ابن رشد واليابان
تُمثِّل العلاقة بين اليابان والثقافة العربية الإسلامية إحدى العجائب؛ فبرغم أن العرب نشروا الإسلام في ربوع الدنيا ووصلوا إلى أغلب أصقاع الأرض، حتى إنه تُوجَد دراساتٌ حديثةٌ تُشير إلى عبور المسلمين للمحيط الأطلنطي في وقتٍ مبكر، وأن الهنودَ الحمر سكان الأمريكتَين الأصليين كان بينهم مسلمون، وبالرغم من وصول الإسلام إلى الصين، وسيطرة المسلمين تمامًا على البحار في العصور الوسطى، بدليل أن من أرشد فاسكو داجاما وماجلان عَبْر البحار والمحيطات بحَّارةٌ مسلمون، رغم كل ذلك لا يُوجَد أيُّ ما يشير إلى وصول العرب أو المسلمين إلى اليابان قبل نهاية القرن التاسع عشر. ورغم أن طريق الحرير التي كانت تصل قلب العالم الإسلامي بشرق آسيا كانت محطتُها النهائية هي مدينة كيوتو؛ عاصمة اليابان القديمة لأكثر من ألف عام، وكانت كيوتو أبرع الأماكن في صناعة الحرير الذي سُمِّيَت الطريق باسمه، ولكن يبدو أن الجزء الأخير من رحلة طريق الحرير كان يقتصر على العلاقة بين الصين واليابان؛ فيبدو أن التجار العرب والمسلمين لم يكونوا بحاجة إلى الذهاب بأنفسهم إلى كيوتو أو أيٍّ من مدن اليابان، واستكشاف تلك الإمبراطورية الغامضة التي تضرب أصولُها في عمق التاريخ لأكثرَ من ألفَي عام، وتلك عجيبةٌ من العجائب؛ فرغم حرصِ المسلمين الأوائل على الذهاب إلى آخر الدنيا لتبليغ رسالة الإسلام، إلا أنه لا يُوجَد أيُّ ما يشير إلى وصولهم اليابان قبل العصر الحديث. ورغم أن المبشِّرين المسيحيين كانوا هم السبَّاقين في الوصول إلى اليابان إلا أنه حتى المسيحية لم تصل إلى اليابان إلا على يد المبشِّر البرتغالي فرانشيسكو دي خافيير في منتصف القرن السادس عشر.
ولم يُحقِّق دي خافيير أية نجاحاتٍ في التأثير على اليابانيين وجَعلهِم يتخلَّون عن ثقافتهم وأديانهم، بل على العكس جعلَت نجاحاتُه البسيطة الدولةَ اليابانية والحكومة العسكرية تقوم بحملةٍ شعواء على الأجانب ومن تنصَّر من اليابانيين وتُبِيدُهم عن آخرهم، بل وقررت حكومة توكوغاوا العسكرية تطبيق سياسة انغلاقٍ كاملٍ ومنع دخول وخروج البشر مِنْ وإلى اليابان على مدَى ما يقربُ من ثلاثة قرونٍ لحماية نفسها من الغزو الفكري والثقافي. ولم تنفتح اليابان مرةً أخرى على العالم إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وكان ذلك بعد إجبارها على الانفتاح بقوة السلاح، مُمثلةً في الأسطول الأمريكي الذي اقتحم موانئ اليابان، وأجبرها عنوةً على اتفاقية تبادلٍ تجاري تُمكِّن السفن الأمريكية من دخول اليابان.
القصدُ من هذا الشرح المُبسَّط هو إيضاحُ أن تأثير العرب والمسلمين على اليابان كان منعدمًا تقريبًا، ولم يبدأ التلاقي إلا مع بداية عصر التحديث في اليابان بنهاية القرن التاسع عشر.
لذا فتأثير ابن رشد وغيره من العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين على اليابان بدأ في مرحلة التحديث في اليابان بنهاية القرن التاسع عشر، وخاصةً من خلال الغرب.
ولقد بدأَت الدراسات الخاصة بابن رشد مع البروفيسور تشيساتو تاناكا (١٩٢٤–١٩٩٨م) الأستاذ بجامعة كينكي في غرب اليابان، والذي يُعتبر أول وأشهر من بحث في فلسفة ابن رشد وقدَّمه للقارئ الياباني؛ فبعد تاريخٍ طويلٍ من البحث أصدَر البروفيسور تاناكا كتابه المميز «الثقافة الإسلامية وغرب أوروبا: دارسة في فكر ابن رشد» في عام ١٩٩١م، وكان قبل ذلك قد نشَر كتابه «نشر الدين والعلم، أوروبا في العصور الوسطى والشرق الإسلامي» عام ١٩٦٢م. وكذلك ترجم تاناكا كتاب «تهافُت التهافُت» الذي كتبه ابن رشد ردًّا على كتاب أبي حامد الغزالي «تهافُت الفلاسفة»، وصدَرَت ترجمة الكتاب عام ١٩٩٦م من دار نشر كينداي بونغيشا. ولكن المُلاحَظ أن تاناكا لم يكن يعرف اللغة العربية واعتمدَت أبحاثه ودراستُه على اللغات الأوروبية وخاصةً اللاتينية والإنجليزية. ومما يُذكر أيضًا أن «تاناكا» كان مسيحيًّا بروتستانتيًّا، مثل أبيه، إلا أنه بعد تخصُّصه في فكر ابن رشد بدأ يتشكَّك في إيمانه المسيحي، ويتجادل كثيرًا مع قسيسِ كنيستِه حول عقيدة الثالوث، ويقول له إنها غيرُ مذكورةٍ في الأناجيل المختلفة.
أما عن تأثير ابن رشد في المجال الأدبي، فيُعتبَر الروائي الياباني المعاصر كيئتشيرو هيرانو المولود عام ١٩٧٥م، أحد أبرزِ المتأثِّرين بابن رشد من أدباء اليابان؛ حيث اعتمد بشكلٍ كبيرٍ على حقيقة وجود فكر ابن رشد والفلسفة الرشدية في أوروبا في العصور الوسطى في كتابة أولى روايته «الكسوف» التي نُشرَت عام ١٩٩٨م في اليابان، وحازت على جائزة أكوتاغاوا المرموقة في عام ١٩٩٩م (صدَرَت الترجمة العربية عن المركز القومي للترجمة بمصر في ديسمبر من عام ٢٠١٥م) وتدُور أحداثُها حول الصراع الفكري الذي كانت كتاباتُ ابن رشد وغيره من الفلاسفة المسلمين أحدَ أسبابه، وتأثَّر أغلب فلاسفة ومفكِّري أوروبا بها، ومنهم توماس الأكويني، الذي يتخذه بطل الرواية الراهب الكاثوليكي نيقولا قدوةً له في محاولتِه إخضاعَ كتاباتِ «الأغيار» وعِلْمهم للاهوت المسيحي بعد دحضِ ما بها من أفكارٍ تتناقضُ مع الفكر المسيحي. ويحشُد هيرانو في صُلب روايته عددًا كبيرًا من الفلاسفة والعلماء الغربيين الذين تأثَّروا بالفكر والفلسفة الرشدية، ويذكُر كذلك بعضَ الكتب العربية التي تُرجمَت للغاتٍ أوروبية، خاصةً اللاتينية، ومن ضمنها كُتب ابن رشد التي نقل فيها فلسفة أرسطو للغرب مع تعليقاته عليها.
يُمثِّل هذان المثالان اللذان أوردناهما التأثير المباشر لابن رشد في الثقافة اليابانية. وغنيٌّ عن الذكر أنه يُوجد بشكلٍ أكبرَ من هذا بكثيرٍ تأثيرٌ غير مباشر، خاصةً غير الواعي منه، من خلال التأثُّر بالكتابات الغربية التي تأثَّرَت بابن رشد وفكره وفلسفته.
يُذكر كذلك أن أكثر فيلمٍ عربي لقي إقبالًا حين عُرض في قاعات السينما اليابانية هو فيلم «المصير» للمخرج المصري يوسف شاهين، وعُرض تحت اسمٍ ياباني هو «لهيبُ الأندلس»، ولا يَخفَى أن سبب نجاح الفيلم هو موضوعُه، وأنه يحكي حياةَ ابن رشد وفكره الفلسفي، وإن كان الفيلم يُطعِّم ذلك بالموضوع الأكثر إلحاحًا في العالم، وهو علاقة الإسلام بالإرهاب، ورفض اختطاف المجموعات الإرهابية للإسلام والتحدُّث باسمه.