قاطع طريق
عاد بو خطار إلى بيته أشعث
١ أغبر، فعلَّق بندقيته «بالسكيكة»،
٢ ووضع الطبنجة
٣ في «الطاقة» إلى جانبها، وجعل ما في عبِّه وجيوبه وطيَّات زناره على رف مصنوع
من الحوَّارى، ثم تربع في مقعده عن يمين الموقدة، وجاءت امرأته برسيطا بالإبريق والطست
فشرع
يغسل رأسه ويحكي.
كان يتوقف عن العمل ليطرح عليها الأسئلة، وكثيرًا ما يفعل ذلك والصابون يرغي على وجهه،
فإذا لذع عينيه أطبقهما وفتحهما وحكى، وطال حديثه فصبَّت برسيطا الماء بلا وعي، فانتفض
وسبَّ الدين، وسرعان ما أدرك أنه ارتكب خطيئة مميتة، فطفق يستغفر ربه، وينشف وجهه ويحكي،
كما يتمشط ويسأل، يسأل ولا ينتظر جوابًا، حتى إذا جاء دور فتل الشاربين وإقعادهما على
طراز
دياب ابن غانم كان صمت عميق.
وبعد دقائق معدودة التفَّت الأسرة حول طاولتها المستديرة (الطبلية) حيث يأتمرون بقتل
الطعام، على فخذ كلٍّ منهم رغيف كالملاءة المدنَّرة، شوكاتهم أيديهم، وملاعقهم من خبزهم.
كان بو خطار لا يأذن بالكلام على الطعام، فمن يسأل يجب، وإلا فلينشغل بصحنه لتلقى الأيدي
في
وقت واحد حول قصعة التين أو الدبس، مشاع الأسرة.
وبعد حمده تعالى على ما أعطى من الخبز، ينثر بو خطار عليهم نصحه وإرشاده، يصلح أخطاء
النهار للزوجة أولًا، وللعجايا
٤ ثانيًا، وأخيرًا يعود إلى أركان حربه، إلى ولديه خطار وشلهوب، فيرسم لهما خطط
المهنة، منددًا بما ارتكبا من هفوات في بحر النهار، فيقول لخطار: «جئتَه من خلف وكان
يجب أن
تجيء من قدام. قلت له: اشلح وانتظرت، وكان الأوفق أن تبغته، تضربه، أو تصيح به على الأقل
صيحة تهتز لها مفاصله.»
«وأنت يا شلهوب، لو وقفت على المفرق كما فهَّمتك، ما هرب ذاك اللعين، مؤكد أن المال
كان
معه، لا بأس، راحت، خيرها بغيرها، انتبه ثاني مرة.»
«اليوم ما توفقنا يا أم خطار، السيدة غضبانة علينا …»
فابتسمت أم خطار ابتسامة مقهورة، ثم مر بو خطار بشئون أخرى مرَّ الكرام، وتأوَّه وقال:
اركعوا حتى نصلي.
وانتصب كأنه عمود ذهب ثلثه، ورأى أن ركوع أحد بنيه غير وافٍ بالمطلوب، فزجره
٥ وقامت الصلاة، الأب وولي عهده جوقة، والأم ولفيف الأسرة جوقة ثانية، وبعد طلبة السيدة
٦ زاد بو خطار على «الفرض»
٧ بضع مرات الأبانا والسلام، صلَّاها بحرارة، راجيًا من العذراء التوفيق في
الغد.
وزحف توًّا إلى فراشه فاستلقى على قفاه، ثم قال وهو يلتحف: حضِّري الزوَّادة يا برسيطا،
لا تنسي أنها لنهار الجمعة، اسلقي بطاطا. وبعد هنيهة رفع رأسه عن المخدة وقال لها: الشروال
مخزوق، دبِّريه، والكبران
٨ مفتوق. ثم همهم: إن وقعت عليه عيني لأخطفن روحه.
وبعد أن قبع تحت لحافه عاد فكشف عن صلعته المجعدة وقال لابنه: سنَّ السكاكين ونظِّف
القرابينة، حمِّص البارود لئلا يصيبنا ما أصابنا اليوم.
فأشارت أم خطار بيدها تستفهم، فاستمهلها ابنها حتى غفِيَ أبوه، فقال لها: وقعنا اليوم
على
اثنين، واحد قشَّطناه، والثاني هرب. الثاني شب أخو أخته.
٩
ثم أخرج خاتمًا فضيًّا مكتوبًا عليه «يزول»، فامتعضت برسيطا إذ رأته وقالت: هذا هدية
لمحبوبته، حرام عليكم.
فأومأ خطار نحو أبيه وقال: قولي له، لا تقولي لي أنا. إن قلتُ له مرة: حرام، يجن جنونه
ويقول: ولد نذل، دائمًا تقول هذا كذا، وهذاك كذا، قشِّطهم والعن جد جدهم.
وبعد قليل هدأ البيت إلا من شخرات بو خطار الطالعة النازلة، وكان يتكلم بلا وعي، فيتهدد
هذا، ويأمر ذاك بالتسليم، ثم يصيح بولده: نبِّشه يا خطار.
وأفاق كعادته عند الفجر الكاذب
١٠ فصلَّب
١١ مرات، ثم قعد يصلي للعذراء في فراشه، وتطول النجوى أحيانًا، فيعتذر بو خطار
إليها عن تقصيره نحوها، ثم ينذر لها ربع ما توفقه إلى سلبه، كأن يقدِّم لكنيستها ثريًّا
أو
شمعدانًا أو بخورًا أو شمعًا، وإن كان التوفيق عظيمًا يعدها بجرس شغل بيت نفاع.
١٢
وبعد صلاة ساعة تقريبًا يكونون في طريقهم إلى مربضهم، ووراءهم ابنه الصغير حاملًا
جراب
١٣ الزاد.
أما بو خطار فلا يترك مسبحته، يظل يصلي، وإن حسب أنه سها أو غلط بحبة أعادها، يريد
حساب
الصلاة مقومًا، خاليًا من السهو والغلط، وإلا فكيف يوفقه مقسِّم الأرزاق؟
كان يصلي ويفكر بمن يسوقهم إليه القدر، فدقَّ جرس القدَّاس، فصلَّب يده على وجهه،
واعتذر
إلى ربه عن تركه القداس ووعده أن يشترك فيه بالعقل والروح.
وبلغ مكمنه مع الشمس، فدق جرس «التبشير»،
١٤ فحسر
١٥ طربوشه المغربي عن جبهته بعض الشيء، وركع على البلاطة «يبشِّر» هو وولداه، ثم
ربضوا كلٌّ في مكانه ينتظرون الرزق الحلال الزلال … وقلب بو خطار يدله على أن العذراء
راضية
عنه، وستوفقه.
وسمع قادمًا يغني فأشار إلى ولديه فاستعدا، ظل القادم مطمئنًّا حتى رأى رجلًا في
يده
مسبحة يصلي فارتاع وفشل، تعجب من نفسه كيف يخاف من رجل يصلي، ولكنه أظهر الجلد وحيَّا
باحترام عظيم، فقطب بو خطار حاجبيه كالرفراف وحدجه
١٦ بعين حمراء ناتئة الجذور.
مشى الرجل وعينه على أنف مثل مطفأة الشمع، فأومأ إليه بو خطار بالمسبحة أن قف، ولكنه
تغافل ومشى، فصاح به بو خطار: قف، لا تجربني، اتركني أكمل صلاتي.
فأدرك الرجل أنه وقع بين يدي بو خطار، فقال في قلبه: مؤكد هذا هو.
واستمر بو خطار يصلي والرجل منتظر، وأخيرًا دنا منه مشيرًا بأصابعه: هات ما معك.
– ما معي شيء يا بو خطار.
– ما معك شيء يا بو خطار، هذا حكي! ثم من قال لك أني بو خطار؟
– شكلك يا عمي.
– الله يعمي قلبك، طيب، هات ما معك.
– معي عشر مجيديات تدينتها حتى أشتري طحينًا للأولاد.
– الله يجبرك، هاتها.
فهزَّ بو خطار رأسه وأشار بيده أن هات.
وبعد أخذٍ وردٍّ وتوسل وبكاء، قاسمه بو خطار المال إكرامًا للعذراء مريم، وانصرف
الرجل يدمدم
١٨ راضيًا بنصف المصيبة.
أما بو خطار فصلَّب بالمجيديات،
١٩ ثم زجها في عبِّه وهو يقول مسترزقًا: استفتاح مبارك من ابن حلال!
وحدَّق إلى السماء يناجي حبيبته العذراء مريم وقال: لعيون عيونك ما ظلمناه، عوضي
علينا.
وسمع حس ناس يسوقون دواب، وهم في حديث صاخب عن الأسعار، عن إقبال المواسم، وعن … وعن
…
فهمس: جاءت الرزقة، جمهور.
فهيَّأ خطار بارودته، وأخذ شلهوب يعرض الطبر
٢٠ ويسدده كأن الضحية أمامه.
كانوا ثلاثة يسوقون دوابهم، فصرخ بو خطار صرخة كبَّرها النهر وضخَّمها: شباب، اشلحوا
تربحوا.
وكان بين الثلاثة شابٌّ معتدٌّ بنفسه، فأجاب بفظاظة وسبَّ أمهم، فأطلق عليه خطار
بندقيته
تهويلًا، فأجاب هو بالمثل، أما القول الفصل فكان لطبنجة بو خطار، فخرَّ الفتى صريعًا
لليدين والجران،
٢١ وسلَّم رفيقاه، فسلبوهم كل ما معهم حتى الثياب والزاد.
وقعد بو خطار يحسب ما أصاب في ذلك النهار السعيد، فكان ثلاثًا وخمسين ذهبًا، وبضعة
عشر
ريالًا، وكيسًا (ضبوة كبيرة) من البشالك والزهراويات والمتاليك والنحاسات،
٢٢ فتأفف بو خطار شاكيًا ثقلها.
ونظر إلى الأسلاب فإذا هي طبر نحاسي منقش، وخنجر، وساطور، وبارودة «مجهرية»، فقبَّل
الأرض
شاكرًا ربه على النعمة وصاح بولديه: بوسوا الأرض يا ناكرين الجميل. ثم قال ضاحكًا: مال
وعدَّة، هذا توفيق.
وأخذ يداعب العذراء وعينه على الغنيمة: كتر الله خيرك يا ستي، الله يطول عمرك، اليوم
فرجتِ بو خطار، لكِ مني جرس يرن له الحادي في الوادي. يا ولاد، هاتوا الزوَّادة، افتحوا
جراب الجماعة.
وتربعوا ثلاثتهم على بلاطة في نصف النهر، وأكلوا بقابلية غريبة بعد تلك المعركة الموفقة،
فأخذ الصغير شقفة من قالب جبن كان في جراب المسلوبين، فضربه بو خطار كفًّا على وجهه وقال:
اعتبر يا وحش، تتزفَّر
٢٣ يوم الجمعة! لولا قلة دينهم ما وقعوا بين أيدينا.