتسام استرضاء لابنها ميلاد الساخط، فقال حين رآها: جاءت الجنيَّة، حرمة ما لها دين، لا تستريح ولا تخلي أحدًا يستريح.
فقالت له بعطف وحنان: ايش قلت يا روحي؟
فأجابها ميلاد بهزء وسخرية: ماشْ يا روح حالك، ما أحلى لسانك وأكثر مطالبك!
– بلى، سمعتك تحكي.
– لا بلى ولا ملا، بيت مثل جهنم، عيشة مقرفة مثل وجوهكم.
ورجعت الأم وهي تقول في نفسها: الحق معه، حياة كلها تعب وشقاء، مسكين ميلاد، ما رأى يومًا أبيض!
ومرَّ في خاطرها فكر عنيف اسودَّ له وجهها. وسرعان ما تكشفت تلك الغيمة السوداء حين لاحت جارتها على الطريق، فرشقتها بالحديث من بعيد: كل الأولاد صاروا مثل ابنك يا أم سعيد، البلية كلها من ابن أغناطيوس، قعد يومين في بيروت ورجع أمس، ومعه أخبار يا أم سعيد! أخباره أشكال وألوان، الأولاد عقلهم قليل، داري ابنك وإلا فالخسارة عليك يا أختي.
فتفضلت، ونشر بساط البحث. كان الموضوع ابن الجيران العائد من بيروت، فأقلق القرية الهادئة. وطال الحديث، فنصب ميزان الدينونة. استعرضت المرأتان بيوت الضيعة واحدًا واحدًا، ثم قر رأيهما على أنها حالة لا تطاق: الكبار راحوا إلى أميركا، والصغار سينزحون إلى بيروت، ولمن تبقى الأرزاق والبيوت؟
وتنحنح أبو سعيد وسعل، ففرَّت الجارة من الباب الغربي، ودخل هو من الباب الآخر يشخر وينخر، وقبل أن يصبِّح ابتدرته أم سعيد بيعطيك العافية.
فقهقه أبو سعيد وقال: بحياتك، قولي لي، متى كانت أخبارك مليحة؟ قلت لكِ ألف مرة: لا تحملي السلم بالعرض، وصِّي على غير هذا الوجه يا أم سعيد.
وبعد محاولات واستعدادات انفتح فمها وقالت: الكلام بيننا. فقاطعها: لا تقولي الكلام بيننا، ويكون الكلام بين سيقان الدجاج.
فبهتت وسكتت، فقال: طيِّب، احكي.
فقالت: ابن جارنا البيروتي لعب بعقل الصبي، حلَّى في عينه عيشة بيروت، ربما راح معه.
فقهقه أبو سعيد وصاح: صدَّقتِ يا مجنونة؟ وإذا راح يرجع مثل الكلب، اتركيه يكشف بخته، متى تغرَّب يعرف أنه عائش بنعمة.
فنابت دموع الأم عن الكلام، وتأثر أبو سعيد أول مرة في حياته، فذهب في الكلام مذهبًا آخر، وقال لزوجته بوداعة: خلينا نعيش يومين مثل الناس، نسيتِ قول المثل: «قلبي على ابني وقلب ابني عليَّ الحجر»؟ الله معك، قومي غدينا.
فرضيت المسكينة وقامت، ولكنها تذكرت أن ولدها ميلاد لم يعد بعد، فاستمهلت زوجها ريثما يرجع، فأبى.
وفي المساء شاءت الأم أن تفاتح ولدها بحديث بيروت، فقطب أبو سعيد جفنيه الرهيبين، فارتعدت.
وغدا ميلاد إلى بيروت غدوة امرئ القيس، غاب الولد فانتظروا يومين ثلاثة، وأخيرًا عرفوا أنه في المدينة. وانقضت جمعة وجمعتان، وميلاد لم يرجع.
وسرت الوشوشة في الضيعة: ابن ابو سعيد دائر على أبواب الناس، جوعان عريان … ولكن الخبر لم يبلغ أذني أبي سعيد الكبيرتين؛ لأنه لا يخالط البشر، لا يؤمن بغير الحقل، وليمت جوعًا من لا يعبد الأرض. مذهبه: من لا يزرع لا يشبع.
أما أم سعيد فعرفت أخبار ولدها من حاملة الجرة، الملقبة بالضيعة «بالبوسطة» لثرثرتها، فقعدت تبكي، وقبل عيد الميلاد بيومين قالت لزوجها: اسمح لي فتش عن ميلاد. وقبل أن يقول لا، اندفعت تقول وعيناها عالقتان بوجهه: بحياتك اسمح لي. كيف يمرُّ عيد الميلاد والصبي غائب عن البيت؟
فعبس أبو سعيد، فقالت بانكسار: بحياتك، قل لي: روحي.
– روحي، مع السلامة يا أم سعيد، ولكن خيِّطي فسطانك، له نصف سنة في الصندوق، وكندرتك؟
فأجابت: الفسطان نخيطه الليلة، وأستعير كندرة أم حبيب.
– لا لا لا لا لا.
– طيِّب، الحق معك، اركضي، الحقيه.
وخافت أن يسترد أبو سعيد الإذن فلم تخيط شيئًا. استعارت كل شيء حتى النعال والجوارب وغيرها … وكان ليلة عيد الميلاد في بيروت.
لم ينفتح لميلاد باب رزق في بيروت، فأمثاله في المدينة مثل الجراد الزحَّاف: هذا يُعتَّل، وهذه تشحذ، وذاك ينشل، أما ميلاد فحاول ذلك كله فأخفق. لم تسد العتالة والشحاذة جوعه، فذبل حتى كاد ييبس، وتوسخت ثيابه وتمزقت، فأصبحت الناس تتقزز منه فيُزجَر ليبتعد.
رأى شجيرات عيد الميلاد منصوبة عند أبواب المخازن فضحك منها، ولكنها ذكرته تينتهم الشتوية فتأوَّه، ثم مشى بعين مكسورة يفتش عن الرغيف، والرغيف دولاب هيهات أن يدركه بائس مهدود مثل ميلاد! والتفت فرأى ديوك الحبش مسموطة ومعلقة بمناقيرها فظنَّها دجاجًا فهتف وهو ماشٍ: يا بارك الله! هذا دجاج.
ولما أعياه الطواف لَطِيَ قرب كاتدرائية مار جرجس، ومدَّ يده أول مرة وصرخ: حسنة عنكم يا أجاويد، دخيلكم! جوعان.
ومرَّت الناس وما وقف عليه أحد، طُرِحت له بضعة أنصاف قروش، ولكنها لا تشتري رغيفًا، وحمي صراخه فازداد عددها قليلًا، فوضعها في لبادته المزفتة.
كان يصرخ ويحسب، فإذا معه ثمن رغيفين، فحمد الله، وتذكر الآية الإنجيلية القائلة: «اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَح لكم.» فراجعه توجعه وأنينه، وطفق يتحمس ويجد في التمسكن حتى استولى على أمد بلاغة هذا الفن، ولكنه لم ينتفع لأن الازدحام على مورد «مغارة الميلاد» كان قد خف.
وبعد ألف جهد وصلت إلى حيث يتكوَّم الولد المغلوب، فوقفت عليه وعيناها تتغرغران بالدموع، ثم كرجت على خديها حارَّة تكاد تحرقهما. وبعد هنيهة تأمل، لا يعلم أحد ما وفد فيها من ذكريات على مخيلة تلك المرأة، رأت نفسها تهتز للإحسان، مندفعة إليه، على قلة ما في جيبها من مال.
وأخيرًا امتدت يدها إلى الولد فهزته، وقالت له وهي بين الوعي واللاوعي: قم يا ابني، تعال معي، أنا أعشيك.
فشقَّ ميلاد عينيه وصاح: أمي!