بيكود
أمضينا بضعة أيام في تجهيز سفينة بيكود لرحلتها؛ فأصلحنا شرعها وجلبنا الأطعمة إليها وتفقدناها بحثًا عن مواضع تسريب؛ إذ كانت بصدد الإبحار ثلاثة أعوام؛ لذا تعين علينا أن نكون على أهبة الاستعداد.
على كل، صباح يوم ما، دنونا من السفينة، لنجد رجالًا يسيرون على ظهرها، رجالًا ليسوا من أفراد الطاقم العاديين، بل رجال يرتدون معاطف ضباط.
عند تلك النقطة التقينا بستارباك، مساعد القبطان وعلمنا أن القبطان آهاب على متن السفينة، وأننا سنبحر صباح اليوم التالي؛ فاجتهدنا جميعًا لإنهاء الاستعدادات للإبحار، لكننا لم نر القبطان، إذ لم يغادر كابينته.
رفعنا مرساة السفينة صباح اليوم التالي فابتعدت بنا ببطء عن رصيف الميناء وهي تصر محدثة صوتًا وهي تشق الهواء ببطء. بدا أننا نتحرك ببطء شديد في الماء، وكأننا لن نغادر الميناء قط؛ فحسبت لوهلة أن رحلة الثلاثة أعوام ستنتهي في غضون أول عشر دقائق، لكن جميع أفراد الطاقم تكاتفوا، ونجحنا في الوصول إلى الميناء.
بعدئذ خطب فينا بيليج خطابًا قصيرًا، لم يكن مسافرًا معنا، كانت أقصى نقطة سيقصدها هي المرسى ليدور بعدها على عقبيه عائدًا إلى نانتكت.
صاح بيليج: «حظ سعيد يا رجال، أنتم بصدد خوض رحلة طويلة، لكنكم في أيد أمينة. سيحسن القبطان آهاب قيادتكم.»
بعدها أعطى بعض الأوامر للرجال على ظهر السفينة؛ كان ستارباك سيضطلع بمراقبة المؤن، فيما سيعني ستابز بالحفاظ على الشرع في حال جيدة، ويعني فلاسك بألا تكون بالسفينة نقاط ضعيفة. هبط بيليج بعدئذ إلى زورق صغير بجانب السفينة وعاد إلى الشاطئ.
قبل أن يمضي وقت طويل، حاز ستارباك مساعد القبطان إعجابي. كان رجلًا عاقلًا، هادئًا، طويل القامة، ولد في نانتكت وله باع كبير في العمل على سفن صيد الحيتان. لم ينظر إلى العمل على ظهر السفينة على أنه مغامرة كسائرنا، بل رآه عملًا شاقًّا، يتطلب عناية وجدية، حتى إنه قال كثيرًا: «لا أريد على سفينتي رجلًا لا يخشى الحيتان.»
لم أفهم هذه العبارة إلا بعد أول مهمة صيد؛ فعندئذ أدركت أن من يحسب نفسه قادرًا على عمل كل شيء في مواجهة الحيتان يعرض الجميع للخطر. لا بد من توخي الحذر دائمًا، وستارباك وضع سلامة الآخرين فوق كل شيء، ولم يعن بإبهار الآخرين.
بما أنك قد علمت كل هذا، أصبح إكمال قصتي صعبًا؛ فستار باك رجل طيب، أخشى أن تسيء الظن به عندما تعلم القصة بأكملها. آمل أن تذكر أنني كنت شديد الإعجاب به.
مساعد الربان الثاني كان ستابز الذي اتسم بأنه مرح لا ينشغل بالهموم، يؤدي عمله فقط لا أكثر، ولم يبد أن هناك ما قد يزعجه. كان مزاجه لا يختلف سواء أن أحاطت بنا عاصفة مريعة، أو خضنا معركة مع أحد الحيتان أو أبحرنا في مياه هادئة.
أما فلاسك مساعد الربان الثالث فكان فظًّا نكدًا، إلا أنه برع جدًّا في عمله، لكن لم يبد أنه يستمتع به، فلم تدهشه عجائب البحار، ولم ير الحوت حيوانًا مهيبًا، بل رأى أنه ليس إلا صيدًا عليه اصطياده، لا أكثر ولا أقل، وعدم الإمساك بهذا الصيد كان لا يزيده إلا نكدًا.
كانت السفينة تبعث بأربعة زوارق على متن كل منها طاقم صغير عندما يلوح أحد الحيتان. قيل لنا إن القبطان آهاب قاد دائمًا زورقًا، فيما قاد ستارباك وستابز وفلاسك الزوارق الثلاثة الأخرى، وكل زورق حمل مجموعة من الصائدين بالحراب والجدافين.
اختار ستارباك كويكيج ليكون على طاقمه؛ فبما أنه مساعد القبطان الأول، سمح له بأن يكون أول من يختار الأفراد على زورقه، وقد فطن إلى أن كويكيج هو الأبرع في استخدام الحراب على ظهر السفينة.
مضت عدة أيام على بدء الرحلة دون أن نرى القبطان آهاب. أردت بشدة أن ألقاه، فقد أثار الرجل الغريب الذي التقيناه على رصيف الميناء فضولًا بي حياله، لذا بحثت عن وجوه جديدة كلما صعدت إلى سطح السفينة، وبحثت عن ستارباك ظنًّا أن آهاب سيكون معه، لكن لم يحالفني الحظ؛ فقد مكث في كابينته.
لم أر القبطان آهاب إلا بعد مضي أسبوع تقريبًا على بدء رحلتنا. نوديت مساء يوم لمراقبة سطح السفينة العلوي، فتلفت متفقدًا المكان وهنا سرت في بدني رجفة؛ فقد وجدت القبطان يقف في مقدمة المركب، يحدق في البحر.
كان رجلًا صارمًا صلبًا قوي البنية بدا كأنه نحت من صخر، بشرته غليظة سمراء من أثر إمضاء عدة سنوات تحت الشمس، حمل الجانب الأيمن من رأسه ندبة بيضاء طويلة، لم أعرف قط كيف أصيب بها، أو ما إن كانت قديمة أو حديثة، خمن أعضاء الطاقم أحيانًا كيف أصيب بها، لكن لم يعلم أحد يقينًا كيف حدث عليها.
خلف مشهده في نفسي انطباعًا قويًّا، حتى إنني لم انتبه إلى وجود عصا عاجية محل ساقه إلا بعد لحظات. كان رجلًا عظيمًا.
سدد نظره صوب البحر، مستغرقًا في التفكير، لا يتكلم ولا يأبه بمن حوله، ولا يحدثه أحد. بدا أن ما يراه يؤلمه ألمًا شديدًا، لكن لا أستطيع أن أخبرك إلام كان ينظر، فلم أر إلا ماء البحر يمتد بلا نهاية.
مكث آهاب على ظهر السفينة وقتًا قصيرًا ثم غادره؛ هبط سلمًا ببطء، حرك عليه ساقه العاجية نازلًا درجاته وعاد إلى كابينته بدون أن ينبس بكلمة.