مغرور
ألقيتُ عليه نظرة بلهاء، وكدت أتوه في عالم التأمل لو لم يهزَّني بعنف ويهتف بي: أعجبك رأسي؟ يا ما مرَّ على هذا الرأس من مصائب وبلايا! ضربات لا تهر الشعر فقط، ولكنها تهدُّ الجبال الشامخة. تحب تسمع؟ سَمَاعِ أخبارًا تشيِّب رءوس الأطفال.
ثم تطاول ونظر بعيدًا، فالتفتُّ لأرى ما يرى، فإذا به يقول لي: ما لك؟ فقلت: لا شيء.
ودعمت رأسي بيديَّ التنتين لأمكِّن عينيَّ من وجهه الطريف علامة الإصغاء. أما هو فأخذ يُحكِم قعدته ويرتب فناجين القهوة على الطاولة. كان يعبث بها ويلتفت نحوي، وأنا أنتظر وهو يتهيأ.
وبعد دقائق أظنها لا تقلُّ عن العشر، قال: نعم. قلت: نعم. قال: ماذا تريد؟
قلت وقد كدت أنشقُّ من الغيظ: قلتَ لي سماعِ حتى أخبرك، وأنا أنتظر منذ ربع ساعة.
قال: اسألني يا صاحبي، عندي مليون قصة، عمن تريد أن أخبرك؟ تريد أخبارًا قديمة أم جديدة؟ أنا تاريخ من لحم ودم.
قلت: عرفت.
قلت: حديثك غريب اليوم يا خواجا مخُّول، لا أفهم قصدك.
فقال: أشرح لك، معناتها لا تسأل، يعني بحر له أول ما له آخر.
ولما يئست منه قلت: والآن ماذا تعمل في المدينة؟ طلقت الضيعة؟ كلما جئت بيروت أراك في هذه الساحة.
لفظ هذه الكلمة مقطَّعة مفخَّمة، ثم أعاد تلك الرقبة إلى نصابها وتثاءب، فوجدتني تجاه فم كأنه مغارة قاديشا، تتدلى في سقفه وترتفع من أرضه بقايا أنياب وأضراس … وكأنه أحس كراهية ذلك المنظر فاتقاني بيد أصابعها كالموز، ثم استرسل في الحديث وقال: كل هؤلاء الجالسين على الكراسي أعرفهم كما تعرفني وأعرفك. أمس تعشيت عند فلان، وأكَّد لي أن غرضي مقضي، ولولا بعض مشاكل داخلية وخارجية مستعجلة كنت على الكرسي من زمان. كل هؤلاء لولانا ما وصلوا.
فأجبته: ما فهمت.
فتضاحك وقال: بلى فهمت، لا تتجاهل، وصلك مثلما وصل غيرك ما عمله مخول لإنجاح الجماعة. يقولون لي من بعيد: كيف حالك على الفضل؟
قلت: طيب، سلمنا بهذا، ولكن أية وظيفة تقدر عليها أنت؟
فعندما سمعت هذه الكلمة ضمنت المركز وتأكدت أنني سأعيَّن في هذين اليومين.
وشرع ينبش محفظة كجراب الكردي وهو يقول لي: هذا مكتوب الوزير، وهذا كرت المدير. كان يلقي كل ذلك على الطاولة ليريني ما كتب على الظرف، وأخيرًا صاح: لقيته … تفضل، هذا خطِّي …
وبعد استراحة قليلة صاح بي: آه! لولا تعرف كم تعبت قدامهم وكم ركضت؟ يشهد عليَّ ربي، ما كنت أنام الليل، أترجى هذا وأراضي هذاك … الغاية وصَّلناهم، وصلوا وما زالوا حافظين الجميل، ما التقيت بواحد منهم إلا بشَّ لي وقال: ننسى حليب أمنا ولا ننسى أفضالك.
قلت: ولكن كل اعتمادك على الجداول الأربعة والخط، وهذا لا يكفي، أخاف أن تعلق وتخيب، الخيبة مُرَّة.
ثم أخذ يهز برأسه ويقول: هذا مخول، أنت خائف على مخول؟! خوفك في غير محله.
قال هذا وهو يحدق إلى وجهي كأنه يريد أن يأكلني بعينيه، وأخيرًا صاح بعدما لطم الطاولة بجمع يده: الدنيا وهم يا صاحبي، لا بد من الجرأة، إذا لم تخف من المقام ركبته، وإلا ركبك. والحمد لله تعالى قلبي أشد من الحديد، كثرة الدعاوى صيرتني أعرف «الشريعة» مثل محامٍ كبير، وتقلب الدول علمني السياسة، لا يهمني شيء بإذن الله ودعاك.
– ألا تظن، يا مخول بيك، أن المركز يضرك ماديًّا ولا ينفعك؟ فجنابك — كما سمعت — صاحب عقارات واسعة تدرُّ عليك أكثر من دخل وظيفة صغيرة تجدُّ وراءها منذ زمان.
فتطاول للفظة بيك، وصفَّق تصفيقًا حادًّا التفت له كل من في القهوة: هات قهوة يا صبي، عجِّل علينا.
ثم فتل شاربين معقوفين وقال باستهزاء: من خبَّرك أنها صغيرة؟ لا، لا يا خواجا بطرس، أنا موعود بوظيفة أكبر مما تفتكر، غدًا تعرف.
قلت: هَبْها كبيرة فأنت في بيتك أكبر منها، والتوتة والزيتونة والعريشة والتينة أكرم من صندوق الحكومة، الناس يدارونك اليوم وأنت لا تداري أحدًا، وغدًا متى توظفت تضطر أن تداري من يداريك وتستعطف من يلتمس رضاك لتثبت مركزك، وإذا جرت الرياح بالعكس فهناك المصيبة يا مخول … يا مخول بيك، الصواب ألَّا تقبل وظيفة.
فامتعض وبان الكدر والغم في وجهه وقال لي: السر بيننا، الحق معك، ولكن ينكيني ناس كانوا خدامًا عند المرحوم جدي واليوم صاروا يأمرون وينهون، تستقبلهم الناس كأنهم شيء عظيم. بحياتك قل لي، كيف أبقى في ضيعتي بين فلاحين يصبِّحوني ويمسُّوني، وإذا حوَّلت ظهري قالوا في قفاي: تأملوا ابن فلان أين صار، وهذا غارز كالوتد. هذاك صار شيئًا من لا شيء، وهذا يدلل كل يوم على قطعة أرض، ويكون سعيدًا إذا لقي من يشتري.
– ولكن أنت واثق من هذه الوعود؟
– مؤكَّد — وشدَّ على الكاف شدًّا عنيفًا — بهذين اليومين ينتهي كل شيء.
قلت: وفقك الله، هذا ما نتمناه.
وتهيأت للنهوض فقال: اقعد، ما انتهينا بعد. إذا احتجتَ إلى شيء في المستقبل فأنا مستعد، تعال صوبي، ما غايتي من الوظيفة أن أعمر بيتي، غايتي خدمة إخوان وأصحاب مثل فضلك … ونكاية بجيراني، ظنوا أني عاجز عن وظيفة؛ ولذلك حلفت للأولاد يمينًا أنني لا أرجع إلى البيت إلا والمرسوم في عبِّي.
قلت: ولكن أراك في هذه الساحة منذ سنة وأكثر.
قال: ما سمعت؟! قلت لك: حلفت ألَّا أعود إلا ظافرًا.
وهممت بالنهوض فصرخ: اقعد، دائمًا مستعجل.
فقلت: عليَّ قضاء أشغال كثيرة والشمس كادت تغيب، أستأذن.
– إذنك معك.
ومرت شهور انقطعتُ خلالها عن زيارة بيروت، ولما هبطتُ إليها وجدته حيث كان في تلك الزاوية من القهوة، فضحكت وقلت: كيف الحال يا أخا ساحة البرج؟
فأجاب فورًا: قال لي: اغدُ عليَّ، انتهى كل شيء.
قلت: ما أطول بالك!
فقال: الصبر مفتاح الفرج، صبرنا ولقينا.
قال هذا وهو ماشٍ، ثم التفت إليَّ وقال: لا تؤاخذني، الآن أجدهم في البيت، هذه الساعة المناسبة، وإلا أفلتوا من اليد.
وجعلت أتأمله فخلتني رأيته منذ عشر سنوات: أصفر هزيل، ثياب رثة وسخة، إطار طربوشه مسودٌّ كأنه مصبوغ بفحم القِدر، عيناه غائرتان حتى تخالهما قابعتين في كهف، خفَّت خطواته وذهب نشاطه.
وأبى مخول الهزيمة وقد كره المواعيد والتهرب، فصاح: يا سيدنا، يا بيك! والبيك يشق طريقه في الحافلة غير حافل.
وتعلق مخول بمتكأ التراموي تعلقًا غير محكم، وكانت محاولة فاشلة، دار دولاب القدر دورته فإذا بمخول يترك إحدى رجليه تحت الدواليب.