موبي ديك
بعدما بدأت برودة الجو تخف، حان دوري لاعتلاء قمة الصاري وهي نقطة مراقبة بأعلى عمود (هو الصاري) تشبه الدلو وتعلو سطح السفينة بارتفاع كبير يسمح برؤية قطاع كبير من البحر، وبإبصار الأشياء من مسافة بعيدة، مما يمكننا من رؤية الحيتان في المياه البعيدة لنتجه إليها.
اعتليت قمة الصاري بعض الوقت فسمعت جلبة كبيرة على سطح السفينة؛ كان القبطان آهاب ينادي الجميع، حتى من يضطلعون بالمراقبة.
وقفنا جميعًا على سطح السفينة الرئيسي فيما وقف القبطان آهاب على منصة تعلو السطح الذي وقفنا عليه يذرعها جيئة وذهابًا كعادته وهو يحدث مساعديه والحماسة الشديدة تبدو عليه.
ثم التفت ليحدثنا وهو يحمل عملة ذهبية كبيرة.
قال: «هذه ستة عشر دولارًا أو دبلون (عملة ذهبية إسبانية قديمة).»
فتأملناه جميعًا بفضول عارم.
تابع كلامه قائلًا: «أول من يبصر حوتًا أبيض الرأس مجعد الجبين ذا فك معوج ويصطاده، سيفوز بهذه العملة.»
ثارت حماسة الرجال جميعهم، وهتف بعضهم ببعض كلمات التأييد.
قال آهاب: «ترقبوا مياه بيضاء. إن رأيتم فقاعات بالماء، صيحوا، إن رأيتم ماء منبثقًا، ادعوا الجميع إلى ظهر السفينة. نحن نبحث عن حوت أبيض، سنجده أينما كان.»
سأله أحد الصيادين: «أهذا هو الحوت الذي يدعى موبي ديك؟»
فسأل آهاب ذاهلًا: «هل سمعت بموبي ديك؟»
وسأل رجل آخر: «أيهتز ذيله على نحو هيستيري عندما يغطس مجددًا تحت الماء؟»
وسأل كويكيج: «هل غُرس بجانبه رمح يشبه المثقاب؟»
فقال آهاب: «أجل، أجل. لقد وصفتموه بالضبط. إذن، أنت رأيتموه. لقد رأيتم جميعًا موبي ديك!» بدت عليه الحماسة الشديدة.
قال بعضهم إنه رآه، والبعض الآخر قال إنه سمع قصصًا عنه فقط، وأخذ كل منهم يروي قصته عن الحوت الأبيض. ذرع آهاب ظهر السفينة جيئة وذهابًا مجددًا وهو يصيح ردًّا على كل منهم: «أجل، أجل»، وقال: «أنتم تتحدثون عن الشيطان موبي ديك!»
لم ير أحد قط القبطان آهاب يتصرف على هذا النحو الهيستيري، فقد عهدناه رجلًا هادئًا متقلب المزاج. تخوف ستارباك من أن يكون مكروه ما قد أصابه.
فقال: «سيدي»، لكنه نادى آهاب لعدة مرات قبل أن يفلح في جذب انتباهه، وسأله: «هل كان موبي ديك هو من بتر ساقك؟»
فهدأ آهاب وتوقف عن السير جيئة وذهابًا على ظهر المنصة، ووضع يديه خلف ظهره ثم نظر إلى ستارباك والأسى يغمره وقال: «أجل، موبي ديك هو من جعلني أعرج.»
لكنه لم يلبث أن ثار مجددًا؛ فصاح: «أجل! الحوت الأبيض هو من حولني إلى كسيح! هو من فعل بي هذا! سوف يدفع الثمن. سأطارده في كل البحار. سأطارده إلى أن يصبح لي!»
ثم التفت مجددًا إلى طاقمه وسار إلى حافة المنصة واستند إلى سورها، تابعناه من الأسفل بانتباه شديد.
استطرد قائلًا: «وأنتم يا رجال من سيساعدني، لأجل هذا انطلقت رحلتنا، ستبحرون معي في كل بحار الأرض إلى أن نمسك بهذا الحوت الأبيض، ولن نتوقف إلا إذا اختفي من الوجود.»
هلل الصيادون وأفراد الطاقم، كنا جميعًا على قدر المهمة، وكلنا أيد آهاب … خلا ستارباك.
فسأله آهاب: «لم تبدو قلقًا هكذا. ألست أهلًا لمهمة العثور على موبي ديك؟»
فأجاب: «إن صادفني، فسأسعد بالقضاء عليه، لكنني لا أريده أن يحيدنا عن مهمتنا. لقد انضممنا إلى هذا الطاقم لصيد الحيتان، نحن نبحث عن زيت الحوت ولسنا هنا لنصيد عدوك الشخصي.»
فقال آهاب: «أعلم ما لا تعلمه»، ثم تمتم في غضب: «لقد كنت في فم هذا الحوت! لقد بتر ساقي! لن تتفهم الأمر ولن تستطيع أن تعدلني عن رأيي وإن حاولت أن تتحداني، فسأعتبر هذا تمردًا.»
فهز ستارباك رأسه؛ إذ كان يعلم أنه لا سبيل إلى جدال آهاب وتمتم قبل أن ينصرف: «هذا جنون.»
واصل سائر الرجال تهليلهم؛ إذ بث القبطان في نفوسهم حماسًا بهذا التحدي وهذه المكافأة، فأخذوا يهتفون: «الموت للحوت الأبيض!» «الموت لموبي ديك!»
شجع آهاب هتافهم بعض الوقت متلذذًا بحماستهم، ثم أمرهم جميعًا بالعودة إلى العمل، لكن أجواء الحماسة استمرت. كان ستارباك هو الوحيد الذي لزم الصمت، لكنه لم يكن إلا قلقًا حيال مهمتنا الجديدة.