الكوميديا «اليابانية»
الانطباع السائد لدى جُل — إن لم يكن كل — زائري اليابان من الأجانب، هو جدِّية اليابانيين وعدم ميلهم للضحك أو المزاح، وأن ابتسامتهم المرسومة على وجوههم هي ابتسامةٌ مصطنَعة مفتعَلة. ويظُن الأغلبية أن اليابان لا يُوجد بها فن الكوميديا، وإن وُجد فهو فنٌ حديثٌ تقليدًا للغرب وليس به ما يُضحِك على الأغلب. ويسألني كل الزائرين العرب لماذا لا يضحك الياباني ولا يتمازح أثناء لقاءاتهم معًا؟ فتكون إجابتي هي أن اليابانيين مثل كل الشعوب وكل البشر يميلون للضحك والمزاح وإذا شاهدتم قنوات التلفاز اليابانية فستجدون أغلبها هي برامج الكوميديا بأنواعها، وأن النسبة الكبرى من المُشاهدة هي لبرامج الترفيه الخفيفة المضحكة، وأن فناني الكوميديا هم أشهر الفنانين وأكثرهم دخلًا على مستوى اليابان، ولكن اليابانيين يختلفون في أنهم لا يخلطون الجد بالهَزْل، ولا يُطَعِّمُونَ العمل بالمزاح والنكتة. وتجدهم قد أصابتهم الدهشة عندما يجدون أحدًا يهزل في العمل أو يخلط به المزاح؛ لذا هم يعتبرون تجهُّمَهم وتكشيرةَ وجوهِهم أمام عملائهم وشركائهم في العمل هو أبلغ دليلٍ عن جدية عملهم وإخلاصهم في تقديم أفضل ما لديهم؛ لذا لا يُلاحظ الزائرون الحس الكوميدي لليابانيين، ولا حُبهم للضحك والفكاهة؛ لأنهم يُظهرون ذلك بعيدًا عن العمل وفي أوقات فراغهم التي ليس من بينها لقاءات العمل، حتى لو كانت عَشاءً أو حفلًا خاصًّا بالعمل مع أجانب.
ومن الجدير بالذكر أن المخرج الياباني العالمي «تاكيشي كيتانو»، الذي فاز بجوائزَ عالميةٍ كبرى؛ مثل جائزة مهرجان كان، وجائزة مهرجان فينيسيا، هو في الأصل كوميديان من فناني المانزاي، وكان يُكَّوِنُ مع زميلٍ له ثنائي مانزاي باسم «تو بيت» حيث اسمه الفني بيت تاكيشي واسم زميله بيت كيوشي.
ونأتي الآن إلى فن «راكوغو» وراكوغو هي كلمةٌ ترجمتُها الحرفية هي «سقط الحديث»، وتُشير إلى قَصِّ حكايةٍ فكاهيةٍ تُثير ضحك المستمعين، ولكنها في النهاية لها مغزًى أو حكمة. ويُقال إن هذا النوع من الفنون بدأ في عصر إدو (١٦٠٣–١٨٦٨م) ويستمر حتى الآن في الشكل العام بدون تغيير تقريبًا. وهو عبارة عن فنانٍ واحد يُمكِن تسميتُه الحكواتي يجلس فوق وسادةٍ مربَّعة تُسمَّى باليابانية «زابوتون» مرتديًا الزِّيَّ الياباني التقليدي، ويكون المسرح في غاية البساطة؛ فليس به إلا طاولةٌ صغيرة يضعها أمامه، ويُمسك بمروحةٍ ورقيةٍ يستخدمها في الدق على الطاولة لاستثارة انتباه الجمهور، أو لإحداث مؤثراتٍ صوتيةٍ تتناسب مع المشهد الذي يحكيه من الحكاية. ويستخدمها كذلك كأداة تناول الطعام «الهاشي»، لو استدعَى الأمر تمثيل مشهدٍ به تناوُل الطعام. وغالبًا ما تكون الحكاية المضحكة التي يحكيها متشعِّبة وبها شخصياتٌ عديدة، ولكن الحكواتي هو الذي يقول كل الحوارات بين الشخصيات المختلفة مستخدمًا مهارته في تغيير نبرة صوته ليتقمَّص دَوْر شخصيات الحكاية جميعًا، وفي نهاية الحكاية لا بد من وجود ما يُسمَّى «أوتشي» باللغة اليابانية، وهي معناها الحرفي سقط، ولكن لها معنًى آخر وهو مغزًى أو حكمة؛ ففي النهاية تنتهي الحكاية بذلك المغزى أو تلك الحكمة التي يُريد الحكواتي إيصالها للناس.
وإليكم مختصرًا لإحدى الحكايات المضحكة من تلك التي يحكيها الحكواتي.
تُوجد ثلاثةُ مطاعمَ متراصةٍ بعضها بجانب بعض وتُقدِّم نفس الطعام، والمنافسة بينهم شديدة، فكَّر صاحب المطعم الذي على أحد الجانبَين في كيفية الاستحواذ على عددٍ أكبر من الزبائن، فهداه تفكيره إلى أن يضع لافتةً ضخمة على المحل مكتوبًا عليها «أفضل مطعمٍ في اليابان». وبالفعل أتت الفكرة بثمارها، وحاز ذلك المطعم على عددٍ أكبر من الزبائن. وعندها فكَّر المطعم الذي على الجانب الأكبر، فوضع على محله لافتةً بنفس الحجم وكتَب عليها «أفضل مطعمٍ في العالم» وبهذا جاءه عددٌ أكبر من الزبائن، ففكَّر صاحب المحل الثالث الذي يقع بين المحلَّين في كيفية التغلُّب على منافسيه وجلب عددٍ أكبر لمطعمه. أخيرًا هداه تفكيره إلى تعليق لافتةٍ أضخم على محله وكتب عليها:
«باب الدخول من هنا.»