الكنيسة
استيقظت صباح اليوم التالي شاعرًا بالحيوية والانتعاش، وصحا كويكيج في الوقت نفسه. شاهدته وهو يغتسل عند حوض الماء، ثم رأيته يرتدي ملابسه؛ لبس صدريته وقبعته ثم حمل رمحه وغادر الغرفة.
لحقت به بعد وقت قصير.
كان سائر النزلاء الذين جلسوا على مائدة الإفطار صائدي حيتان، لكنهم هذه المرة جلسوا يأكلون والصمت يخيم على المكان. وجدت هذا مضحكًا بالأخذ في الاعتبار أن البحارة يشتهرون بأنهم صاخبون ثرثارون، لعل تلك حالهم فقط عندما يبحرون أو يعودون من رحلة طويلة.
جلس كويكيج على رأس المائدة لا يأكل إلا اللحم … لا الخبز، ولا زبدة المربى، اللحم فقط.
اتجه الجميع عقب الإفطار إلى حجرة الجلوس، أما أنا فخرجت للتمشية بعض الوقت.
كانت تلك أول مرة أقصد فيها بيدفورد، وقد أدهشني الناس هناك على اختلافاتهم، كان هناك بشر من جميع الألوان، بدا أنهم يرتدون ما يريدون. ارتدى رجل على سبيل المثال قبعة من فراء القندس وصدرية وحزامًا كبيرًا عُلق في جانبه سكين.
اتجهت إلى كنيسة؛ فأنا مسيحي، لكن لا يتسنى لي الذهاب إلى الكنيسة كل أحد؛ فمن الصعب أن أواظب على هذا لأنني أمضي الكثير من الوقت بين البحار.
كانت العظة على وشك أن تبدأ؛ فجلست بين البحارة وزوجاتهم وأراملهم أنتظرها.
وضعت في كل أنحاء الكنيسة ألواح تذكار للبحارة الذين لقوا حتفهم في عرض البحر، تبرع بها زملاؤهم الملاحون وأسرهم.
نظرت إلى يساري، فدهشت عندما وجدت كويكيج يجلس في آخر الصف الذي أجلس فيه. كنت أعلم أنه ليس مسيحيًّا، فقد حمل معه وثنًا يصلي له، رأيته معه في غرفتنا بالفندق.
أومأ كويكيج برأسه لي عندما رآني ثم عاد مجددًا إلى انتظار بدء العظة في هدوء.
سار القس — الأب مايبل — إلى مقدمة الكنيسة. كان كهلًا طويل القامة ذا لحية طويلة كثة زحف إليها الشيب، وقد عرف بأنه كان فيما مضى رماحًا. سمعت بعض صائدي الحيتان يتحدثون عنه قبل أن أصل إلى المدينة.
صعد الأب مايبل سلمًا ببطء على نحو درامي ليصل إلى المنبر؛ فلما بلغ أعلاه، سحبه إلى أعلى، فلم يعد بالإمكان لأحد صعوده ولم يعد هو قادرًا على نزوله. بدا كبحار على منصة مراقبة في سفينة، وكأنه يقف أعلى صارٍ.
طلب الأب مايبل من الحضور التزام الصمت ثم قال: «من الميمنة إلى الميسرة توجهوا إلى المنتصف! إلى المنتصف!» استخدم أسلوب البحارة؛ كان يطلب من الحشد الجلوس وترك جانبي القاعة.
ما إن بدأ القس مايبل يتكلم حتى هبت عاصفة هائلة، ضربت رياحها وأمطارها النوافذ، لكن لم يزعج هذا الأب مايبل؛ فقد خرج صوته قويًّا هادئًا، ولم ينزعج أي من الحضور من هذا، لم يكترثوا إلا بكلمات الأب مايبل.
حكى الأب مايبل قصة يونس في بطن الحوت وقال للحضور: «أنتم تعرفون القصة من الإنجيل؛ فقد سمعتموها، لكن هل أنصتم لكلماتها؟»
حكى القس كيف لم يرد يونس أن يمتثل لمشيئة الله وحاول أن يهرب على متن سفينة، فلما هبت عاصفًة هائلة، أدرك أفراد طاقم السفينة أنه سبب بلائهم فألقوه من على متن السفينة ليلتقمه الحوت.
لم يدع يونس الله أن ينقذه على الفور؛ فقد علم أنه تلقى عقابًا عادلًا؛ إذ أثم وكان بحاجة إلى بعض الوقت في سجنه ببطن الحوت، لكنه أدرك أن الله سينقذه إن رأى أنه يستحق ذلك. أراد القس أن يُفهِم الحضور أنهم إن اقترفوا ذنبًا — وعليهم أن يحاولوا تجنب ذلك — فعليهم أن يتوبوا كيونس.
كان الرجال الحاضرون بالكنيسة يدركون إلى أي مدى يمكن أن يكون الحوت مخيفًا؛ فجميعهم واجهوا هذا الكائن المخيف عدة مرات. ذكّر الأب مايبل صائدي الحيتان أن يسألوا الله المغفرة عند الوقوع في الخطيئة؛ فبذا نجا يونس من بطن الحوت.
عندما عدت إلى فندق سباوتر إن وجدت كويكيج جالسًا أمام مدفأة يقلب صفحات كتاب ما، كان يتوقف عن التقليب كل خمس عشرة صفحة ويتأمل الغرفة من حوله.
سنحت لي هنا فرصة لتأمله عن كثب، فتنبهت عندئذ إلى أن المرء لا يسعه إخفاء باطنه، قد يغطي كويكيج نفسه بوشوم سوداء — وهو أمر غريب علي — مع هذا بإمكانك أن ترى بوضوح أنه يملك قلبًا نقيًّا طيبًا.
لم يقل كويكيج شيئًا لي عندما جلسنا معًا، بل تصرف في الواقع وكأنني غير موجود بالغرفة. وجدت هذا غريبًا بالأخذ في الاعتبار أننا تشاطرنا غرفة الليلة السابقة، ألا يستوجب هذا حتى إيماءة رأس أو ترحيب؟
لاحظت عندئذ أنني لم أر كويكيج يتحدث إلى أي رجل آخر، بدا لي وكأنه منغلق تمامًا على نفسه، لذا قررت أن أصادقه.
جذبت مقعدي إلى المقعد الطويل الذي جلس عليه، وذكرته بما حدث الليلة السابقة، وبخوفي الشديد منه عندما دلف إلى الغرفة؛ فابتسم ابتسامة خفيفة.
وسألني إن كنت سأشاطره الغرفة مجددًا، فلما أجبته بنعم، بدا عليه السرور.
سألته مشيرًا إلى الكتاب الذي وضعه على ركبتيه: «هل تستطيع القراءة؟»
فهز رأسه نفيًا.
فأخذت أشرح له ما بالكتاب. كان عن صيد الحيتان بالطبع، ومن هنا تجاذبنا أطراف الحديث بسلاسة؛ فتحدثنا عن معالم المدينة والأماكن التي سافرنا إليها.
بعد برهة من الوقت ألصق جبينه بجبيني وقال إننا صرنا أصدقاء.
ثم قال: «أنا مستعد أن أموت من أجلك» وربت على ظهري بقوة وأضاف: «إن دعت الحاجة، فسأموت من أجلك.»
يستغرب أبناء بلدتي قول هذا بعد لقاء شخص ما مباشرة، أما كويكيج فلم يستغرب الأمر على الإطلاق، لذا لم أستغربه أنا أيضًا.
أراد كويكيج أيضًا أن أشاطره نقوده، فأخرج ثلاثين دولارًا فضية من جيبه وقسمها على اثنين وأعطاني قسمًا، فحاولت أن أرفض هذا لكنه أبى أن يصغي إلي، ووضع ببساطة العملات الفضية في جيب بنطالي.
حدثني كويكيج أيضًا عن مسقط رأسه؛ عن جزيرة تدعى كوكوفوكو تقع في أقصى الجنوب الغربي، لكنها ليست على أي خارطة، شأنها شأن الأماكن الفريدة دائمًا.
قال كويكيج إنه قضى طفولة رائعة، كان والده سيد قبيلة، لذا كان سيتسلم زمام حكم قبيلته يومًا ما، لكن مع أنه أحب موطنه فقد أراد أن يرى العالم، لذا عندما رست سفينة صيد حيتان في ميناء بلدته قرر أن ينضم إلى طاقمها.
وحاول على مر الأعوام أن يحظى بقبول زملائه على السفينة، فارتدى ملابس مشابهة لهم، وتحدث بلغتهم الغريبة، بل وحاول حتى اعتناق المسيحية، إلا أنه لم يستطع هذا، لذا قرر أن يظل وثنيًّا.
سألته إن كان يفكر في العودة إلى موطنه قريبًا.
فهز رأسه نفيًا وقال: «لا، يقلقني أني قد تغيرت كثيرًا إلى حد صارت معه عودتي إلى موطني مستحيلة. عالمكم المسيحي يختلف كثيرًا عن عالمي.»
ثم سألني عن السبب الذي أتى بي إلى بيدفورد، فأخبرته أنني قررت أن أجرب صيد الحيتان، وأنني أبحرت عدة مرات لكن لم أركب قط سفينة صيد حيتان، وأنني سأقصد نانتكت للبحث عن عمل، فقال إنه سيصحبني ويعمل معي على نفس السفينة وسنظل معًا؛ فسعدت بهذا.