جابرييل
ذات يوم أبصرنا سفينة، عندما اقتربنا منها أشار القبطان آهاب إلى طاقمه بإيقاف سير بيكود؛ فمن عادة البحارة التوقف وتحية بعضهم بعضًا؛ بذا انتقلت الأخبار والرسائل في الرحلات الطويلة.
إلا أن السفينة لم تقربنا؛ فأمر آهاب بالاقتراب منها أكثر إلى أن نصبح قيد عشرين قدمًا منها، فمن هذه المسافة سنح له مخاطبة الرجال على متنها بسهولة.
سار قبطان السفينة — وهو رجل يدعى مايهيو — إلى سور سفينته. أخبرنا أن كثيرًا ممن على متن سفينته يعانون مرضًا شديدًا، ولأنهم لم يشاءوا أن تنتقل إلينا أي جراثيم، لم يريدوا الاقتراب منا أكثر.
فصاح آهاب إلى السفينة الأخرى: «أود فقط أن أعرف هل صادفتم الحوت الأبيض؟»
فقال مايهيو: «آه، موبي ديك. نحن نعرفه جيدًا.» ثم بدأ يحكي لنا قصته الطويلة.
فقال: «لقد غادرنا نانتكت وعثرنا على حطام سفينة أخرى هاجمها موبي ديك، لم يتبق منها الكثير.»
أثار هذا النبأ حماسة آهاب، ولم يقلق إزاء احتمال أن يكون رجال قد أصيبوا أو قتلوا أثناء هذا الهجوم، لقد طرب لسماع نبأ عن الحوت الأبيض وحسب.
تابع مايهيو كلامه قائلًا: «أخذ رجل من أفراد طاقمي يحذرنا من هذا الخطر الجسيم؛ أخبرنا جابرييل أن علينا أن نجتنب الحوت الأبيض، فإن رأيناه يسلك طريقًا، فعلينا أن نسلك طريقًا آخر.»
فسأله آهاب: «وهل أصغيتم له؟»
فهز مايهيو رأسه نفيًا وأجاب: «لم نعثر على موبي ديك إلا بعدها بعدة أعوام، أبصرناه من قمة الصاري فاتجهنا إليه على الفور، كيف عسانا أن نقاوم هذا؟ الكل يعرف موبي ديك، والكل يود أن يكون فردًا من الطاقم الذي سيظفر به.»
فقال القبطان آهاب: «لكنه ربح. أليس كذلك؟»
هذه المرة، أومأ مايهيو برأسه إيجابًا وقال: «ركبنا زوارقنا، وأخذنا نطارده، لكنه أطاح بقواربنا. أحد جدافينا طُرح من قاربه وهبط أربعين قدمًا في عمق المحيط، لم نره مرة أخرى.»
فسأل آهاب: «وهل كان هذا هو آخر عهدكم بالحوت؟»
مرة أخرى لم يبد أنه يبالي بالرجل الذي قُتل.
فأجابه مايهيو: «جميع رجالي صدّقوا جابرييل. كلهم يرون أنه كان محقًّا منذ البداية، ما كان ينبغي لنا قط أن نبحث عن الحوت الأبيض.»
تساءلنا جميعًا كيف ستكون ردة فعل القبطان آهاب حيال هذه الأنباء؛ فتلك كانت قصة مخيفة. لقد وعينا إلى أن السعي إلى صيد موبي ديك قد ينطوي على مخاطر، لكن هذه القصة ذكرتنا بأن واحدًا منا أو أكثر قد يلقى المصير ذاته الذي لقيه الرجل الذي ضاع في البحر.
سأل القبطان مايهيو: «لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ أما زلت تبحث عن الحوت الأبيض؟»
فأومأ آهاب برأسه إيجابًا وقال: «نعم.»
عندئذ ركض رجل أحمر الشعر يرتدي صدرية ممزقة إلى سور سفينة القبطان مايهيو.
وصاح لآهاب: «لا، عليك أن تبتعد عن الحوت الأبيض؛ إنه هلاك للرجال.»
فصاح مايهيو: «جابرييل، ليس لك أن تتكلم هنا، وليس لك أن تحدث قبطان سفينة بهذه اللهجة.»
لكن جابرييل صاح: «لكن عليه أن يعرف! صيد الحوت الأبيض سيعني النهاية له ولطاقمه.»
تجاهل آهاب صياح جابرييل، حتى إنه لم ينظر إليه؛ فلم يكن لديه وقت لرجل مجنون.
وقال: «أعتقد أن لدينا خطاب لفرد من أفراد طاقمك»، ثم أرسل ستارباك إلى مخزن السفينة لتفقد حقيبة بريدنا.
اعتادت السفن أن تحمل البريد معها حتى تسلمه إن صادفت سفنًا أخرى في طريقها، تلك كانت إحدى الوسائل القليلة التي انتقل بها البريد عبر المسافات الطويلة.
عندما عاد ستارباك بالخطاب، قرأ آهاب على مايهيو اسم المرسل إليه؛ فقال: «إنه خطاب لهاري مايسي.»
فقال مايهيو متنهدًا: «آه. هذا هو الرجل الذي طُرح عن زورقه.»
فقال آهاب: «يؤسفني سماع ذلك.»
قال مايهيو: «سنأخذ الخطاب على أي حال. يبدو أن هذا هو الصواب.»
فصاح جابرييل: «لا، عليكم أنتم بالاحتفاظ بالخطاب. إن كنتم تبحثون عن الحوت الأبيض، فستلتقون مايسي عما قريب، عندئذ يمكنكم أن تعطوه الخطاب بأنفسكم.»
حاول ستارباك أن يمرر الخطاب إلى مايهيو مستخدمًا عمود طويل، لكن جابرييل أمسك بالعمود ودفعه ليعيده إلينا، فعاد الخطاب إلى سفينتنا ووقع عند قدمي آهاب.
هم آهاب بالتعقيب على هذا، لكن السفينة دارت فجأة ومضت مسرعة.
أمر جابرييل الجدافين بالمغادرة على الفور، فغادر الطاقم دون الحصول على تأكيد من القبطان.
دهشنا جميعًا على متن بيكود من هذا التصرف، فالقبطان وحده هو من يستطيع إعطاء أمر كهذا. بدا أن القبطان مايهيو لا يأمر بمعاملته بالاحترام الذي يستحقه، لعله هو أيضًا قد آمن بأن جابرييل يتمتع بقوى خاصة.
لعل الطاقم كله قد آمن بأن إطاعة أوامر جابرييل لن تضطرهم إلى ملاقاة الحوت الأبيض مجددًا.