مشاهدات
لمحنا في إحدى الليالي المقمرة بعيدًا عن ساحل البرتغال صفًا من الفقاعات في الماء، دل هذا على وجود حوت أو العديد من الحيتان تحت سطح الماء؛ فالحيتان تتنفس الهواء لأنها من الثديات وهذه الفقاعات أشارت إلى أنها تحت الماء تتنفس.
أول من لمح الفقاعات هو الرجل الذي وقف على قمة صاري السفينة؛ فنادى: «ها هو ينفث الهواء.» فعاد الرجال مجددًا إلى مواقعهم.
إلا أنهم تأخروا في هذا، فبحلول الوقت الذي بلغ فيه القبطان آهاب سور السفينة كان الحوت قد رحل؛ فأوينا إلى فرشنا ونحن نشعر بالإحباط.
ظهرت الفقاعات على سطح الماء مجددًا بعد عدة ليال؛ انبثق الماء والحوت يصعد إلى سطح الماء لينفث الهواء من منخاره، وشقت نافورة من الماء عنان السماء فصاح المراقب الذي وقف على قمة صاري السفينة مجددًا: «ها هو ينفث الهواء!»
فتحركنا جميعًا بسرعة … إلا أن الحوت اختفى بمجرد أن استعددنا لمطاردته.
أصر بعض الرجال على أنه الحوت نفسه وعلى أنه موبي ديك عينه، بل ظن بعضهم أيضًا أنه يستهزأ بنا ويتحدانا أن نقاتله.
ومن بين هؤلاء بالقطع القبطان آهاب؛ فقد شعر أن الحوت يثير غيظه، حتى إننا سمعناه يتمتم بصوت خفيض بكلمات ما.
بدأ ستارباك يشعر أن القبطان آهاب بدأ يفقد صوابه؛ فقد وضع نصب عينيه موبي ديك ولم يتحدث إلا عنه؛ لم يتحدث حتى عن زوجته وأطفاله في بلدته، ولا عن عدد الحيتان التي صدناها أثناء الرحلة، ولا عن مقدار زيت الحوت الذي سنعود به؛ لم يهتم إلا بالعثور على موبي ديك، كان هذا شغله الشاغل.
إن لحقنا بسفينة أخرى صاح سائلًا من على متنها: «هل رأيتم الحوت الأبيض؟»
فإن لم يبلغ بأي مشاهدة له، غضب، وذرع ظهر السفينة ساعات جيئة وذهابًا، وتمتم لنفسه بشيء ما، ولوح بقبضته أحيانًا في الهواء.
أما إن أُبلغ بمشاهدته فكان يشعر بالحماسة، ويعكف على دراسة خرائطه بدقة ليخطط وجهتنا التالية. بحث دومًا عما قد يأكله الحوت وكان موقنًا أن الحوت الأبيض سيسلك هذا المسار.
أبحرنا ذات يوم مارين بسرب من الأسماك الصغيرة التي تتغذى عليها الحيتان، وكان هذا مؤشرًا جيدًا على أننا قد نصادف حيتانًا عما قريب، فقررنا أن نكف عن الإبحار وأن ننتظر قدومها.
بعد مرور يومين فقط، أبصرنا جسمًا أبيض هائل الحجم أمامنا، كان أول من لمحه هو صياد يدعى داجو.
صاح قائلًا: «هناك! انظروا هناك! إنه الحوت الأبيض! الحوت الأبيض!»
كنا نسارع بالتحرك كلما صاح أحدنا بأن حوتًا على مرمى البصر، لكننا هذه المرة تحركنا بسرعة البرق، لم يرد أي منا أن يضيع هذه الفرصة، لم نرد أن يضيع من أيدينا الحوت الأبيض.
اتخذنا مواقعنا مجددًا في غضون دقائق ونزلت قوارب صيد الحيتان الأربعة الماء، وقادها قارب آهاب.
أبصرنا الكائن الأبيض على الفور، كان عملاقًا هائل الجسم، ممتلئًا، صعد إلى سطح الماء على مقربة من قاربنا، ثم سبح تحته.
تسارعت نبضات قلبي، وعجزت عن التصديق بأننا كنا قريبين إلى هذا الحد من موبي ديك! بعد كل ما دار عن هذا الحوت من أقاويل وقصص، كنا أخيرًا على وشك الإمساك به.
دهشت من هدوئه، فكل القصص التي سمعتها عنه تذكر تحطيمه للقوارب بذيله وطرحه للبحارة عن متن سفنهم. لقد صعد إلى سطح الماء ثم غطس مجددًا، كان وديعًا، لم يبد حتى أنه يلحظ القوارب المحيطة به.
سمعت ستارباك يقول بهدوء: «هذا ليس الحوت الذي نبحث عنه.»
لكن لم يسمعه أحد آخر، فقد تعلقت أعيننا جميعًا بالكائن الأبيض الذي يسبح تحت قاربنا. وقف كويكيج حاملًا رمحه في يده ينتظر أن يقرب الكائن إلى مسافة كافية تسمح له بإلقاء رمحه.
وسألت أنا ستارباك: «هذا ليس موبي ديك؟»
فأجاب ستارباك: «إنه وحش آخر من وحوش الأعماق»، ثم نظر إليّ من الجانب الآخر للقارب وتابع كلامه قائلًا: «إنه الحبار العملاق، لم يره إلا القليلون، ويعتقد الكثيرون أنه أكبر كائن بحري، ولا شك أنه مخيف بقدر الحوت الذي ننشده، بل قد يكون بالخطورة نفسها.»
فقلت: «لكنه ليس موبي ديك.»
فهز ستارباك رأسه ببطء. تساءلت إن كان يشعر بخيبة الأمل لأنه ليس موبي ديك. ألهذا كان هادئًا؟ أم أنه يشعر بالارتياح لأنه ليس موبي ديك؟
لاحظت بعد ذلك أن القبطان آهاب دار عائدًا بقاربه إلى بيكود؛ لا بد أنه أدرك بدوره أنه حبار.
عندما عدنا، كان آهاب قد قصد كابينته بالفعل، ولم يغادرها ثلاثة أيام.