أنباء جديدة عن موبي ديك
ظل الجو طيبًا إلى أن بلغنا سواحل جنوب سنغافورة. آمن آهاب يقينًا بأنه سيقاتل الحوت الأبيض آخر الأمر في هذا المكان، فهو أكثر موضع شوهد فيه الحوت.
لقد وجدنا هناك الكثير من الحيتان؛ فآهاب كان محقًّا؛ تلك كانت نقطة تجد فيها الحيتان غذاءها، فسعينا وراء تلك الطرائد جميعًا.
لا أذكر وقتًا لم أكن فيه صائد حيتان في تلك النقطة من رحلتنا، ولا أذكر حياتي قبل أن أنضم إلى طاقم بيكود إلا بالكاد. اعتدت الصيد جدًّا حتى إنني تعلمت أن أتحرك بغريزة من قضى أعوامًا بين البحار. عشقت الإثارة والمغامرة.
لكن كانت هناك دائمًا مخاطر غير متوقعة، فعلى سبيل المثال: حوصرت قواربنا الصغيرة أكثر من مرة بين حوتين عملاقين، فلم تنجنا إلا براعة ستارباك.
قبل أن يمضي وقت طويل على معركتنا مع سفينة يونجفراو، صادفنا سفينة أخرى من إنجلترا تدعى صامويل إندربي، حيينا طاقمها فحيونا ودعونا إلى متن سفينتهم.
سأل آهاب سؤاله المعتاد قبل أن يغادر بيكود: «هل صادفتم الحوت الأبيض؟» فلم يجبه قبطان صامويل إندربي، وإنما رفع بدلًا من ذلك ذراعه؛ كانت ذراعًا مصنوعة من عظام حوت.
فصاح آهاب: «فهمت!» وقفز بسرعة في زورق اتجه به إلى السفينة الأخرى.
لكنه نسي لسوء الحظ أن الصعود إلى متن سفينة لا يألفها بساقه الخشبية سيكون صعبًا. كانت بيكود ذات تجهيز خاص يسمح له بالتجول فيها، أما السفينة الإنجليزية فقد استغرق صعوده إلى متنها وقتًا أطول قليلًا من المتوقع.
وبعدما بدا أنه لن يصعد السفينة قط، بلغ أخيرًا قبطانها، فسأله عن ذراعه.
قال: «الحوت … أليس كذلك؟ الحوت هو من بتر ذراعك؟»
فأجاب القبطان الإنجليزي: «نعم، بترها كما بتر ساقك.»
فأومأ آهاب برأسه وقال: «قص علي قصتك. صف لي معركتك معه.»
فأومأ الإنجليزي برأسه، ثم أخذ يسرد قصته.
قال: «كانت تلك أول مرة أبحر فيها على متن سفينة صيد حيتان، ذات يوم أبحرنا دون توقف عندما بدا لنا فجأة أن قاع المحيط يرتفع بجانب سفينتنا. كان هذا الحوت الأبيض يصعد، لم أكن قد سمعت به من قبل، رأسه كان عملاقًا، ذو جبين مجعد، غُرست بجانبه رماح قديمة.»
فقال آهاب: «هذه رماحي. كانت هذه رماحي» تمتم بهذا بصوت بدا كالفحيح.
فتابع الإنجليزي كلامه قائلًا: «لقد حاول أن يقضم حبلًا يصل بين اثنين من زوارقنا».
فقال آهاب منفعلًا: «أجل، لقد عهدته! هذا هو ما يفعله! لكن أطلعنا على الباقي».
فقال القبطان: «أنا أحاول ذلك».
فحاول آهاب أن يهدأ، لكن هذا كان صعبًا؛ إذ تاق لسماع القصص عن الحوت الأبيض.
تابع الإنجليزي كلامه قائلًا: «كما أخبرتك. كان الحوت يعض حبلًا يصل بين اثنين من زوارقنا. لا بد أنه علق بأسنانه لكننا لم نفطن إلى ذلك، من ثم لما شددنا الحبل جذبناه لينقلب على جانبه وطُرحنا جميعًا في الهواء، لكن أين هبطنا؟ على ظهر الحوت بالضبط! ضرب زورقنا الصغير عدة مرات بسرعة فتحطم».
ثم تابع كلامه قائلًا: «حاولت أن أتشبث برمح غرس بجانبه، لكنني لم أستطع ذلك لوقت طويل؛ فأمواج البحر كانت عاتية وسحبت تحت الماء وفي طريقي مررت برمح آخر برز من جانب الحوت مزق جلدي».
انضم جراح السفينة إلى المحادثة وأخبر رجالنا عن المحاولات التي بذلها لإنقاذ ذراع القبطان كانت إصابته بالغة حتى إن الذراع كان لا بد من بترها.
أنصت الرجال جميعهم إلى القصة باهتمام، لكن آهاب كان قد بدأ يقفد صبره؛ إذ لم يرد أن يستمع إلى قصة علاج القبطان؛ أراد أن يجمع معلومات حول الحوت.
فسأل: «هل رأيتموه مجددًا. هل كانت تلك آخر مرة أبصرتم فيها موبي ديك؟»
فأجاب القبطان: «لم نكن حتى متأكدين من أنه موبي ديك؛ فقد كنت حديث العهد بسفن صيد الحيتان كما أخبرتك، لكنني أدركت أنه هو عندما التقينا بغيرنا من صيادي الحيتان وقارننا ملاحظاتهم عنه بملاحظاتنا».
فألح آهاب في سؤاله قائلًا: «أجل، لكن هل رأيتموه ثانيًة؟»
فأجاب القبطان الإنجليزي: «نعم، أبصرناه مرتان أخرتان»
فسأل آهاب ذاهلًا: «ولم تمسكا به؟!»
– «لم نحاول حتى القيام بهذا. لقد خسرت أحد أطرافي. يكفي هذا».
فقاطع جراح السفينة الحديث قائلًا: «عليك أن تتذكر أن الحوت لا يمكنه أن يهضم شيئًا كبير الحجم. من الناحية التشريحية يستحيل له هذا؛ فإن عضك حوت ما، فهذا ليس إلا لأنه خطر».
هنا فرغ صبر آهاب، فنفض ذراعيه في الهواء، وزفر في ضجر.
ثم صاح في جدافي زورقه: «عودوا إلى الزورق يا رجال»، وفي لمح البصر، عادوا إلى متن بيكود.
هناك، نظر آهاب جيدًا إلى ساقه العاجية فتبين له أنه أتلفها؛ إذ لم يتعود الركض والهرولة؛ كانت قصة الحوت قد أزعجته ويرجح أنه داس على ساقه بقوة بدون أن ينتبه إلى ذلك، من ثم نادى نجار السفينة.
قال له: «أريدك أن تصنع لي ساقًا جديدة. أريد عظمة من عظام الحوت التي نختزنها. جد أفضل عظمة وخذ كل المقاييس اللازمة. سأحتاج هذه الساق الليلة».
فغادر النجار على الفور ليبحث عن أفضل عظمة حوت تناسب قبطانه.