مسرح كويزومي السياسي
في الحادي عشر من الشهر الماضي جرت انتخابات مجلس النواب الياباني، بعد أن حلَّ رئيس الوزراء جونئتشيرو كويزومي المجلس، ودعا الشعب إلى انتخاباتٍ مبكرة، على خلفية رفض البرلمان لمشروع قانونِ خصخصةِ هيئة البريد اليابانية.
كانت النتيجة هي فوز الحزب الحاكم برئاسة كويزومي فوزًا ساحقًا، أدَّى إلى حصوله على الأغلبية المطلَقة في مجلس النواب بمفرده لأول مرةٍ منذ ١٣ عامًا.
البرلمان الياباني يتكون من مجلسَين؛ هما مجلسُ النواب، وهو الأقوى، ويبلُغ عدد أعضائه ٤٨٠ عضوًا، ومجلسُ الشيوخ، وهو الأقل تأثيرًا، وعدد نُوابه ٢٤٧ عضوًا.
مشروع قانون خصخصة البريد تمَّت الموافقة عليه من مجلس النواب بفارق ٥ أصوات، ولكنه رُفِض من مجلس الشيوخ في الثامن من أغسطس، بعد أن صوت ضده ٣٧ نائبًا من الحزب الحاكم، بالإضافة إلى نواب المعارضة.
ولأن رئيس الوزراء ليس لديه سلطة حلِّ مجلس الشيوخ قام بحلِّ مجلس النواب الذي وافق بالفعل على القانون، على طريقة «خذ ثأرك مِن الذي بجوارك»، رغم أن أغلب المحلِّلين السياسيين استَبعدوا أن يلجأ رئيس الوزراء كويزومي إلى ذلك؛ حيث إن حل مجلس النواب وعقد انتخاباتٍ مبكرةٍ لن يُغيِّر من تشكيلة مجلس الشيوخ. لكن القريبين منه حذَّروا من أنه رجلٌ عنيد، وسيلجأ إلى أي وسيلةٍ ليصل إلى ما يُريد. رئيس الوزراء نفسُه ردَّ على من يقول إنه لا فائدة من حل مجلس النواب طالما مجلس الشيوخ كما هو بأن قال: عندما يرى النواب الذين عارضوا القانون أن الشعب موافقٌ عليه سيُغيِّرون موقفهم، وسيُصوِّتون لصالح مشروع القانون. وهذا ما حدث.
القضية التي دارت حولها الحملة الانتخابية كانت بالطبع هي خصخصة البريد. دفع الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم بكل قُوَّته في الدعاية إلى خصخصة البريد، كل النقاشات والمناظرات التي عُقِدَت قبل يوم التصويت كان محورها مشروع قانون الخصخصة. الحزب الحاكم ادَّعَى أن الموافقة على القانون ستحُل كل المشاكل، لدرجة أن أحدهم قال إن خصخصة البريد ستُحوِّل اليابان إلى يوتوبيا، ستنتهي الأزمة الاقتصادية، وستنخفض معدَّلات البطالة، وستُحل مشاكل التأمينات، حتى علاقات اليابان الدولية ستُصبِح أفضل إذا تمَّت الموافقة على القانون.
رغم محاولات أحزاب المعارضة إثارة القضايا الأخرى التي من الممكن أن تُسبِّب حرجًا للحزب الحاكم؛ مثل قضية الحرب على العراق، ومشاكل التأمينات والمعاشات، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل، وأصبح قانون خصخصة البريد هو المحك عند التصويت.
انتهت الانتخابات بفوز الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم ﺑ ٢٩٦ مقعدًا، بالإضافة إلى ٣١ مقعدًا فاز بها حزبُ كوميه حليفُه في الائتلاف الحاكم؛ أي إن الائتلاف الحاكم استحوذ على حوالَي ثُلثَي عدد المقاعد. وتم تقديم مشروع قانون خصخصة البريد كما هو إلى البرلمان الذي وافق عليه بمجلسَيه بفارقٍ كبيرٍ من الأصوات (كل أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الحاكم الذين عارضوا القانون في المرة الأولى صوَّتوا لصالحه هذه المرةَ باستثناء عضوٍ واحد).
في أقل من شهرٍ تم الانتهاء من قضية خصخصة البريد وإغلاق هذا الملف. السؤال هو كيف سيتصرَّف الحزب الحاكم في القضايا الأخرى المُعلَّقة التي لم يتم مناقشتُها في الحملة الانتخابية. رغم أن مدة الدورة البرلمانية ٤ سنواتٍ إلا أن الأعضاء اختِيرُوا على أساس مَن يوافق على ومَن يرفض قانون الخصخصة، دون النظر إلى أي قضيةٍ أُخرى، مما جعل أحد المعلِّقين يقول إن الشعب الياباني أحَسَّ ببعض الندم عند سماعه نتيجة الانتخابات؛ فرغم أن الأغلبية كانت تُريد تمرير قانون البريد إلا أنهم تمنَّوا أن يكون ذلك بفارقٍ ضئيلٍ وليس عن طريق هذا الفوز الساحق، الذي من الممكن أن يضرهم فيما يتعلق بالقضايا الأخرى؛ كالتأمينات، وقانون المعاشات، والأزمة الاقتصادية، ومشكلة ازدياد شيخوخة المجتمع، ونقص الرعاية الاجتماعية للكبار، والخوف من زيادة الضرائب.
في الواقع سببُ التفافِ وسائل الإعلام حول هذا العضو بالذات له قصة، وهي أن تايزو سوغيمورا لم يكن له أي نشاطٍ سياسي أو حزبي يجعله جديرًا بالفوز بعضوية البرلمان؛ كل ما هناك أنه شاهد بطريق الصدفة إعلانًا على الإنترنت في الموقع الخاص بالحزب الحاكم يطلب أفرادًا ليكونوا ضمن قائمته التي سيدخل بها الانتخابات؛ ولأن سوغيمورا كان عاطلًا عن العمل قدَّم أوراقه إلى الحزب، وفوجئ بقبولها، ووُضِع اسمه في القائمة على اعتبار أن ترتيبه قبل الأخير سيجعل من نجاحه مستحيلًا. لكن حدثَت المعجزة التي لم يكن يتوقَّعها أحدٌ واكتسح الحزبُ الانتخابات، مما جعل نصيبه من الفائزين بالقوائم كبيرًا، إلى الحد الذي تخلى فيه الحزبُ بمقعدٍ لأحد أحزاب المعارضة لأن قائمتَه لم تكن كاملة العدد؛ وبالتالي تحوَّل سوغيمورا، بين ليلة وضحاها، من عاطلٍ يبحث عن عملٍ دائمٍ إلى نائبٍ في البرلمان الياباني يُقدَّر مرتَّبه السنوي بحوالي ٣٠٠ ألف دولارٍ أمريكي.
نظام القائمة هذا أيضًا كان السبب في أن يُصبِح أحد أصحاب محلَّات السوبر ماركت عضوًا هو الآخر في البرلمان من حيث لا يحتسب؛ حيث صادَف أن زميلَه السابق في فريق الركبي بالجامعة يُصبِح الآن سكرتير عام الحزب الحاكم، والمسئول عن وضعِ أسماء القائمة الانتخابية للحزب، فيطلب السكرتير من زميله القديم أن يضع اسمَه في ذيل القائمة؛ حيث إنه يُحرَج أن يطلب ذلك من شخصٍ آخر، على اعتبار أن السقوط أمرٌ مفروغ منه، فيقبل صاحب السوبر ماركت وضع اسمه في القائمة ليجد نفسه ببركة كويزومي وشعبيته يُصبح أولَ عضوٍ برلماني ياباني يمتلك محلًّا للسوبر ماركت.
طبعًا صاحب محل السوبر ماركت جونئتشيرو ياسوي أو تايزو سوغيمورا لم يقوما بأي عملٍ من أعمال الدعاية الانتخابية، ولم يُعلقا بوسترًا واحدًا يدعو الناخبين إلى التصويت لهما.
من الأشياء اللافتة للنظر في هذه الانتخابات هو كثرة عدد النساء الفائزات بعضوية البرلمان بالمقارنة مع عددهن فيما سبق. لدرجة أنه يُقال إن عدد دورات المياه النسائية في البرلمان ليست كافيةً لاستقبال هذا العدد؛ حيث وصل عددهن إلى ٤٣ عضوةً ولا يُوجد في القاعة الرئيسية سوى دورتَي مياهٍ اثنتَين للنساء.
السبب في هذه الزيادة (أكبر عدد للأعضاء من النساء في السابق كان ٣٩ عضوةً في سنة ١٩٤٦م؛ أي منذ ٥٩ عامًا) هو التوجيهات التي أصدرها رئيس الوزراء كويزومي إلى مسئولي الحزب بالاعتماد على الشخصيات النسائية المشهورة في المجتمع الياباني، وترشيحهن أمام أقطاب الحزب السابقين، الذين انشَقُّوا عليه وعارضوا مشروع القانون الذي يعتبره كويزومي الجزء المحوري في إصلاحاته. وهو ما أدَّى بالفعل إلى زلزلة قواعد المعارِضين وسقوط أغلبهم في الانتخابات، على الرغم من قيام جزءٍ منهم بإنشاء حزبَين جديدَين للاستفادة من نظام القوائم، إلا أن ذلك لم يأتِ بنتيجةٍ إيجابية.
الخُلاصة أن انتخابات البرلمان الياباني هذا العام أظهَرَت من جديد الشعبية الكبرى التي يتمتَّع كويزومي بها، وأظهَرَت أيضًا رؤيتَه الصائبة في قراءة أفكار الجماهير، وقدرتَه على اللعب على عواطفهم، لتحقيق غايته السياسية التي ربما لا تتوافق مع رغبات الناس، إلا أنه بكلامه المعسول وحركاته التي تخلبُ لُب الناس استطاع أن يكسبَ أكثر الناس إلى صَفِّه.
أغلبُ المحلِّلين قالوا عن هذه الانتخابات إنها كانت عرضًا في مسرح كويزومي السياسي.