حديث خرافة
أحست أم جبرايل ببهر
١ لما فرغت من تنقية الطحنة، فقعدت كالخفاش
٢ تدلك عينيها. وبعد سكوت قصير جدًّا رفعت خصلة شعر شقراء هاجمة على خدها الأيمن
وقالت: كذَّاب الذي قال «القمح البلدي لي ولولدي». القمح البلدي ثلثه زوان وشيلم،
٣ مهما غربلنا ومهما غسلنا لا ينظف.
وشعرت بدوار
٤ لما استوت، شعرت كأن رجلها يابسة فجلست قائلة: تقبر الأرامل! حياتنا كلها طحن
وخبز، وطبخ ونفخ، وغسيل وترقيع، ما لنا ساعة نشاهد فيها وجه ربنا، عيشة من قلة الموت،
اسمي
أم جبرايل، وجبرايل ابن غيري. وانطوت تمتحن خدر
٥ رجلها، تقرصها فلا تحس أنها منها، وتمدها فلا تشعر أنها لها. ولما عادت الدماء
إلى مجاريها قامت لحاجاتها: جلت زجاجة قنديل الكاز، وزيَّتت الفانوس الخاص بعلف الفدان،
وأقبلت على العشاء تعدُّه، فالطبخة ناضجة لا ينقصها غير القلية والتوابل.
إن أبا جبرايل يخوِّر،
٦ وإذا أبطأ عليه الأكل ملأ البيت مسبَّات.
٧ والبيت حد الطريق، وأم جبرايل فتية، كبيرة النفس، يعز عليها أن يتحكم بها أرمل،
وعندها للسر بئر عميقة تقبر فيها ما يحدث من مشاكل بين المرأة وزوجها، وكثيرًا ما تحتمل
الضرب وتسكت طلبًا للسترة، وكسرًا للشر.
أما لحود — أبو جبرايل — فبارود مزيبق
٨ يلتمس سببًا لينفجر، ويعلم الناس أنه ناري الطبع فيستهابوه، لا يجد أمامه من
يبرز عند هذه المكرهة
٩ ويسكت إلا زوجته، فجعلها هدفَ «مراجله».
١٠ يدخل البيت لابسًا وجه النمر، فتحاول أن تكسر شراسته بابتسامة ناعمة، فيزداد عتوًّا
١١ ولا يرد المساء، وإذا استوضحته عن أمر فجوابه نبرات عنيفة، أو سكوت
مؤلم.
وضع النير والجراب في مكانهما وأخذ الفانوس فرأى فتيلته، التي سبَّ لأجلها أمس، ممروتة
ناعمة نظيفة كأنها خصلة حرير تلفح النار لفحًا. لم يجد مجال القول ذا سعة ليقول، فأخذ
الفانوس بيد والسل بيد، ومضى إلى القبو يفتش عن سبب آخر. رأى الدجاجات دخلت التبَّان
١٢ وذرَّت التبن، فطفق يعر ويهر.
١٣ لا يستطيع أن يلوم زوجته؛ لأنه هو الذي ترك باب القبو مفتوحًا، ففكر فاهتدى …
أليس على المرأة أن تكون متنبهة دائمًا؟ فأشغال الرجل كثيرة، وعلى هذا البناء هاج بحره.
ورأى جبرايل أن «خالته» لا تستحق هذا الشتم والسب فتنطح، ولكن والده ألقمه مما تعوَّد
أن
يطعمه إياه عند دخوله شخصًا ثالثًا، فسكت.
وبعد دقائق معدودات ذهبت غيمة شباط فعاد لحود كأحسن ما يكون الرجال، رقيق الجانب،
دمث
الأخلاق، يخاطب فروسينا بيا أم جبرايل، ويا بنت عمي. ثم انتهى العشاء على خير.
وامتلأ البيت ناسًا، فأبو جبرايل ذاهب إلى البندر
١٤ ليتقمش لابنه العريس، فأسعار دكان الصليب غالية، والمثل يقول: رح إلى البندر
وتغندر. عرس جبرايل بعد يومين، والطحنة الكبيرة التي نقَّتها أم جبرايل بمعونة جاراتها
هي
لتلك المعركة الطاحنة التي سيكون لها ما بعدها.
وشرع الساهرون يكلفون أبا جبرايل قضاء حوائجهم من المدينة، وهو يتقبل طلباتهم ببشاشة
ولطف. يقول لهذا: «تكرم»، ولذاك: «بسملله»، ولتلك: «من عيني». وكلف بشراء بابوج للشبينة،
١٥ فأجاب بقوة العادة: «على راسي». فابتسم الكهول، وقهقه الشباب، فانتفض، ولكنه لم
يقل كلمة احترامًا لبيته.
وجرى حديث التموين، فعيد السيدة (١٥ آب) ميزان الأسعار عندهم، والمثل يقول: لا يرخص
في
الشتاء غير الماء. التموين واجب، وهم قادرون، فموسم الحرير كان مقبلًا، والعنب طيِّب،
والتبغ جيِّد، والزيتون ممتاز، لا يبقى غير الحبة، ولا يسد هذا العجز بأرخص الأسعار غير
البترون، فكلفوا أم جبرايل درس حالة السوق، وتذمَّروا من كثرة الزنابير، فقال أحدهم:
سنةُ
حشراتٍ، الحيَّات بحر. وانساق الحديث فطال، حديث حيَّات … ثم انتقلوا إلى حديث الجن فقال
واحد: يا بو جبرايل، إياك أن تنسى، توقَ جن شير بنُّور، فوْعة
١٦ جن في هذه الأيام ما لها دين.
فهزَّ لحود برأسه وقال: عمك عم يا ملخم، أنا أبو جبرايل.
فضحك فتى وقال سرًّا: تشرفنا. ثم غمز رفيقه كأنه يقول: سنرى. فأسفرت تلك الغمزة عن
مؤامرة
مرتجلة، كان لها شأن جليل في تاريخ القرية.
لم يسمع أبو جبرايل وأتم حديثه قائلًا: لا تخافوا عليَّ، معي الخوري، بركة صليبه
تحرسني.
فقال آخر: انتبه لئلا ينشلوا الطحنة. مرة قعدت الجنيَّة لرجل في عرض الدرب، وأخذت
تنوح
وتبكي طالبة منه أن يركبها على دابته من النهر إلى الضهر، فأعجبه جمالها، فحط طحنته
وأركبها، أعطته ليرة فرح بها، ولكنه لم يجد الطحنة لما رجع، وافتقد الليرة فإذا هي شقفة
فخار.
وقال ثانٍ: وظهرت الجن لبو أنطون بشكل حطب، فحطَّب وعاد، وكان يتعجب من خفة حملته،
فلما
حطها قدام الباب دقَّ جرس الظهر فصلَّب، فاختفى الحطب كله إلا عودين من الزيتون.
فقال شيخ: الزيتون مبارك.
فصرخت أم جبرايل: اسم الصليب وذكر الصلبان.
وقال واحد: ملاعين الجن، سبحان خالقهم، أعطاهم خاصة ما أعطانا إياها. قال عمي بو جبرايل
معه الخوري، كأنه نسي قصة الخوري متَّى لما دعوه ليكلل لهم العريس، صلَّب الخوري فانطفأت
الأنوار واختفت الجماهير، فمات من الفزع، وبقي لسانه مربوطًا شهرين.
كان أبو جبرايل يسمع ويعتبر وينظر إلى عضلاته الغليظة … نوى في تلك الساعة أن يرجع
قبل
المغيب، وتسلح قبل الرحلة بكتاب مار قبريانوس، وبصليب ورثه عن جده، ولكن الدواب قصَّرت
في
العقبات الكثيرة فوصلت آخر السهرة وتبعها أصحاب الحوائج فكُّوا الحمولة ونزلوها، وانتظروا
أبا جبرايل فما جاء.
رابهم أمره، فقالت إحدى النساء: سمعت حس مشي خلف الدواب، فأين اختفى؟ وكيف وصلت
وحدها؟
فأجاب مستشار الضيعة: جن، قلت له لا تتأخر فما سمع كلمتي.
فولولت أم جبرايل، فقال فتى: نخوة يا شباب، يا الله، امشوا إلى مغارة شير بنُّور.
وبعد
دقائق بلغوها فوجدوا أبا جبرايل منبطحًا ببابها، يرن ويئن، وأفاق بعد إسعاف عنيف فخبَّر
أن
شابين لون وجههما أحمر، وشعرهما أصفر، وعيونهما مشقوقة بالطول، عزموا عليه، وحولوه بالقوة
إلى المغارة ليحضر وليمة العرس، وصلَّب قبل أن يمد يده إلى الطعام فاختفى كل شيء.
فابتسم الشابان وقالا: صحيح، ونحن سمعنا أغنيات ما سمعنا مثلها.
واجتمع مجلس القرية صباح الأحد بعد القداس فقرروا جميعًا أن استفحال أمر الجن ناتج
عن أن
القرية عندما انكسر جرسها بدلته بأكبر منه، فلم يدخل القبة حتى هدموا الأقواس التي يقوم
عليها الصليب، فظلت القبة بلا صليب … وقرَّ الرأي على أن يرفعوا صليبًا عاليًا يشرف على
قرارات أوديتهم.
ومضت سنوات لم يحسوا فيها أثر الجن، حتى كان أبو جبرايل يومًا في قطعة أرض له عند
النهر
فيها مغارة تأخذ منها النساء حجر «الملحقاق» ليعملن المعاجن والقدور، رأى امرأة منبوشة
الشعر فتأكد أنها جنيَّة، فترصدها حتى دخلت المغارة، ثم أقبل يرشق وجهه بإشارات الصليب
ويدهدي
١٧ الصخور برشاقة على بابها.
وصاحت المرأة صيحات رُجَّ لها النهر: دخيلك، أنا مرتا يا لحود، أنا مرتا يا بو جبرايل.
ولكن أبا جبرايل ظل يردم بخفة ويقول: لا مرتا ولا لحود، غِشِّي غيري، ما انقطع جنسكم
بعد
يا محروقة الدين؟
وابتعد الصوت لكثرة ما أهال لحود على باب المغارة من حجارة وتراب، فاستهوى وتنهد …
وإذا
بجرس الضيعة يدق، فتسمَّع وقال بعدما أبدى إشارات الرضى بهز جمع يده اليسرى: هذا جرس
يقطع
أثر الجن كلهم.