اليوم الثاني
تبادل الرجال على قمة صاري السفينة نوبات المراقبة فجرًا، لم يكن هناك سبيل إلى معرفة المسافة التي قطعها موبي ديك، ولم ندر هل ما زلنا في أثره.
لكن لما بدأ الأمل يهجرنا، لاح موبي ديك للعيان.
قفز في الهواء ثم عاد إلى الماء مرتطمًا به، بدا هذا مشهدًا رائعًا لكنه بث الخوف في قلوب العديد من الرجال؛ إذ كنا قد رأينا ما بوسع الحوت أن يفعله.
صاح آهاب لموبي ديك: «آمل أن تكون قد عرفت أنك بصدد الموت، رجالنا مستعدون، رماحنا معدة. هذه نهايتك.»
أُنزلت ثلاثة قوارب إلى الماء هذه المرة، ركب كويكيج أحدها، وركبت أنا في زورق آخر، أما ستارباك، فقد مكث على ظهر بيكود.
قال آهاب لستارباك: «السفينة تحت قيادتك يا ستارباك، انأ بها عن الزوارق لكن لا تبتعد بها.»
لم تستغرق الزوارق إلا وقتًا قصيرًا لبلوغ الماء وزورق آهاب يتوسطها، فاندفع موبي ديك نحونا مسرعًا إلى أن بلغ سرعة مخيفة، سبح فاغرًا فاه على آخره وذيله يتلوى بعنف كالسوط.
كان جميع من بالزوارق بحارة ذوي خبرة، من ثم لما فطنوا لما قد يقع، عرفوا كيف ينأون عن الوحش. أخذت الزوارق تنعطف وتدور لتبتعد عن الحوت الثائر، وصرخ آهاب بصيحات تشجيعية للجميع، ووعد بأن نفوز ونقضي على موبي ديك. ما كان ليسمح له بالتفوق مجددًا.
تمكن الصيادون من إصابة الحوت برماحهم والزوارق تقترب منه وتبتعد عنه. هللنا مع كل رمح غاص في جسده، إلا أن هذا لم يبطئه.
ولأن كل رمح اتصل بحبل، امتدت الكثير من الحبال بين الزوارق وتشابكت مع اندفاع موبي ديك كالسهم نحو الزوارق واندفاع الزوارق بعيدًا عنه.
ثم نمت خطورة الموقف؛ احتُجز قارب آهاب بين الحبال وعجز عن الحراك.
فاتخذ آهاب الإجراء الوحيد الممكن؛ أخذ في قطع بعض الحبال؛ إذ لم يتح سبيل آخر لتخليص زورقه.
فغاص الحوت إلى عمق كبير في الماء ثم اندفع إلى السطح، لكن ليضرب هذه المرة قاع زورق آهاب بأنفه ويطيح به في الهواء، فيسقط القبطان وطاقمه في الماء.
بعدها غاص موبي ديك مجددًا في الماء وسبح بعيدًا تاركًا البحر ساكنًا بعض الوقت.
دنت سفينة بيكود وجذبت طاقم زورق آهاب إلى مأمن.
طلب آهاب المساعدة للمشي على ظهر السفينة؛ شهق الكثير من الرجال لدى رؤيته لكن لم ينبس أحدهم بكلمة؛ كانت ساقه العاجية قد انكسرت ولم يتبق منها إلا شظايا.
توقف آهاب وقتًا كافيًا لطلب عكاز، ثم دعا رجاله إلى حماية زوارق الصيد وصاح آمرًا برفع الشرع لإسراع سير السفينة. صاح قائلًا: «لقد اقتربنا من غايتنا يا رجال! سنمسك بهذا الحوت قريبًا.»
هنا فاض الكيل أخيرًا بستارباك، فلم يعد قادرًا على احتمال رؤية طاقمه يعرض للخطر مجددًا. كان الرجال قد ظلوا يقظين قرابة يومين، وكانوا بحاجة إلى قسط من الراحة.
من هنا صاح ستارباك في آهاب: «لن نمسك به أبدًا أيها الكهل! لن نمسك به بهذه الطريقة، هذه المطاردة استمرت يومين، وقد فقدنا قاربين! وأنت خسرت ساقك مجددًا. ما الذي تنتظره؟ ألن تكف إلا عندما يقتل رجالك جميعًا؟»
دهشنا جميعًا من الطريقة التي خاطب بها ستارباك القبطان. لم نعهد موقفًا كهذا قط، فالبحار لا يصيح قط في قائده؛ عليه أن يطيع الأمر بالحرف الواحد وإلا عد خائنًا. توقعنا جميعًا أن يعاقب آهاب ستارباك أو أن يأمر بحبسه، لكن آهاب أجابه بهدوء.
قال له: «لا يسعنا التوقف الآن، هذا حكم القدر، هذا الحوت قدر لي، وأنت فرد في طاقمي، لذا فقد قدر لك أنت أيضًا.»
نادى الرجل الذي وقف على قمة صاري السفينة الجميع تحته.
صاح: «إنه يسبح بجوارنا» وأشار إلى جسم أبيض عن يسار السفينة. سبح موبي ديك مسايرًا بيكود عدة أميال، وبعدها اختفى مجددًا تحت الأمواج.