النهاية
سنحت لنا الفرصة أخيرًا للإمساك بالحوت في اليوم الثالث، فمع أن آهاب فقد ساقه، أصر على أن يقود زورقًا ورفض أن يسمح لأي شيء بعرقلته عن ذلك.
نادى على ستارباك لدى إنزال قاربه الماء وقال له: «لا يخرج الكثير من الرجال من هذه المعارك أحياء.»
فقال ستارباك: «أجل سيدي. أنت محق تمامًا.»
– «ستارباك، أنا كهل. صافحني يا رجل.»
فأمسك ستارباك يده وشدد عليها ثم قال: «سيدي القبطان، هلا أعدت التفكير في الأمر؟ ابق معنا على ظهر السفينة.»
فأفلت آهاب يده وأمر بإنزال الزورق.
هنا انتبه ستارباك إلى خطر جديد وصاح: «أسماك قرش! عد يا سيدي! أسماك قرش قادمة.»
لكن آهاب لم يسمع شيئًا من هذا. كان قد أخذ في التجديف مبتعدًا وفي إعطاء الأوامر للرجال محاولًا الاقتراب بزورقه من موبي ديك.
سُمعت صيحة. كان الرجل الذي يقف على قمة صاري السفينة يصرخ بشيء لآهاب؛ الحوت كان يصعد تحت زورق آهاب؛ لكن آهاب حرك زورقه أملًا في أن يصل برجاله إلى نقطة مناسبة لإصابة موبي ديك بالرماح.
اندفع موبي ديك خارجًا من الماء ثم عاد إليه مرتطمًا به وجسده تكسوه الرماح والحراب القديمة والجديدة ويجرجر في أثره حبالًا.
اهتزت كل الزوارق من أثر ارتطامه بالماء، لكن الجميع ظل على ظهر السفينة.
شاهد ستارباك كل ما يجري فحدث نفسه قائلًا: «آه، يا سيدي. ليتك تترك هذه المهمة المريعة، لما لا تدرك أن الحوت لا يكترث لك. أنت من يطارده لا هو من يطاردك.»
لكن آهاب واصل مهمته. اتخذ رماة الرماح مواقعهم على قمة صاري السفينة، وتمركز آخرون عند سورها.
استطاع آهاب أخيرًا أن يدنو من الحوت ورماه برمحه؛ فاستقر الرمح فوق صدر الحوت الهائل وتقلب موبي ديك عدة مرات محاولًا أن يتخلص من الرمح والحبل المتصل به، لكنه أثناء تقلبه كاد أن يسحب معه آهاب وقاربه.
هنا جدف الرجال على متن زورق آهاب سريعًا لنقل الزورق إلى نقطة أكثر أمنًا. تعين عليهم الاندفاع عدة مرات إلى الأمام وإلى الخلف قبل أن يبلغوا نقطة آمنة؛ فسبح موبي ديك مبتعدًا عنهم، وأخذ يترقبهم. كان يستريح على مسافة قصيرة منهم.
توقع كل الرجال على متن بيكود ما سيلي. حاول الرجال على قمة الصاري تحذير آهاب، لكنه لم ير أو يسمع إلا الحوت.
اندفع الحوت إلى الأمام فجأة من جديد بسرعة كبيرة، لكن آهاب صوب ببراعة نحوه مجددًا واخترقه برمح آخر.
ثم نظر إلى بيكود، كان ستارباك يستند إلى سور السفينة والقلق البالغ يبدو عليه، أما سائر أفراد الطاقم فقد أخذوا في الاستعداد لجذب الحوت إلى بيكود. بدا التعب والإنهاك على الجميع تحركوا لكن ناعسين.
حتى الحوت الهائل بدا أنه يبطئ، لعل قواه بدأت أخيرًا تخور بعد مطاردته ثلاثة أيام. لم يبد النشاط إلا على أسماك القرش المحيطة.
تساءل آهاب عندئذ هل تنتظره أسماك القرش أم تنتظر الحوت.
ثم غاص بدون تردد برمح آخر في جسد موبي ديك.
فأصدر الحوت أنينًا وتقلب على جانبه ضاربًا قارب آهاب أثناء ذلك حتى كاد يقلبه.
تمكن آهاب من الإمساك بعارضة خشبية فلم يسقط في الماء، لكن الحظ نفسه لم يحالف ثلاثة من رجاله وقعوا من الزورق لكنهم استطاعوا الطفو على سطح الماء.
دمر زورق آهاب تقريبًا، وطرح بعض من رجاله في البحر وتبعثرت الحبال والرماح على أرض الزورق.
فدنت سفينة بيكود لتقديم المساعدة، أراد سائر الطاقم أن ينتشل الرجال الذين طرحوا من زورقهم وأن يساعدوا القبطان آهاب على العودة إلى السفينة.
فالتفت موبي ديك مواجهًا السفينة الضخمة، رفع رأسه قليلًا فوق الماء وكأنه يراها للمرة الأولى. لعله قرر عندئذ أنها السبب في جميع مشاكله، فتربص لحظة ثم اندفع نحوها.
رأى آهاب ورجاله الحوت وهو يندفع صوب السفينة؛ فحاولوا عمل أي شيء للحيلولة دون وقوع هذه الكارثة. جدفوا بأقصى سرعتهم وصاحوا للرجال على متن بيكود، لكن دون فائدة.
ضرب الحوت السفينة بكل قوته فاهتزت وطرح جميع من على متنها أرضًا، فنهضوا على الفور محاولين بلوغ السور إذ كان عليهم أن يتأهبوا لإلقاء الحبال على الحوت أو رميه بالرماح إن لزم الأمر.
لكن موبي ديك ضرب السفينة مجددًا وطرح كل من على متنها أرضًا مرة أخرى.
بلغ الرجال سور السفينة واستعدوا للحوت بالرماح والحراب، وانتظروا أن يظهر مجددًا وقد تسلحوا لمواجهته.
إلا أنه عندئذ كان تحت السفينة. ضرب قاعها مجددًا برأسه فتصدع مصدرًا طقطقة مدوية سمعها الرجال؛ موبي ديك حطم السفينة. كانت تغرق!
فيما أخذ موبي ديك يضرب السفينة برأسه، صوب آهاب نحوه مرة أخرى وسدد له رمحًا اخترق لحمه فأطلق صرخة مريعة.
فصعد الحوت من تحت السطح الماء، كان رأسه يعلو صاري السفينة الغارق بارتفاع كبير لكنه عاد إلى الماء مرتطمًا به وغاص في الأعماق.
تبعه الحبل المتصل بآخر رمح ألقاه آهاب، ولم يبد أن القبطان آهاب قد انتبه إلى أن الحبل متشابك. دار الحبل خارج الزورق على نحو لا يمكن السيطرة عليه تابعًا الرمح والتف حول رقبة آهاب وانتزعه من الزورق قبل أن يتسنى له أن يصيح، وجره الحبل خلف الحوت.
وقف من تبقى في زورق آهاب في البداية بلا حراك مشدوهين. لما التفتوا إلى بيكود، واجهتهم مفاجأة أكبر، فلم يتبق شيء من السفينة سوى الجزء الأعلى من صاريها، شاهدوه وهو يميل ثم يغوص ليغمره الماء إلى الأبد.
ثم جذبت الدوامة التي صنعتها سفينة بيكود الغارقة زورق آهاب — آخر زورق صيد — ليتبع السفينة إلى الهلاك.
قد تتساءل أين كنت أنا طوال هذا الوقت؟ كنت مع آهاب على متن زورقه، شاهدته وهو يُجر خلف الحوت من على بعد أقدام قليلة.
أنا كنت الناجي الوحيد من سفينة بيكود، الباقون جميعهم غرقوا مع السفينة أو آخر زورق صيد، أنا من تبقى ليروي قصة القبطان آهاب مع موبي ديك.
حاول الكثير منا أن يسبح بعيدًا عندما سُحب زورق الصيد الذي كنا نركبه بتأثير سفينة بيكود الغارقة، كنت أنا الوحيد الذي سبح إلى نقطة آمنة، لكن لم يتبق لي شيء، ولم تلح لي أي فرص أخرى للنجاة. حسبت أنني لن ألبث أن أغرق، أو أن أسماك القرش لن تلبث أن تجدني.
ثم أبصرت صندوقًا خشبيًّا يندفع من تحت الماء طفا نحوي، كان هذا هو كفن كويكيج.
تسلقت إلى داخل الصندوق وطفا بي ثلاثة أيام، في نهاية الأمر انتشلت من الماء، عثر علي طاقم سفينة رايتشيل، كانوا ما يزالون يبحثون عن زورق الصيد ورجالهم الذين فقدوهم.
شعرت أنه من الغريب أن تبحث سفينة رايتشيل عن أبنائها المفقودين لتجدني أنا وحسب؛ لتجد يتيمًا آخر.