يوكيو ميشيما وأزهار الكَرْز
زهرة الكَرز (الساكورا) هي الزهرة المفضَّلة لدى اليابانيين، ولذا يعتبرها الكثيرون مَعْلمًا من معالم اليابان، رغم أن وجودها لا يقتصر على اليابان فقط.
وتُعتبَر أشجار الكَرز التي تتميَّز بزهرتها تلك نوعًا عجيبًا من الأشجار؛ فهي من الأشجار المعمِّرة التي تعيش لعددٍ كبيرٍ من السنين، ولكن العجيب فيها هو أن زهورَها تظهر قبل أوراقِها؛ ففي بداية الربيع تكون الزهرةُ هي أول ما ينبُت فوق الأغصان الجافَّة التي قضت شتاءً طويلًا عاريةً من الأوراق، ولكن لا تلبث تلك الزهور أن تتساقط سريعًا بعد أن تصل إلى أَوْج تَفتُّحِها وجمالِها وقبل أن تظهر أوراقُ الشجرة. ولا تتعدَّى الفترة من ظهور زهرة الكَرز إلى سقوطها مدة الأسبوعَين أو الثلاثة أسابيع هي ذروة فصل الربيع في اليابان. وبعد سقوط الأزهار أو تقريبًا في ذات الوقت تنبُت الأوراق، ثم في الصيف تبدأ الثمار (في النوع المثمر منها؛ حيث إن أشجار الكرز تزيد أنواعها على الأربعمائة نوعٍ وأغلبها للزينة فقط غير مثمر)، وهي فاكهة الكريز في النضوج، حتى يأتي الخريف فتسقط الأوراق لتُصبح أجملُ الأشجار عجفاءً يابسة، لا تحتوي إلا على أغصانٍ جافةٍ طوال فصل الشتاء، ومع بداية الربيع تُعيد الحياة دورتها مع أشجار الساكورا.
جمالُ زهرة الساكورا وتفرُّدُها ليس هو فقط ما يعشقُه اليابانيون فيها، بل أحد الأشياء التي تَسحَر ألبابهم هي عمرُها القصير؛ ففي خلال عددٍ بسيطٍ من الأيام يتراوح ما بين العشرة أيامٍ والعشرين يومًا، تنبُت زهرة الساكورا وتصل لقمة جمالها، فتُسعِد البشَر، وتعطيهم أقصى ما يُمكن من متعة، ثم في غمضة عينٍ تختفي.
وهذا أيضًا ما يُميِّز شيئًا آخر يعشقُه اليابانيون أكثر من أي شعبٍ من شعوب العالم، ألا وهي الألعابُ النارية (هانابي)؛ ففي دول العالم المختلفة تُطلَق الألعاب النارية احتفالًا بشيءٍ ما. أما في اليابان وخاصةً في الصيف فتُقام مهرجانات الألعاب النارية في طولِ البلادِ وعرضِها من أجلِ الألعابِ الناريةِ فقط ولمُجرد التمتُّعِ برؤيتِها. تلك القذيفة التي تنطلق إلى عنان السماء مستغرقةً الكثير من الوقت والجهد والمال، لتُنيرها لمدة ثوانٍ بأشكالٍ وألوانٍ رائعة الجمال، ثم فجأةً تختفي في لَمْح البصر بعد أن تُحدِث أثَرَها في قلوب عُشَّاقها اليابانيين، الذين يجتمعون من كل صوْبٍ وحدَبٍ في أزياءٍ تقليديةٍ وزينةٍ تراثيةٍ جميلةٍ ليتمتَّعوا بهذه اللحظة الشديدة الجمال، الكثيفة المعنى، السريعة الزوال.
هناك شيءٌ آخر يتشابه مع الساكورا والهانابي وإن كان ربما لا يكون مثلَهما في الجمال، وربما كذلك لا يحوز على حُب اليابانيين وسِحرهم به، ألا وهي حشرات الزيز (سْيمِي) التي تظهر في فصل الصيف في جميع أنحاء اليابان، مُعلِنةً عن انتهاء موسم الأمطار وبداية صيفٍ حارٍّ رطبٍ كريهٍ عند اليابان. حشراتُ الزيز كذلك تمتازُ بقصر حياتها لدرجةٍ مذهلة؛ فرغم أن دورة حياتها الكاملة من بيضةٍ لدودةٍ أو يرقةٍ ثم شرنقةٍ أو عذراء حتى تصل إلى حشرةٍ كاملة، طويلةٌ للغاية يُقال إنها تتراوح بين الثلاثة أعوامٍ إلى العشرة أعوامٍ وقد تصل أحيانًا إلى العشرين عامًا في بعض الحالات النادرة، إلا أن حياتها بعد أن تُصبح حشرةً كاملةً قصيرةٌ للغاية تتراوح بين الثلاثة أيامٍ والأسبوع تقضيها كلها في الصُّراخ والزعيق بصوتها الحاد المُزعِج الذي يكرهه أغلبُ اليابانيين، فتلك الحشرة في النهاية تُريد أن تُعلن وجودها للعالم، وتَودُّ أن تُخبره بما عانَته من فترة مخاضٍ طويلةٍ للغاية حتى تظهر فوق ظهر البسيطة، ولكن للأسف لن تستمر على قيد الحياة إلا أيامًا معدودة، فانتبِه لي أيها العالَم وانظُر لي أيها الإنسان.
يُعتبر يوكيو ميشيما (١٩٢٥–١٩٧٠م) أكثر كاتبٍ ياباني نال شهرةً عالميةً رغم عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب، التي تُعتبر بوابة الانتشار العالمي خاصةً لأدباء اللغات غير ذات الانتشار العالمي؛ فاللغة اليابانية لا تتحدث بها إلا دولةٌ واحدةٌ فقط. ويُقال إن كُتب ميشيما قد بِيعَ منها أكثرُ من عشرين مليون نسخةٍ في دول العالم المختلفة وبمختلف اللغات الحية، وكذلك يُعتبر يوكيو ميشيما أكثر كاتبٍ ياباني تُرجمَت أعمالُه إلى اللغة العربية.
في حديثٍ مرئي لإحدى القنوات التلفزيونية يتكلم ميشيما عن تسونتومو ياماموتو (١٦٥٩–١٧١٩م) أحد أبطاله العظام، وهو مُحاربٌ أو ساموراي من عصر إيدو (١٦٠٣–١٨٧٨م) مؤلِّف كتاب «هاجاكوريه» الذي يشرح فيه أخلاقَ الساموراي، والذي تم إعادة استنساخه مراتٍ عديدة أشهَرها كتاب طريق المحارب «بوشيدو»، ويُبدي ذلك الساموراي استياءه من العصر الذي وُلِد فيه، وهو نفس ما يعنيه ميشيما؛ فالساموراي وكما هو معروف يتم تدريبُه وتربيتُه تربيةً صارمةً على قواعد القتال والنزال ولكن بشرفٍ وفروسيةٍ وأخلاقٍ يتميز بها عن غيره من عامة الشعب، وإذا وُضع في موقفٍ صعبٍ وكان عليه الاختيارُ بين الموت والحياة فإنه يختار الموت على الفَور دون تردُّدٍ أو رهبة. ولكن ياماموتو وُلِد في عصرٍ قد استقر فيه الوضع السياسي لأُسرة توكوغاوا الحاكمة، وانتهت معارك الحرب الأهلية، بل وقد أعلنَت حكومة توكوغاوا سياسةَ الانغلاق التام عن العالم، مما أعدم أي احتمالٍ لخوض اليابان حروبًا مع الدول الأخرى سواء دفاعية أو هجومية، لتعيش اليابان في فترة سلامٍ تام واسترخاءٍ عسكري لفترةٍ تقتربُ من الثلاثة قرون. يحكي ياماموتو في مؤلَّفاته عن معاناته تلك في عدم وجود الهدف الذي يَعتبر نفسه خُلق له وهو القتال والنزال مع العدو بكل شرفٍ وفروسيةٍ وأخلاقٍ عالية، ليكون قذيفةَ نورٍ تُضيءُ ظلام السماء، ثم يختفي في التو والحال، تاركًا المجال لمن يأتي بعده من أبطالٍ عظام. هكذا كان يتمنَّى أن يعيش، وهكذا تم تنشئتُه. لكنه يُفاجأ بعد بُلوغه مرتبةَ الساموراي، أن عمله هو عملٌ إداري كموظَّفٍ حكومي يُسيِّر شئون الدولة من خلال الأعمال الروتينية اليومية، فيُقرِّر في النهاية ترك مهنة الساموراي، ويعتزل العالم، ويتحول إلى راهبٍ بوذي زاهدٍ يعيش في الجبال.
وُلِد ميشيما في أُسرةٍ شبه أرستقراطية، وتَربَّى على يد جَدَّته لوالده (ناتسو ناجاي) التي تعود أصولها إلى عائلة محاربين ساموراي، تنتمي مباشرةً إلى سُلالة إيياسو توكوغاوا، الحاكم العسكري القوي الذي وحَّد اليابان بعد حروبٍ أهليةٍ طويلةٍ ومريرة، وحكمها هو وعائلتُه من بعده لمدةٍ تزيدُ على القرنَين ونصف القرن. حيث عاشت اليابان تلك الفترة في حالة سلامٍ داخلي (في فترة الحكم العسكري كان الإمبراطور موجودًا في كيوتو، والحاكم العسكري يخضع له روحيًّا، ويتولى سُلطاته بمباركة الإمبراطور وموافقته بشكلٍ ظاهري فقط).
قامت ناتسو جَدَّة ميشيما بتربيته وتنشئته على أخلاق المحاربين الساموراي، ولكنه يُفاجأ مثل ياماموتو باختلاف الواقع المُعاش عن المتخيَّل المأمول، خاصةً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان واحتلالها من قِبل قوات الحلفاء مُمثلةً في جيش الولايات المتحدة، التي أنشأَت مَقرًّا لها في مُواجهة قصر الإمبراطور أطلقَت عليه مركز القيادة العامة، حكمت من خلاله اليابان بشكلٍ مباشرٍ لمدة سبع سنواتٍ كاملة، من عام ١٩٤٥م إلى عام ١٩٥٢م. وحتى بعد انتهاء مهمَّة مركز القيادة العامة وتقلُّص الجيش الأمريكي في قواعدَ عسكريةٍ في أوكيناوا وغيرها من المدن البعيدة عن أعين غالبية اليابانيين، إلا أن ميشيما كان يعتقد أن وضع الاحتلال والتبعية لم يتغيَّر، وأنه يجب على اليابانيين استلهام روح الساموراي بداخلهم، والقيام بما ينبغي عليهم فعلُه من هَبَّةِ قتالٍ وفَناءٍ كقذيفة الهانابي لتُنير سماء اليابان ولو لثوانٍ ليأتي مِن بعدهم مَن يُواصل المسيرة، ولكن لا يجد ميشيما من يستمع له أو يُحقِّق مُراده.
«كان الفتى يهتم كثيرًا بحياة الشعراء القصيرة. يجب على الشاعر الحق أن يموت مبكِّرًا، ولكن حتى لو قلنا الموت مبكرًا، فبالنسبة للفتى ذي الخمسة عشر ربيعًا، كان الأمر ما زال بعيدًا جدًّا، وبسبب ذلك الأمان الحسابي، ظل الفتي يُفكِّر في الموت المبكِّر بمشاعرَ سعيدة (…) لقد كان الفتى يُؤمن بالتوافُقِ القدَري. التوافقُ القدريُ لسير حياة الشعراء. إيمانه بذلك وإيمانه بعبقريته كانا شيئًا واحدًا بالنسبة للفتى.
وكان ممتعًا له أن يُفكِّر في محتوى نعيٍ طويلٍ يكتُبه لنفسه، أو في مجده بعد الموت، ولكن عندما يُفكِّر في جثته، تكون نهاية الأفكار سيئةً نوعًا ما. كان يُحدِّث نفسه بقوةٍ وحماسٍ قائلًا لها: «يجب عليَّ أن أحيا كالألعاب النارية. أبذل كل جهدي في تلوين سماء الليل في لحظة، ثم أختفي في الحال.»
كان يُفكِّر في أشياءَ متعددة ولكنه لم يستطع تخيُّل طريقةٍ للحياة غير ذلك، ولكنه كان يكره الانتحار؛ لذا فالتوافُق القدَري سيُسدِي له معروفًا، ويقتلُه في الوقت المناسب بشكلٍ ملائم.»
(انتهى الاقتباس من قصة «فتًى يكتب الشعر» ترجمة كاتب هذه السطور.)
هذه هي أفكار ميشيما في فترة المراهقة عن البطولة حتى لو في مجال الشعر، وظلَّت تلك الفكرة مُسيطرةً على ميشيما طوال حياته (٤٥ عامًا) التي تُعتبَر قصيرةً نوعًا ما مُقارنةً باليابانيين الذين يُشتهَرون بطول العمر، خاصةً وأنه قد أنهاها بنفسه على طريقة الهاراكيري أو السيبُّوكو مُتمثِّلًا فيها روح الساموراي العظماء الذي يُطبِّقون المثل العربي الأصيل في الفروسية «بيدي لا بيد عمرو».
في حديثٍ مع الأديب الياباني الصديق كيئتشيرو هيرانو، وهو من أبرز الأدباء المعاصرين الذين تأثروا بشدَّة بأدب ميشيما، ويُعتبر أحدَ أهمِّ أدباء اليابان حاليًّا، قال لي: «إن حصول الأديب ياسوناري كاواباتا على جائزة نوبل للآداب في عام ١٩٦٨م، كان أحد الأسباب التي عجَّلَت بإقدام ميشيما على الانتحار.»
فميشيما ظل مُرشَّحًا لنيل الجائزة لعدة أعوام، وكل عامٍ كان ينتظر بفارغ الصبر إعلان الفائز بالجائزة، ويُعِدُّ نفسه لعقد مؤتمرٍ صحافي يتحدث فيه عن مشاعره بعد فوزه بتلك الجائزة العظيمة، ولكن بعد فوز كاواباتا بها، يئس ميشيما من الحصول على تلك الجائزة التي تُعتبَر قمة المجد في الأدب العالمي، لمعرفته باستحالة حصول أديبٍ ياباني آخر على ذات الجائزة إلا بعد مرور سنواتٍ وربما عقودٍ طويلة (وهو ما حدث بالفعل فلم يحصل أديبٌ ياباني على جائزة نوبل إلا بعد مرور حوالي ثلاثة عقود وهو كينزابرو أويه في عام ١٩٩٤م). ربما يظن البعض أن ربط انتحار ميشيما بعدم حصوله على جائزة نوبل يعني أن الانتحار كان بسبب الإحباط أو اليأس من التحول إلى أديبٍ عالمي شهير، ولكن الأمر في رأيي على العكس؛ فكما ذكرتُ قولَ هيرانو منذ قليل، حصول كاواباتا على جائزة نوبل «عَجَّلَ» فقط بانتحار ميشيما، ولم يكن سببًا من أسباب الانتحار نفسه؛ ففكرة الانتحار كانت هي الفكرة الأساسية والمحورية التي دار في فلَكِها ميشيما أثناء حياته كلها، وفي حديث ميشيما المتلفَز الذي سبق الإشارة له، يتحدث ميشيما عن عدم تخيُّل حياته وقد بلغ من الكبر عتيًّا وأصبح عبئًا على نفسه وعلى الآخرين. ربما كان ميشيما يرسم سيناريو مُخالفًا لنهايته، يتمثل في الحصول على جائزة نوبل للآداب، والتألُّق في سماء الأدب العالمي ليُصبح اسمه على كل لسان في العالم أجمع، كقيمةٍ فكريةٍ وأدبيةٍ عظيمةٍ ملأَت الآفاق متعةً وجمالًا، ثم في ذات لحظة التألق وفي ذروة الشهرة ولَفتِ الأنظار يقوم بإنهاء حياته بنفسه، كزهرة ساكورا أنهت مهمتها في إمتاع الأبصار، وكقذيفة هانابي أضاءت سماء الكون لثوانٍ لتنطفئ بعدها على الفَور.
هامش: حادث انتحار ميشيما
في ٢٥ نوفمبر من عام ١٩٧٠م، توجه ميشيما مع أربعةٍ من أعضاء جماعته «جماعة الدرع» بزيهم العسكري إلى مقَر قوات الدفاع الذاتي اليابانية في إيتشيغايا بوسط طوكيو بعد أن أخذوا موعدًا مع القائد العام للقوات، وأثناء لقائهم مع القائد العام قام ميشيما ورفاقه بأخذه كرهينة، وطالبوا بجمع كل أفراد قوات الدفاع الذاتي الموجودين في المقَر ليُلقي عليهم ميشيما خطابه، الذي أعدَّه لهم لكي يحثَّهم على الثورة والانقلاب ضد الوضع الحالي وتغيير الدستور، لكي يتم إعادة كل السلطات للإمبراطور، ولكي تعود قوات الدفاع إلى ما كانت عليه من جيشٍ قوي يحمي البلاد، ولكن لم يستطع ميشيما خلال عشرين دقيقةً تقريبًا من حديثه لهم، من فوق شُرفة غرفة القائد العام، إقناع الجنود بأي شيءٍ وسط تذمُّرهم وشَوشَرتهم على حديثه وعدم سماعهم لما يقوله، بسبب عدم استخدامه مكبرًا للصوت ووجود طائرات هيلوكوبتر تابعةً لوسائل الإعلام تحوم فوق المكان. يئس ميشيما من الجنود فعاد إلى غرفة القائد العام ليُنهي حياتَه بنفسه، بطريقة الهاراكيري المقدَّسة ببَقرِ بطنه بخِنجرٍ صغير، ويُطيِّر مساعدُه المُخلِص رأسَه من على جسَده في ذات اللحظة.