القبطان آهاب
بعد تلك الأمسية صرت أرى القبطان آهاب كل يوم، لقد ظل يلزم الصمت لكنه يغادر كل يوم كابينته لتفقد السفينة ومراقبة الماء، وصار في حالة مزاجية أفضل مع مرور الوقت وتحسن حال الجو.
وعندما نسمت رياح أبريل/نيسان ومايو/أيار الدافئة بدأ يتصرف كسائر الطاقم، وبدا أنه يستمتع برفقتنا. علت وجهه أحيانًا نظرة كانت ستتحول على وجه أي رجل آخر إلى ابتسامة.
ازداد الجو دفئًا مع اتجاهنا جنوبًا. كان الاستمتاع بضوء الشمس على ظهر السفينة سارًّا، حتى القبطان آهاب آثر الهواء الطلق على البقاء في كابينته حتى إنه قال: «أشعر لدى النزول إلى كابينتي المظلمة أنني أهبط إلى قبري.» وبدا أنه يستعيد قوته وعنفوانه.
لم يكن القبطان آهاب شابًّا؛ فصعود الدرج ونزوله إلى كابينته شق عليه على الأرجح، لا سيما مع امتلاكه ساقًا عاجية، لكنه لم يكن ليقر بذلك. لم نستدل على ذلك إلا من أنفاسه؛ إذ كان أحيانًا يكافح لصعود الدرج.
وقد أمضى وقتًا كبيرًا في ذرع سطح السفينة جيئة وذهابًا، سيرًا من جانب إلى آخر، متفقدًا ماء البحر. تناهى وقع خطى ساقه العاجية على سطح السفينة الخشبي إلى أسماع الجميع بقمرة السفينة، لقد اتسم بأنه ذو إيقاع ثابت، بدا أنه يساعده على التزام وتيرة حياته اليومية. كان يبحث عن شيء ما في الماء، خمنت أنه ليس فقط حوتًا.
قد تحسب أن الحياة على ظهر بيكود كانت فوضوية؛ لأن البحارة — لا سيما من يعملون على سفن صيد الحيتان — قد يتسمون بالغلظة والخشونة، لكنهم يتبعون القواعد شأنهم شأن الجميع، فالحياة على متن سفن صيد الحيتان في الواقع تتبع نظامًا، ولكلٍّ دور فيها.
القبطان بالطبع هو القائد، وعلى الجميع إطاعته، فإن امتنع فرد ما عن هذا عوقب. قد يجبر عندئذ على القيام بأعمال إضافية، أو يحرم من نزول الشواطئ أو الاستراحة، فسطوة القبطان على ظهر السفينة مطلقة، وعلي الكل طاعته.
يلي القبطان في الترتيب القيادي مساعدوه؛ وكيلو الربان؛ أي ستارباك ويليه في الترتيب ستابز ثم فلاسك، وهم ينامون ويأكلون بمعزل عن سائر أفراد الطاقم، شأنهم شأن وكلاء الربان على ظهر أي سفينة.
تتباين معاملة أفراد الطاقم من فرد لآخر على ظهر سفن صيد الحيتان. فالصيادون بالحراب مثلًا شغلوا أحد أرفع المناصب على السفينة؛ لأنهم من يصيد فعليًّا الحوت بحرابهم، لذا يحظون بمعاملة خاصة.
كان القبطان آهاب رجلًا متقلب المزاج، ومع هذا لم يكن فظًّا، فقد أولى الجميع القدر نفسه من الاحترام وطالبهم دومًا باحترامه، لكنه كان باختصار رجلًا غريب الأطوار.
سرنا على نسق واحد كل وجبة بناءً على أوامره. كان الخادم يدعوه إلى مائدة العشاء، فلا يجيبه في البداية وكأنه لم يسمعه، ثم يلتفت فجأة ويقول: «العشاء يا سيد ستارباك»، ويهبط سطح السفينة متجهًا إلى مائدة العشاء.
أما ستارباك فكان ينتظر بضع دقائق إلى أن يتيقن من جلوسه على المائدة، ثم يجول ظهر السفينة بتمهل ويقول: «العشاء يا سيد ستابز.»
فيقوم ستابز وكيل الربان الثاني بالمثل ويمر بوكيل الربان الثالث ويقول: «العشاء يا سيد فلاسك.» ثم يهبط سطح السفينة.
أما فلاسك فلأنه لم يضطر إلى مناداة أحد، بدا دومًا أقل تجهمًا وهو يتجه لتناول العشاء، بل بدت عليه في الواقع السعادة، لكنه تظاهر بالجدية ما إن وصل إلى باب غرفة العشاء، إذ لن يروق للقبطان ذي المزاج المتقلب رؤيته بهذه السعادة.
جلس آهاب على العشاء صامتًا وكأنه أسد مهيب لا يحفل بمن حوله. حدق الجميع فيه في فضول، لكنه لم يضع نصب عينيه إلا طعامه. كان يقطع اللحم بسكين كبير ويأكل في صمت.
بعدما يفرغ القبطان ووكلاؤه من تناول طعامهم، يزال ما على المائدة، ثم يؤتى بالصيادين بالحراب لتناول عشائهم، الأمر الذي كان رائعًا لأن جميعهم كانوا ملونين، وفي الأغلب — على اليابسة قطعًا — لا يسمح للملونين بأن يأكلوا أو يناموا حيث يأكل وينام الرجل الأبيض، لكن الحياة بين أحضان البحار لها طبيعة مختلفة.