سباوتر إن
ادعوني إسماعيل. قبل بضعة أعوام، احتجت إلى العمل، لم يكن لدي آنذاك خطط لحياتي أو سكن فعلي، لذا قررت أن أبحر وأرى العالم، وقد فعلت هذا من قبل؛ عملت على متن السفن كلما شعرت بالاكتئاب، وإلا صرت عصبي المزاج، حتى إنني قد أجد نفسي أسير في الشوارع أطيح بالقبعات عن رءوس المارة.
أشك في أنني الرجل الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة؛ في المدن التي تجاور البحار مثلًا، ستجد المئات يحدقون في ماء البحر. لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن لشخص أن يعمل بمكتب. أحتاج إلى الحرية، إلى أن أعيش بين أحضان البحار وإلا فقد أجن!
لا يسع الرجال أمثالي مقاومة سحر البحار؛ قد ننفق كل ما نملكه من أجل رحلة إلى شاطئ، قد نجتاز الصحاري لنصل إلى هناك، وأسعد لحظاتنا على متن السفن تكون عندما لا نجد على مرمى البصر اليابسة.
لكنني لا أقصد الرحلات البحرية بصفتي راكبًا؛ فالراكب يحتاج إلى النقود لشراء التذاكر ويصاب بدوار البحر، ويتذمر من سوء الخدمة على متن السفينة، أما أنا فأقصد الرحلات البحرية بصفتي بحارًا.
دسست قميصًا أو اثنين في حقيبتي، ثم حملتها تحت ذراعي واتجهت إلى المحيط الأطلنطي، لكنني وصلت إلى مدينة بيدفورد متأخرًا، وفاتتني آخر رحلة بحرية إلى جزيرة نانتكت؛ فشعرت بخيبة الأمل، لكنني صممت على العمل على متن إحدى السفن المتجهة إلى هناك.
كانت سفن صيد الحيتان أفضل وسيلة للإبحار آنذاك، وميناء نانتكت كان أقدم موانئ الولايات المتحدة، فلما أردت أن أصبح جزءًا من التاريخ لم أشأ أن أرضى بما هو أقل من الأفضل.
ازدهرت صناعة صيد الحيتان آنذاك؛ فزيوت الحيتان استخدمت في عمل زيوت المصابيح التي احتاجها الجميع للرؤية ليلًا، وفي إضاءة مصابيح الشوارع، لذا أبحرت مئات السفن كل عام بحثًا عن الحيتان، أبحرت في جميع أنحاء العالم عدة أعوام. العمل على متنها كان شاقًّا، لكنني وددت خوض هذه المغامرة.
لم تكن الرحلة التالية إلى نانتكت ستقلع إلا بعد يومين، لذا احتجت إلى العثور على مكان لأقيم فيه وعلى طعام آكله، إلا أنني لم أكن أعرف أحدًا في نيو بيدفورد، من ثم سرت إلى شاطئ المدينة حيث تقع نزل الإقامة ذات الأسعار الزهيدة.
عثرت في نهاية المطاف على فندق يدعى سباوتر إن، كتب على لافتته أن مالكه يدعى بيتر كوفين. كان مبناه مائلًا، أصدرت لافتته القديمة صريرًا مع هبوب الريح. لا شك أنه لم يكن فندقًا جيدًا، لكنه بدا مناسبًا تمامًا لي.
بدا داخله متهالكًا كخارجه؛ فورق الحائط كان متآكلًا انطفأ لونه، أما الأثاث فكان ممزقًا، ذكرني المكان بالسفن التي يُحظر استخدامها.
على حائط ما، عُلقت لوحة كبيرة قذرة لوثها الدخان سنواتٍ حتى أصبح من المتعذر رؤيتها. بدت ككتلة من السواد تغطي كتلة أخرى من السواد. حدقت فيها بعض الوقت حتى أدركت أنها صورة لوحش الأعماق المهيب، الحوت.
أما الحائط المقابل فقد غطته مجموعة من الحراب والرماح؛ الأدوات التي يستخدمها صائد الحيتان. تساءلت ما هي قصة تلك الأدوات؟ وأي صائد حيتان استخدمها؟
سرت في ردهة الفندق التي ملأها الغبار؛ فوجدت المزيد من خزانات العرض التي تحوي كنوزًا من أراض بعيدة، ثم وجدت غرفة جانبية فتسمرت إزاءها دهشًة. حوت الغرفة بداخلها عظام فك حوت هائلة الحجم إلى حد أنه قد تمر من خلالها عربة صغيرة يجرها حصان.
فبينما أحدق في دهشة في العظام، إذ دلف الغرفة كهل، أخبرته بأنني أبحث عن غرفة أبيت بها قبل أن أقصد نانتكت.
فسأل: «هل تمانع مشاطرة الغرفة مع رمَّاح؟ سيكون عليك أن تتعود هذا بأي حال إن كنت ستذهب لصيد الحيتان. أليست هذه غايتك من الذهاب إلى نانتكت؟ صيد الحيتان؟»
فأجبته: «لا أحب حقيقًة مشاطرة الفراش مع أي شخص، لكن إن كان هذا هو كل ما لديكم، وهو رجل مهذب ….»
فقال صاحب النزل: «جيد! هل تود تناول العشاء؟ سيجهز قريبًا.»
ثم خرج من الغرفة، وتركني وحدي لأفكاري. تساءلت عما بعد، وعما سيقدم على العشاء.