من مشاكل القرية
إذا كنت سمعت بالجنائن المعلَّقة وتريد أن تراها فهلمَّ إلى لبنان؛ ففي نحور شماريخ الجبال قرى معلقة حقًّا، تبص حين تضربها الشمس كأنها عقود المرجان، ويتلألأ زجاجها في الفضاء كأنه بحيرة الفضة البيضاء سائلة …
وإذا عرفتَ طبيعة الأرض أكبرت عزم الفلاح اللبناني، فقد فتَّت معوله تلك الصخور فاستحالت ترابًا.
وإذا رأيت القيامة تقوم بين أبطال قصتنا اليوم على شبر أرض فلا تتعجب، فالأرض في لبنان عزيزة وخصوصًا في الجبال. ليس في لبنان قرى يملكها واحد من الناس، فالأرض تكاد تكون موزعة بين اللبنانيين بالقسطاس والميزان، إذا استثنينا بعض الديورة.
التراب عزيز في هذا الجبل، فهو قشرة يكاد يبلغ قعرها المحراث، فإذا رأيت أبا فارس الذي نروي لك حكايته يبذل هذه الجهود الجبارة، فلا تقل: ما أتعس القروي اللبناني! إنه يفتش عن حفنة تراب. لا يا سيدي، إنه وإياك بألف خير، فجنينة ابو فارس تدرُّ له آلاف الليرات من نقد اليوم، وإليك حكاية هذا الاقتصادي العنيف:
وهكذا ظلوا يعملون تحت رذاذ المطر، ولو تركوا معاولهم وكفوا عن عملهم ربع ساعة للحقهم الحسم والحطُّ من أجرة يومهم، كلها ربع مجيدي، فما يبقى إذا امتدَّ إليها قلم أبو فارس البارع في الجمع والطرح؟ له عليهم عادة يعرفونها: إذا كفُّوا عن العمل قبل المغرب بنصف ساعة شطب قلمه ربع النهار ليكون الحساب مقومًا لا عوج فيه.
رأى أبو فارس شجرات جاره غضة ترشح الماويَّة من فروعها وجذوعها، فأدرك أنها تسابق شجراته العزيزة على السماد الذي يكدسه في أرضه كل سنة، فهو لا يستحي أن يلمَّه عن الطريق، وإذا عابه أحد هز رأسه وقال مبررًا عمله: لو كان الحرامي يفهم ما سرق غير الزبل.
قطع الفعلة جذورًا واهية فور الشروع في العمل، فتهلل أبو فارس كأنه ملك البصرة … ولما تعمقوا في النقب رأوا مشهدًا لم يكن في الحساب: كانوا يحسبون أن الأشجار تعرف التخوم والحدود، فإذا بظاهر الأرض مقسوم، أما قلبها فمشاع، تسرح فيه الجذور وليس من يقول لها: قفي عندك، هذا حدك. إنها لا تخضع لنواميس الناس وعرفهم.
رأوا الجذور رائحة جائية، متشابكة متعانقة في قلب الأرض كأنها تقول في نفسها: إن سطح الأرض للناس فليقتتلوا عليه، أما قلبها فلنا، نحن الجذور، نعيش فيه بسلام واطمئنان حتى يفرِّقنا هادم اللذات …
فطار إليهم إذ سمع اسمه، خاف أن تذهب دقيقة ضياعًا، ولعجلته عثر، ولكنه ما بالى بسقطته، فهرول وهو يمسح ما علق بذيل شرواله من تراب وزبل … ثم أدرك أنه رمى الزبل في أرض جاره فانحنى يلمه ورماه في أرضه. كان أمرهم بقطع الجذور المنسابة من عند جاره، فلما رأى جذور أشجاره تسعى في أرض جاره وراء رزقها بهت واحتار، ولكنه اختار أهون الشرين فصاح بالفعلة: سلمت أيديكم يا شباب، استريحوا، الله يعطيكم ألف عافية، لفوا سيكارة.
هذي أول مرة يسمعون فيها كلمة سلمت أيديكم، فهو لا يرضيه فاعل مهما جدَّ واجتهد، وشعاره مع الفعلة: من يأخذ مالي آخذ روحه.
تمددوا على التراب كأنهم على فراش ناعم، فالمطر العابر لم يبلل الأرض، وأخذوا يتنادون. أما أبو فارس فكان يفكر بماذا يعمل، لقد نبش الأساس فهل يطمُّه؟ وأي فائدة جنى؟ ثم ما نفع حبة تراب يحرص عليها ويتكلف ما يتكلف ما دامت الجذور لا تقتسم الأرض كالناس؟ وجرَّته فكرته إلى ناحية مجهولة فاضطرب، ولكنه أخفى اضطرابه. مرَّت في خاطره نزوات فلسفية لم يستطع التعبير عنها … وتذكر إذ ذاك جارَيهِ بو طنوس وبو خليل اللذين اختلفا على شبر أرض فاستخفَّ عقلهما.
وفي تلك الدقيقة الخطيرة من تاريخ حياته التفت إلى فوق فرأى على عرض الطريق شيخين قاحلين يابسين. كان هذان الشيخان واقفين ينظران هازئين بعمل أبو فارس الشحيح، ساءهما أن يعييهما الفصل في قضية «الحد» المستعصية بين بو طنوس وبو خليل، فشقت الضيعة حزبين.
قال أحد الشيخين: الشر شرارة، كان الخلاف على شبر أرض فصار غرضية وحزبية، انشقوا وشقوا الجوار معهم.
فقال الشيخ الآخر: لا تشغل بالك، تجيء ساعة تنحل القضية فيها من تلقاء نفسها.
وسكتا ليهيِّئا ما يقولان، فصاح أبو فارس: بو يوسف، أهلًا وسهلًا، جئت بوقتك، عمي بطرس تفضل معه، انزلوا، منظر غريب، وتأملوا ما أقل عقلنا نحن البشر.
فأجاب بو يوسف: خير إن شاء الله.
ومشى مشية المقيَّد يتبعه بطرس، يهدجان وتغرق أرجلهما بالتراب المبثوث، وما أشرفا على الخندق حتى قال أبو فارس: بحياتكم، تأملوا، هذا «شلش» عريشة جاري، تأملوا ما أبعده يا بشر! وهذا شلش لوزتي رائح صوبه بالسلامة، فماذا نفعني عملي؟
فتناظر الشيخان وارتجفت ذقناهما، ومرَّ في رأسيهما فكر واحد، فأطرقا، والفعلة يمزحون حولهم ويضحكون كأنهم لم يعملوا نهارهم كله أشق الأعمال، ولا يعنيهم ما يعمل الشيخان وبو فارس، كل ما يعنيهم أن يطول الحديث لتطول الاستراحة، ففتحوا أكياسهم ولفوا سيكارة ثانية.
فمرمر بو فارس وقال: والله العظيم احترت في أمري، مدوني برأيكم.
فتردد أبو فارس لأن الفعلة قاعدون، خاف أن يخسر شيئًا من عرق جبينهم، فأبدى حركات لولبية أسفرت عن تحويل الفعلة إلى عمل آخر، ولحق بالشيخين.
وبعد هنيهة رجعوا ثلاثتهم ومعهم بو طنوس وبو خليل، وقفوا جميعًا خاشعين ينظرون إلى الجذور وقفة موسى بجانب الطور، صمتوا كأنهم يتلقون درسًا في علم الاجتماع من تلك الجذور الخرساء …
وطال السكوت فقال بو يوسف: الشجر أكملُ عقلًا منا نحن البشر، فمن يعتبر؟
فصاح بو طنوس: فهمنا، فهمنا يا عمي، تصافينا.
وقال بو خليل: نعم، نعم، وإن لم يبق على خميرنا طحين.