اليوم الأول
«الزوارق! الزوارق! إلى الزوارق يا رجال!» صاح القبطان آهاب بتلك الأوامر وهو يهبط الطابق العلوي من السفينة؛ لم يهبط إلا بضع درجات قبل أن يبلغ جانب بيكود.
نزلت جميع الزوارق الماء عدا زورق ستارباك. كان ماء البحر هادئًا مستقرًا، امتد أمام الرجال وكأنه بساط. جدفوا جميعًا بسرعة، لكنهم دنوا من هدفهم بحذر. كان زورق آهاب في الطليعة.
طفا زورقه على مسافة قصيرة جدًّا من الحوت حتى إن من على متنه استطاعوا أن يبصروا رأس موبي ديك الأحدب وهو يسبح بنعومة في الماء. رأى القبطان آهاب جبين الحوت المجعد وهو يبرز من الماء فاحتبست أنفاسه. كان مشهدًا جميلًا.
تراقصت فقاعات الماء بجانب رأس موبي ديك وهو يسبح في الماء، وحامت الطيور فوق ظهره؛ كانت تنزل الماء ثم تطير مجددًا إلى السماء.
برز من ظهر الحوت رمح طويل يذكر بصياد قاتل الحوت الأبيض وخسر معركته معه.
أدركت عندئذ كيف يجذب موبي ديك الكثير من البحارة الذين يحسبون أنهم قادرون على هزيمة هذا الوحش وصيده؛ كان الاقتراب منه يبدو سهلًا، وبدا هادئ الطباع، إلا أن تلك لم تكن الحقيقة.
رفع موبي ديك أخيرًا جسده الهائل عن الماء وانحنى على نحو مذهل ليكشف عن رأسه العملاق وفكه المخيف ثم ارتطم بالماء ليرسل موجة من الزبد امتدت إلى الزوارق التي اقتربت منه ثم غاص مجددًا في الماء.
أمسك الرجال على متن الزوارق بمجاديفهم واستعدوا لإنزالها في الماء وبدء التجديف عندما يعطي آهاب الأمر بذلك، وانتظر الجميع أن يبرز موبي ديك مجددًا من تحت الماء.
أشار رجل إلى السماء وقال: «الطيور! انظروا إلى الطيور!»
اندفعت الطيور فجأة نحو قارب آهاب وهي تصدر صيحات فرح؛ فقد فطنت إلى ما أوشك أن يحدث.
بدأ ماء البحر يفور. نظر آهاب أسفل قاربه فوجد نقطة بيضاء تحته أخذت تكبر شيئًا فشيئًا حتى تحولت إلى رقعة بيضاء كبيرة، عدلت مسارها إلى جانب القارب ثم ظهر صفا أسنان مخيفين. كان هذا موبي ديك يصعد من القاع فاغرًا فاه، وهو يتأهب لابتلاع قارب آهاب.
انتزع آهاب مجدافًا من أحد رجاله وانعطف بالزورق بسرعة ثم اتجه إلى مقدمته والتقط رمحًا وتأهب للتصويب وأمر رجاله بالاستعداد للتجديف فور ما يعطي الأمر بذلك.
هدفت تلك الخطوة إلى أن يصل الزورق إلى جانب رأس الحوت عندما يبلغ سطح الماء، لكن لا شك أن موبي ديك فطن إلى هذا؛ إذ تحرك ليتبع آهاب، وتقلب في الماء ليصعد بالجزء السفلي منه أولًا إلى السطح ثم بجزئه العلوي وفغر فاه على آخره ورفع فكه السفلي فوق الزورق محاولًا أن يقضمه.
أفلت آهاب بأعجوبة من أحد أسنان الحوت وهو يطبق بفمه على أحد طرفي الزورق الذي أمسكه بفمه وأخذ يهزه كما يهز الهر جرذًا فحاول الرجال الإفلات من فكه بالاتجاه إلى الطرف الآخر من الزورق، كلهم فعل هذا، عدا آهاب الذي لزم موقعه في مقدمة الزورق.
لكن حتى سائر الرجال لم يستطيعوا الفرار بعيدًا؛ فالزورق كان صغيرًا لا سيمًا إن قورن بفك الحوت العملاق. حاول الرجال أن يضربوا موبي ديك بمجاديفهم ورماحهم لكنهم ما كانوا ليحسنوا التصويب قط؛ إذ لم يستطيعوا الوصول إلى أبعد من فكه؛ كان جزء كبير من الزورق في فمه.
بدأ الزورق يتحطم حول الرجال. كان آهاب يطعن الحوت بالمجاديف والرماح ويضربه بكل سخطه لكن بلا طائل، إلى أن انقسم الزورق الصغير إلى نصفين.
فسقط جميع من يحمله بالماء. سبحوا معًا وتشبثوا بنصف حطام الزورق، يرفعهم الموج تارًة ويضعهم أخرى.
وطُرح آهاب على وجهه في الماء، وغاص تحته.
هنا ابتعد الحوت عن حطام الزورق وسبح على مقربة من الرجال. كان الجزء الأعلى من رأسه يعلو سطح الماء بعشرين قدمًا. تواثبت الأمواج على جسده وهو يتربص لهم لبعض الوقت.
ثم أخذ يسبح مجددًا. دار حول الحطام والطاقم في دوائر. كان هائل الجسم إلى حد أنه صنع دوامة حولهم.
تصارع آهاب مع الموج، إذ تعذر عليه السباحة بساق واحدة. كان رجال زورقه يتشبثون بحطام الزورق فلم يستطيعوا الوصول إليه، أما زوارق الصيد الأخرى — بما فيها الزورق الذي حملني — فلم يلحق بها ضرر. شاهدنا جميعًا المشهد بأكمله وأردنا بشدة أن نساعد القبطان، لكن لم يكن هناك سبيل لاعتراض المسلك الذي صنعه الحوت؛ لقد ضاقت دوائره أكثر فأكثر وحاصرت الرجال جميعهم.
فصاح آهاب لمن ظل على متن بيكود: «أبحروا! أبحروا!» ثم اعترضت موجه هائلة صياحه.
تابع بعدها كلامه قائلًا: «أبحروا نحو الحوت! أبعدوه».
وكان هذا ما فعلته بيكود. أبحرت معترضة الدوائر التي سلكها الحوت فسبح مبتعدًا وتحركت زوارق الصيد الأخرى لإنقاذ القبطان ورجاله.
جذب ستابز آهاب إلى زورقه، أما زورقي فكان قد عاد بالفعل إلى بيكود. انحنيت أنا وكويكيج على سور السفينة لنشاهد إنقاذ القبطان. لقد تمدد على أرض زورق ستابز محطمًا، مكدومًا ونادى على الأخير.
فسأله: «أين رمحنا؟ هل فقدنا رمحنا؟»
فأجاب ستابز: «كلا يا سيدي. إنه معنا هنا».
فتنهد آهاب قائلًا: «جيد … جيد … فضلًا ضعه بجانبي».
فوضع ستابز الرمح على صدر آهاب.
ثم سأل آهاب: «والرجال؟ هل فقدنا أي من الرجال؟».
فهز ستابز رأسه نفيًا وقال: «كلا يا سيدي. جميعهم هنا».
فقال آهاب: «ساعدني لأقف. أريد أن أقف.»
فساعد ستابز ورجل آخر القبطان على الوقوف، فنظر صوب الاتجاه الذي سبح فيه موبي ديك.
ثم صاح: «انظروا. أستطيع أن أبصره. ها هو منخاره ينفث الماء في البحر. هذا هو كل ما أحتاجه. لقد استعدت قواي. لتجهز مجاديفكم! سلحوا الصيادين! لقد عدنا إلى القتال».
لكن الحوت الأبيض سبح بعيدًا بسرعة كبيرة، سرعة تفوق بكثير قدرة زورق صغير تحركه المجاديف. كانت مواكبته مستحيلة.
من ثم، حُمل الزورقان المتبقيان إلى بيكود، وانطلقت السفينة لمطاردة الحوت. صرنا في لمح البصر نسير خلف الزبد الذي خلفه وهو يمضي.
بحث الرجال على متن صاري السفينة عن أثر له، وكلما لمح أحدهم كيانًا أبيضًا يشق سطح الماء نادى على الطاقم وأعلمه متى غاص الحوت تحت الماء.
ذرع آهاب ظهر السفينة جيئًة وذهابًا منتظرًا أن يصعد موبي ديك إلى السطح مجددًا. شعر بالانزعاج الشديد وأخذ يعد الدقائق إلى أن مضت ساعة، فالحيتان لا تستطيع أن تمكث تحت الماء لأكثر من هذه المدة، وما أن مضت آخر ثانية من الساعة، نادي على طاقمه سائلًا: «هل رآه أحد؟ هل سيربح أحدكم الدبلون؟».
لكن لما جاءته الجواب بالنفي، شعر بالإحباط أكثر وأبى أن يغادر ظهر السفينة. ظل يحدق في الماء منتظرًا أي إشارة على وجود موبي ديك.
وامتد انتظاره طوال الليل، إلى صباح اليوم التالي.