المسيح حقًّا قام!
«أسبوع الآلام»
١ مأتم حقًّا، تحدُّ فيه الكنيسة ولا تتبرَّج إلا مساء «سبت النور»
٢ ابتهاجًا بقيامة «العريس» منتصرًا، فإذا سماه القروي «الجمعة الحزينة» فقد
صدق.
الضيعة خاشعة صامتة، والحزن يملأ كل بيت، لا يحيُّون بنهارك سعيد، ولا يصبِّحون ولا
يمسُّون بالخير، سلامهم «يتمجَّد اسم الرب يسوع»، وردُّه «السلام لستنا مريم العضرا»،
والكنيسة كخلية النحل، ناس تجيء وناس تروح، الجدران تتنهد، والحنية
٣ تتأوه، والقبة تولول مهدودة الحيل، الصلوات خمس كل يوم، وعن الصوم لا تسأل، لا
يفطر إلا الزنديق، ولا يأكل اللحم والبيض واللبن إلا القليل الدين …
في ذلك الزمان، جاء الخوري تيموتاوس الهيكل قبل الغروب، ودق الجرس حزنًا، ثم أخرج
من
عبِّه مسبحة الوردية
٤ ليصلي للراكب على المشارق والمغارب، أخذ يذرع ساحة الكنيسة بجلال ووقار كأنما
يمشي على البيض، يتنهد أحيانًا، وينظر إلى مسبحته ليرى أيَّ مسافة قطع، إن صلاة مساء
الخميس
طويلة والناس أبطأوا. غريب شكل هذا الخوري! لو عرفه داروين لما احتاج إلى برهان آخر:
حاجباه
قاعدان تحت جبين نافر كأنه رفراف مطفف فوق نقرتين في صخر منقوش، يمتد بينهما أنف أفطس
مشلوق، وتحت هذا الينبوع شاربان كقرني الكبش، تتدلى تحتهما لحية طويلة لو لم تكن سوداء
كجناح الغراب لحسبتها مكنسة.
سبحان الخالق ما أكرمه! أعطاه بشاعة بغير حساب، وكأنه شاء أن يجعله آية فابتلاه بالجدري
الذي قلل هيبته كثيرًا. وبلوته الكبيرة أنه أخيف، فإحدى عينيه خروبية، والثانية زرقاء
يحسبها الرائي خرزة عين، لهذا غلب لقب «بليق» على اسمه بطرس، قبل أن مسح بالزيت المقدَّس
كاهنًا لله. ثم زاد سمنه في بشاعته، فهو بعد كهنوت الخبز مربوع ثخين أسود لمَّاع.
كان الخوري مرحًا في شبابه، يفرفر فلا يستقر بمكان، لا شغل له إلا النط بالضيعة،
فما تسمع
إلا راح بليق جا بليق. الولد عجزة أبيه،
٥ ولد صيفي، مات أبوه والأم لا تربي، فركب رأسه، ما نجت بنت في الضيعة من مداعبة
أو سهرة عندها، وكثيرًا ما كان يدق عدة أبواب في الليلة الواحدة، وحيث يحل يمتلئ البيت
هرجًا وضحكًا، وإذا خرج نبح أو نهق، فترد عليه كلاب الضيعة وجحاشها.
كاد يتزوج طابيتا بنت ضاهر حنَّا، ولكنه أطاع أمه وخصى نفسه بعد موت خوري الضيعة،
فدرس اللاهوت
٦ والسريانية، وبعد سنتين صار كاهنًا جليلًا.
الميت وحيد أبيه، والليلة قمراء تغري الناس بالخروج، فأقبلوا على الكنيسة جميعًا
حتى
العُجَّز ليحضروا تمثيل مأساة الفادي. لباس الجميع السواد كأنما الضيعة استحالت ديرًا،
والكثيرون لا يصلحون من هندامهم إماتة
٧ لنفوسهم، وبعض الشيوخ الأتقياء يلبسون الجبب مقلوبة كأن الفقيد ابن عمهم لحًّا.
الجميع يُصلِّبون حين يواجهون الكنيسة، بعضهم يُقبِّل خد الباب، وآخرون زاوية الهيكل،
ومن
يختصر يستلم الحائط ويصلِّب. التحية للخوري أولًا، ثم للجماعة، فيجيب حضرته بتحريك لحيته،
يلتفون حلقات وحديثهم كحفيف الحصاد، طنافسهم العشب، وكراسيهم الحجارة.
وجاءت الآنسة طابيتا، وقد زرفنت
٨ شعرها كعادتها، فأكبر بعضهم وقاحتها وخصوصًا زكريا، وعذرها غيره لأن البنت بارت
٩ بعد «بليق»، فهي الآن تتصيد عريسًا ولا يهمها أمات المسيح أم عاش. كانت طابيتا
غير فصيحة، ولكنها ذات حركات أبلغ من الكلام في التحريك والاستمالة، سمراء مقبولة
الصورة.
باست خد الباب بشفتيها الممتلئتين بوسعة بليغة، ومسَّت الأب الجليل فأجاب بحنوة رأس
خفيفة، وبلا شعور ارتفع صوته في صلاته فقال: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فضحك الشدياق
١٠ زكريا وزمرته الملتفة حوله عند جذع السنديانة، فتنبه أبونا تيموتاوس وتنهد يسأل
الله الستر …
لم يكن غير الصبيان يقبِّلون يديه الطاهرتين فيمنحهم البركة الإلهية، فيستقبلونها
مكشوفي
الرءوس، ويزودهم بابتسامة لا تتضح إلا على جبينه؛ لأن فمه النقي مخبأ وراء غابة كثيفة
… وما
عليه إن ابتسم لهؤلاء وهو يصلي، فالسيد المسيح قال: دعوا الصبيان يأتون إليَّ.
أما مشايخ الضيعة فكانوا يهزون رءوسهم متعجبين كيف راح بليق وجاء غيره.
وقالت عجوز للقاعدة حدها: الله، الله، كيف كنتِ يا أم قبلان وكيف صرتِ! سمع ابنها
منها
فصار خوري الرعية. فأتمت تلك: وعمر بيتها، واستراحت من هب
١١ الفرن والتنور. كانت تأكل من مغزلها وكارتها
١٢ فصارت أميرة.
أما الخوري جرجس الذي أمسى عاجزًا مخرشمًا
١٣ فكان جالسًا بين أولاده يسمع حديث المرأتين، يحرك شفتيه ولحيته الحالئة
١٤ ولا يقول شيئًا، يتذكر عزه القديم يوم كانت الرعية لراعٍ واحد فيتمتم، وأخيرًا زمَّ
١٥ بأنفه فجأة وقال بحدة وهزء: تفَّ للأيام التي وصلنا إليها، متى كانوا يكرِّسون
للرب نفاية الناس مثل أخينا بالله! … هذا خوري؟ هذا تنبل.
وحاول أولاده أن يسكتوه، فرفع صوته نكاية بهم وصرخ مرتين: هذا تنبل، هذا تنبل.
أما الشباب عشراء تيموتاوس فتنحوا والتفوا حلقة على الرجمة
١٦ تحت البانة
١٧ يتحدثون ويتغامزون، تارة يقضمون الضحكة قضمًا، وأحيانًا يقطُّونها قطًّا. وبدا
الاضطراب على وجه الخوري تيموتاوس فكان يتئد في مشيته صوبهم لعله يسترق شيئًا من حديثهم،
الخوري يخاف لسان أحدهم زكريا، وزكريا هذا شاب فات الثلاثين، طويل القامة نحيلها، مبيض
البشرة مصفرَّها، تبتَّل
١٨ في الخامسة والعشرين، ولبس الغنباز الأسود المخطط، وشك الدواة في زناره كشدايقة
ذلك العصر، وأطلق للحيته الشقراء سبيلها، ولكنه كان يأخذ منها فلا تطول، عبث رفقاؤه بقصيرته
أولًا، ولكنه صبر عليهم فغلبهم.
الشدياق محمود الصفات، يغض طرفه إن بدت له جارته، يحافظ على وصايا الله والكنيسة،
لا
يتخلف عن قداس، ولا يفوته زيَّاح، هو وافه الكنيسة (القندلفت)
١٩ وشماس الخوري ليربح الأجر، لم يفطر يوم سبت منذ بلغ ورشد، ولم يأكل لحمًا ولا
بيضًا ولا لبنًا يومي الأربعاء والجمعة، وفي الصوم يعاف الزيت أيضًا، سيَّان عنده أجاز
البطريرك ذلك أم لم يجزه فهو بطريرك نفسه. متعبد لمريم العذراء، إن سقط «ثوب السيدة»
من
رقبته لا ينام تلك الليلة نومًا هادئًا، ولولا تهكمه وعبثه بالناس ما شك أحد في قداسته؛
فهذا العبث بذوي العاهات خطيئة كبيرة تُنزل إلى جهنم، والإنسان يلقى غيَّها فيعاقب نقدًا
لا
صبرًا، يخلق الله في ذريته عيوب من يستهزئ بهم.
كان زكريا يعبث دائمًا بصاحبه الخوري تيموتاوس فهو بطل مهازله، يناديه ببليق حتى بعد
الكهنوت فيجن الخوري، ولكنه يخاف الوقوع في لسانه فيسكت على مضض، وزكريا لا يرحمه أبدًا.
يعرف أنه خرَّاط يدَّعي البطولة ويموت فزعًا إن وزوزت الدبانة، فيفتري عليه الأخبار
والمغامرات العنيفة.
تجمَّع الناس وقامت صلاة الخوري، وقص السنكسار
٢٠ حكاية المحاكمة والجلد والصلب، فتعالت تأوهات العجائز وتنهدات الشيوخ كأن الضرب
يقع على جلودهم. تُلي الريش قريان (فصول من أرميا وأشعيا … إلخ) وأخيرًا خصَّ الخوري
تيموتاوس الشدياق زكريا بتلاوة «البركسيس» (فصل من أعمال الرسل)، فقرأ ببراعة فصلًا أعدَّه
منذ العصر وهو خبر تلك «التلميذة» التي ماتت في يافا، ودُعِي مار بطرس من لدة (اللد)
خصيصًا
ليقيمها من الموت، فما بلغ زكريا هذه العبارة: «وصلى بطرس وصرخ: يا طابيتا قومي، ففتحت
عينيها»، حتى صاحت طابيتا من بين النساء: ليتك ما تفتح عينيك، يقصف عمره ما أثقل دمه!
هذا
شدياق؟ هذا قندلفت؟ هذا شيطان!
فضحك الجميع حتى الخوري العتيق، أما زكريا — وتلك عادته — فما خف وقاره ولا نقص، بل
مضى
في فصله حتى النهاية كأنما لم يكن شيء مما كان.
وتلا الخوري تيموتاوس بضعة أناجيل بصوت مرتجف؛ لأن الصدمة لم تكن هيِّنة، وخُتمت الصلاة
وارفضَّ الناس حزنانين. وصباح يوم الجمعة تنافسوا في جمع الأزهار أشكالًا وألوانًا، وجاءوا
يطرحونها على قدمي الصليب المنصوب في «الباب الملوكي». وقرب الظهر جنَّزوا وطافوا بالميت
ثلاث مرات في صحن الهيكل، ثم قبَّلوه واحدًا واحدًا مودعين، ودفنه الخوري والشمامسة خلف
المذبح ليقوم في اليوم الثالث كما هو مكتوب.
وعادوا عشاء وتألَّبوا حول خوريهم، فقعد المحترم على حجر عالٍ، يحيط به زكريا ورهطه،
ومشى
الحديث، فصلاة الجمعة خفيفة. شرع الشدياق زكريا يهزُّ من عطف المحترم، ويحكُّ له على
الوجع،
فاستعرض ذكريات شباب بليق قبل أن قمطته أمه بثياب الدرجة المقدسة، فذكر أحدهم دق الجرس،
فقال زكريا: أبونا تيموتاوس دق جرس مار نهرا خمسين نزلة.
٢١
فقال الخوري: وأنت الصادق يا شدياق، مائة وعشرين نزلة بيديَّ التنتين، وفوق العشرين
بخنصري.
فاستكبرها أحدهم، وقال: أف! فصاح به زكريا: اسكت يا هوه، أنا أخبر منك، قدامي أنا
قطع
جنزير جرس دير قصحيا بكبسة واحدة، ولو خبَّرتك عن جرس مار ساسين حاقل كنت تجن. لعب بالسبعين
أقة لعبًا، وخرزة بير كنيستنا هذه لو كان لها فم تشهد.
ثم التفت إلى الخوري وقال له: بحياة قدسك يا معلمي تخبرهم.
فتنفس الخوري وقال: نسيت، ذكرني يا شدياق.
فقال زكريا: قصة المارد.
– قصة المارد؟ مارد حبَّ أن يتعدى علينا، مزعت رقبته.
– كمل، لا تستحِ.
– راح رأسه عشرين شقفة.
فقال زكريا: أجرك كبير، استراح الناس من شره.
فتهامس الناس قائلين: إِذَن أخبار المارد صحيحة.
فسمع زكريا فأخذ يتهزأ بهم: الخوري يخبرنا ونقول: صحيح، صحيح!
ثم التفت زكريا إلى جماعته بهيئته الجدية المضحكة ولم تتكلم إلا عيناه، فأطرقوا جميعًا
عاضين على شفاههم، ثم حوَّل وجهه صوب الخوري وقال: ما لك! أخبارك الليلة قطف.
٢٢ لا تغير عادتك.
فتاق الناس إلى سماع أخبار خوريهم، وظنوا أنه يأكل بشرًا. أما الخوري جرجس فأخذ ينفخ
ويتأفف ويحاول أن يقول كلمته، فيمنعه ابنه، فيدمدم،
٢٣ ويسكت.
وانتظر زكريا شيئًا من الخوري فلم يكن، فقال: اسمعوا آخر خبر، هذا أعظم بكثير من الأخبار
التي سمعناها، فقال الخوري: أي هو؟
فأجاب زكريا: المعتَّر
٢٤ الذي لاقاك لما كنت راجعًا من عند … من عيد مار نهرا.
فضحك الخوري وقال: الشدياق لا ينسى، بطحْتُه في النهر، وبعدما شبعته قتلًا، كبست على
صدره
كبسة واحدة فبقَّ الدم.
فقال أحدهم: قالوا شلَّحك.
– شلحني؟ مسكين! طرمحتني
٢٥ نفسي ونويت على قتله، ولكن قلت: اتركه يا صبي، لا ترمِ ضيعتك ببلبلة، كانت
الحادثة في خراج
٢٦ الضيعة.
فبدرت من الخوري الشيخ كلمة ثخينة تداركها ابنه برفع صوته فطمرها … ولم ينقطع سياق
الحديث.
وانجرَّ السمر البريء إلى تلاميذ المسيح، فتعجب الناس كيف جبنوا وتركوا المخلِّص
بين أيدي
اليهود، لم يذكروا خبز العشاء السري
٢٧ وخمره، فما سهروا معه ساعة واحدة، تركوه يبكي وحده في البستان.
٢٨ وبطرس الذي ابتهر وادَّعى الرجولية أنكره ثلاث مرات قبل صياح الديك.
واحتدم جدالهم، فأمست لهم ضوضاء كأنهم على الجلجلة ساعة الصلب، فقال زكريا بسذاجة
ماكرة:
يا حسرتي على الرز، ضاعت ملاعقه.
٢٩ لو كان ربنا في أيام معلمنا الخوري تيموتاوس كان عرَّف اليهود قيمتهم.
فأحسَّ بها الخوري قليلًا، ولكنه بلعها، وقال بحدَّة: سماعِ يا شدياق، هذي إرادة ربنا
يسوع المسيح له المجد، وهو لو حب كان أمحى أثر اليهود. سمعت قول الإنجيل أمس، كلمته:
أنا
هو، قلبتهم على ظهورهم.
وأعجب الخوري ببلاغته هو، فتحرك أيما تحرُّك، فبصَّت لحيته المرعزية
٣٠ تحت ضوء القمر، فضحكت زمرة زكريا، فحار الخوري في ضحك بلا سبب، ولكنه لم يقف،
بل التفت إلى القوم التفاتة منطيقي أدلى ببرهان ذي حدين، فرجحت الرءوس إعجابًا، وانقلبت
شفاه عديدة استكبارًا، ورأى الخوري طابيتا شاخصة تأكله بعينيها، فتذكر أيامًا لم يكن
جسده
فيها هيكل الروح المقدس، ولاذ «بالنعمة» فأخزى الشيطان، واشرأبَّ وتفرعن.
أما زكريا فاختبى بيديه وقال: الحق مع ﺑﻠﻴ … هئ، مع الخوري تيموتاوس. والله العظيم
لو
كان حضر المعركة كان نتف لحية قيافا،
٣١ ودعس رقبة يوحانان.
فهزهز الخوري رأسه وقال: هذا نصيبنا، ما أحلى ما يقدر الله!
وطاب الحديث للخوري فانبسط زكريا وقال: لكن خوف الرسل بيِّن يا معلمي، هذا مار يحنا
حبيب
المسيح كان أول الهاربين، ثم لاحظ كم مرة فزعوا بعد القيامة. أؤكد لك أنهم كانوا يفزعون
من
خيالهم، مساكين!
فمطمط
٣٢ الخوري وقال: لا يخلو الأمر، عندهم شيء من هذا، ولو كانوا كما يجب ما قال عنهم
مار بولس: واختار ضعفاء العالم ليخزي
٣٣ الأقوياء.
فصاح زكريا بلهفة: هذا الصحيح يا معلمي.
وسمع الخوري جرجس هذا الكلام فتهيأ واستعد، فهدَّأه ابنه. أما الناس فكانوا يصغون
إلى
الاثنين معجبين بفصاحة خوريهم وبراعة شدياقهم.
وسأل أحدهم عن سبب ظهور المسيح للنساء أولًا ثم للتلاميذ، فأجاب الخبيث زكريا: حتى
يشيع
الخبر حالًا … النسوان لسانهم طويل.
فتمتمت طابيتا كلمة فهمتها جاراتها وضحكن، ولم ينتبه لها زكريا؛ لأنه كان يعد رمية
جديدة،
فقال: معلمي، يا ترى لو ظهر لك المسيح تفزع منه مثل التلاميذ؟
فابتسم الخوري كالهازئ وقال: ما قولتك أنت؟
فقال زكريا: قولتي أنا؟ يا جبل ما يهزك ريح.
فأجاب الخوري: هذه نعمة بعيدة عني، أنا عبد خاطي.
ثم تنهد تنهيدة عظيمة وقام إلى الصلاة وهو يقول: يا ليت، يا ليت!
ودخل الكنيسة يواكبه زكريا ويقول على مسمع من الناس: من يعلم؟ من يدري؟ عجائب الله
كثيرة.
أما الخوري العتيق فتحلحل ونهض وهو يقول: إيه! صرنا ملعبة.
فغمز ابنه طرف جبته فصرخ: اتركني، ملعبة وأكثر، لولا العيب والحيا كنت أحش لحيته،
خوري
بهلول.
وبعد ظهر السبت قلعت الكنيسة ثيابها السود، وتزينت ابتهاجًا بقيامة الذي وهب الحياة
لمن
في القبور، فصلُّوا صلاة خفيفة زحزحت الكابوس عن صدرهم، وعادوا إلى بيوتهم فرحين بعد
ترتيلهم: المسيح حقًّا قام.
أما الخوري جرجس فظل في الكنيسة يصلي منتظرًا قداس نصف الليل، وكان بعض شيوخ وعجائز
يأتون
لزيارة القبر، وما انتصف الليل حتى أقبل الخوري تيموتاوس وقرع الجرس قرعًا ذكَّرهم بشباب
«بليق» الأغر، فخف الشعب إلى الكنيسة، وانقسم الشمامسة جوقتين يخدمون القداس.
وفي مثل هذه الساعة التي تدحرج فيها الحجر عن القبر ليقوم السيد، أقبل الخوري تيموتاوس
على باب الحنية الأيسر يبخر ويرتل بالسريانية، معظِّمًا من غلب الموت بالموت، ويسأله
الرحمة
لجميع المؤمنين، فطلع إليه من خلف المذبح — حيث القبر — شبحٌ عليه ملحفة بيضاء، فتراجع
الخوري مذعورًا، وتقدم الشبح ووقف بالباب، فصرخ الأولاد والنساء، ووهل الرجال، واستبق
الجميع الباب، وأفاق الخوري جرجس من سهوته على الضوضاء ونهض يستخبر، فرأى أمامه الشدياق
زكريا، فقال: ايش صار يا شدياق؟ أين راحوا؟
فأجابه زكريا: هربوا، ظهر لهم المسيح.
فتعجب الخوري وقال: وأين الخوري تيموتاوس؟
فقال زكريا: راح معهم.
فضرب الخوري بيديه على فخذيه وقال: يه، يه، يه، يه، يه، يا هتيكتنا،
٣٤ فزعوا من حمل الله!
ثم تفكر قليلًا وقال لزكريا باشمئزاز: عيب يا شدياق، عيب، أنت رجل طيب، الله غضب على
الضيعة ورسموه خوري، غلطة وقعت، العصمة لله وحده.
فمغمغ
٣٥ زكريا كلمات، وهدج
٣٦ الخوري جرجس ليعيد الناس، فسمع زوجته — الخورية — تقول: لو كان لنا حظ ما كان
ظهر المسيح لخورينا، فصاح بها الخوري: صدَّقت يا معتوهة؟
٣٧ روحي صلي، روحي، هذا وجه يظهر له المسيح.
وما خطا خطوات حتى عاد الخوري تيموتاوس والرعية مستحيين، فقال له الخوري جرجس بكل
هدوء:
كمِّل قداسك، خلصنا.
أما زكريا فظل واقفًا عن يمين مذبح البخور كالملاك، تقول عيناه لصاحبه الخوري تيموتاوس
أشياء كثيرة …