«تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه»
يُعد هاروكي موراكامي أشهر أديبٍ ياباني على قيد الحياة، ومن أوسع أدباء العالم انتشارًا، ويُقال إنه أكثر الأدباء قربًا من الحصول على جائزة نوبل، التي يُرشَّح لها كل عام تقريبًا في السنوات الأخيرة.
وُلد موراكامي عام ١٩٤٩م، في مدينة كيوتو العتيقة، التي تُعتبر أكثر المدن اليابانية احتفاظًا بطابعها التقليدي القديم، ولكنه انتقل مبكرًا للعيش في مدنية كوبيه القريبة منها، مع والدَيه اللذَين كانا يعملان في تدريس اللغة اليابانية في مدرسةٍ أهلية متوسطة. وبتأثيرٍ منهما أصبح موراكامي مُحبًّا للقراءة يقضي أغلب وقته في التهام الكتب. دخل موراكامي في عام ١٩٦٨م جامعة واسيدا الشهيرة، التي تُعتبَر من أفضل الجامعات في اليابان، لدراسة الأدب، ولكنه عمل أثناء دراسته في الجامعة كعامل بارٍ في أحد نوادي موسيقى الجاز الليلية في طوكيو، ثم تزوَّج في عام ١٩٧١م، من زميلةٍ له في الدراسة، وشاركها في امتلاك بارٍ مُتخصِّص في موسيقى الجاز وهما ما زالا يدرسان في الجامعة، مما جعله لا يتخرَّج من الجامعة إلا في عام ١٩٧٥م، بعد قضاء سبعِ سنواتٍ فيها، وهو أمرٌ نادرٌ في اليابان. يُشتَهر موراكامي في اليابان بكرهه للظهور في وسائل الإعلام، وعدم حبه للحديث عن نفسه، أو كشف حياته الشخصية للعامة من خلال وسائل الإعلام المختلفة. ويُفسِّر موراكامي ذلك بقوله إنه أثناء عمله في البار، تحدَّث مع بشرٍ عديدين أحاديثَ كثيرةً للغاية تكفيه لبقية حياته. ولكن في مقابل ذلك يُسهِب موراكامي في الحديث لوسائل الإعلام الأجنبية، وينشَط في تسويق نفسه عالميًّا.
بدأ «موراكامي» الكتابة الأدبية متأخرًا نوعًا ما؛ إذ إنه كان في الثلاثين من العمر عندما نُشر له أول عملٍ روائي وهو «استمع لأغنية الريح». ويقول موراكامي إنه فكَّر صُدفةً في كتابة الروايات أثناء مشاهدته لمباراة في لعبة البيسبول بملعب جينغوو القريب من البار الذي كان يملكُه.
حقَّق موراكامي شهرته المدوِّية من خلال رواية «الغابة النرويجية» التي باعت في اليابان فقط ما يقرب من خمسة ملايين نسخة، ثم توالت أعماله الروائية التي ما إن تصدر حتى تتصدَّر قائمة المبيعات وتُترجم للغاتٍ عدة من لغات العالم الحية، ومنها اللغة العربية التي تُرجم لها خمسة أعمال لموراكامي هي «الغابة النرويجية»، و«رقص رقص رقص»، و«جنوب الحدود غرب الشمس»، و«سبوتنيك الحبيبة»، وأخيرًا «كافكا على الشاطئ»، ولكن للأسف كلُّها تم ترجمتها عن طريق لغةٍ وسيطة هي اللغة الإنجليزية، ولم يسبق — على حدِّ علمي — أن تُرجمَت له أية أعمال مباشرةً من اللغة اليابانية حتى كتابة هذه السطور.
يُشتهَر موراكامي كذلك كمُترجمٍ للأدب الأمريكي المعاصر، فتَرجَم عددًا كبيرًا من الأعمال الأدبية لجون وينسلو إيرفينغ، وكريس فان أولسبرغ، وتيم أوبرين، وريموند كليف كارفر، وريموند ثورنتون تشاندلر وغيرهم العديد من الأدباء.
أحدث روايات هاروكي موراكامي، وهي محور هذا الحديث، صدَرَت في ١٥ أبريل من هذا العام، حسب ما هو منشور في الصفحة الداخلية لها، ولكن في الواقع بدأَ بيعُها فعليًّا يوم ١٢ أبريل، وحصل كاتب هذه السطور على نسخة منها في ذلك اليوم.
يقول موراكامي عن روايته الجديدة إنه لأول مرة يترك لقلمه العِنانَ لكتابة أحداثها دون أن تكون فكرتُها مكتملةً ومختمرةً في رأسه، وإنه كان يستمتع بالتفكير في تطوُّر أحداث الرواية يومًا بيوم طَوالَ الستة أشهر التي قضاها في كتابتها. تقع الرواية في ١٩ فصلًا بما إجماله ٣٧٠ صفحة من القَطْع المتوسط. اسم الرواية كما في عنوان هذا المقال يُعتبر من أطول أسماء روايات هاروكي موراكامي، وهو في اللغة اليابانية يُعتبر جملة اسمية كاملة: «تسوكورو تازاكي عديم اللون، وسنوات حجه». وتسوكورو تازاكي هذا هو بطل الرواية الذي تتمحور حولَه كل الأحداث والشخصيات.
وتتركَّز أحداث الرواية في عَقدين، منذ كان البطل في العام الأول من المدرسة الثانوية وحتى العصر الحالي ويبلغ فيه البطل ٣٦ عامًا؛ أي من فترة مراهقته إلى فترة الكهولة حيث تنتهي الرواية. تبدأ أحداث الرواية من فترة النهاية حيث يعيش تسوكورو (والاسم عبارة عن صيغة المصدر من فعل يصنَع أو يُنشِئ) في طوكيو، ويعمل بعد تخرُّجه من كلية الهندسة في تصميم وإنشاء محطات القطارات، وهو ما كان يحلُم به منذ طفولته. كان تسوكورو في مرحلة الدراسة الثانوية في مدينة ناغويا التي وُلِد وتربي بها يُكوِّن مع أربعةٍ من أصدقائه (بنتَين وولدَين) صداقةً قوية، وكانوا الخمسة عبارة عن كتلةٍ واحدة يتحرَّكون معًا ويلعبون معًا ويستذكرون دروسهم معًا ولا يفترقون إلا عند النوم. ويُصادِف أن يحتوي اسم الأربعة الآخرين فيما عدا تسوكورو على لونٍ ما؛ فالولدان الأول اسمه كيي أكاماتسو، «أكا» بمعنى أحمر والثاني اسمه يوشيو أومي، «أو» بمعنى أزرق، والبنتان الأولى اسمها يوزوكي شيرانه، «شيرو» تعني أبيض والثانية اسمها إري كورونو، «كورو» يعني أسود، وبالتالي أصبحت أسماء النداء بينهم هي أكا (أحمر)، أو (أزرق)، وشيرو (أبيض)، وكورو (أسود)، ثم تسوكورو هو الوحيد الذي لا يحتوي اسمه على لونٍ فيظل كما هو تسوكورو، وهذا سبب عنوان الرواية «تسوكورو تازاكي عديم اللون …»، وكذلك كان تسوكورو هو الوحيد بينهم الذي اختار جامعةً في طوكيو، ويُغادر ناغويا بعد انتهاء المرحلة الثانوية ليدرُس ويعيش في طوكيو.
في العام الثاني له في الجامعة، وعند عودته في إجازةٍ لناغويا، يُفاجأ تسوكورو أن الأصدقاء قد قرَّروا قطع صلتهم به وإنهاء علاقتهم جميعًا معه. وقد أخبَره «أو» بذلك، وطلب منه عدم الاتصال بأيٍّ منهم أبدًا، ولم يُخبِره عن سبب هذا القرار.
قضى تسوكورو بعد عودته لطوكيو فترة ستة أشهر بين الحياة والموت، حيث انعدمَت لديه أي رغبةٍ في الحياة أو الأكل أو فعل أي شيءٍ بعد صدمة فقدانه لأصدقائه الحميمين بدون سابق إنذار، وبدون معرفة السبب في ذلك. وبعد معاناةٍ شديدةٍ نفسية وجسدية يتعافَى تسوكورو جسديًّا فقط، ويُواصل حياته في الدراسة وكأنه شبحٌ بلا روح. وأثناء الدراسة يتعرف على شابٍّ أصغر منه بعامَين اسمه أكيفومي هايدا (هذا الصديق أيضًا يحتوي اسمه على لونٍ وهو «هاي» بمعنى رمادي). يتعرَّف عليه في مَسبَح الجامعة حيث الاثنان هوايتهما هي السباحة. ويصبح هايدا هو صديق تسوكورو الوحيد وتتعمَّق العلاقة بينهما، ويحكي له هايدا عن والده الذي يعمل أستاذًا للفلسفة في الجامعة، ولكنه عندما كان طالبًا في الجامعة وأثناء الاضطرابات التي قام بها طلبة الجامعات اليابانية في الستينيات، ترك والد هايدا الجامعة، ورحل في رحلةِ تسكعٍ لمدة عامٍ داخل أقاليم اليابان، ليُقابل أثناء عمله في نُزلٍ ياباني تقليدي، نزيلًا غريب الأطوار يبدو أنه كان يعمل كعازف بيانو، اسمه ميدوريكاوا (ميدوري تعني أخضر)، يحكي له قصةً غريبةً عن الموت، وأنه سيموت بعد أيام قليلة، ثم يختفي ذلك النزيل فجأةً ويعود والد هايدا لدراسته، ويمارس حياته العادية حتى يصبح أستاذًا للفلسفة في الجامعة.
وكما اختفَى نزيل الفندق فجأةً كذلك يختفي هايدا صديق تسوكورو من حياته فجأةً دون سابق إنذار.
يتذكَّر تسوكورو كلَّ ذلك أثناء الوقت الحالي، بعد أن تعرَّف على سارا كيموتو، التي تكبَرُه بعامَين، والتي يُعجَب بها ويُحاول إقامة علاقةٍ جديةٍ معها ولكنه يفشل في ذلك. فتقول له سارا إنه يواجه مشكلةً مع ماضيه، ويجب عليه حل هذه المشكلة بمواجهتها، وليس بالهرب منها كما فعل في الستة عشر عامًا الماضية. وتطلُب منه أن يذهب بنفسه ليُقابل أصدقاءه الأربعة واحدًا بعد الآخر ليعرف منهم سبب إبعاده عن المجموعة بشكلٍ مفاجئ ودون إبلاغه بالسبب. وتبحث له عن محل إقامة كلٍّ منهم الحاليَّة وتُخبِره، وكذلك تُخبِره أن «شيرو» قد ماتت منذ ست سنوات، ولكنها لا تُخبِره بالتفاصيل، فيذهب تسوكورو في رحلة بحثه هذه أو رحلة حَجِّه، إلى ناغويا لمقابلة «أو» ثم «أكا»، ثم إلى فنلندا لمقابلة «كورو» التي تزوَّجَت من فنلندي جاء طالبًا إلى اليابان للدراسة، وعادت معه إلى فنلندا، وتعيش معه بعد أن أنجبَت منه بنتَين.
بعد أن يتحدث تسوكورو مع الثلاثة الباقين على قيد الحياة يعرف أن «شيرو» قد قُتلَت في شقَّتها التي انتقلَت للعيش فيها بمفردها في مدينة هاماماتسو التي تقع بين طوكيو وناغويا. وكذلك يعرف لماذا حدث بينهم ما حدث. ومُلخص الأمر أن «شيرو» قالت لهم إنها عند ذهابها لحضور حفلٍ غنائي في طوكيو، قابلَت تسوكورو الذي اغتصبها وأفقدَها عذريتها بعد أن اعتدَى عليها. واضطُر الجميع إلى موافقتها على ما قرَّرَت بقطع صلتهم تمامًا بتسوكورو، رغم شكِّهم جميعًا في أن يكون تسوكورو قد فعل ذلك. وتُخبره «كورو» أن «شيرو» كانت حاملًا بالفعل وقد قرَّرَت أن تلد الجنين ولكنه سقط رغمًا عنها، وتُخبره كذلك أنها كانت تعلم أنه بريء، ولكنها لعلمها أن «شيرو» قد أصاب عقلَها خلَلٌ ما، قرَّرَت أن تكون بجانبها وتساندَها هي، وتتخلى عن تسوكورو الذي كانت تضمر داخلها شعورًا بالحب تجاهه؛ لأنها رأت أنه قادرٌ على تخطِّي تلك المحنة، بينما «شيرو» لا تستطيع ذلك بمفردها لضعفها.
هذا هو ملخَّص أحداث الرواية التي أرى أن بها بعض التشتُّت وبعض الغموض الذي ربما كان مقصودًا.
انطباعي عن الرواية أنها تُعتبَر من النوع السهل الممتنع؛ فالجُمل سلسةٌ والحوار سهل، تأخذك الرواية معها حتى نهايتها في وقتٍ قصير (هناك من قال إنه قرأها في ثلاث ساعاتٍ فقط)، وأرى أنها من أخَفِّ أعمال موراكامي، وأسهلها من حيث القراءة والفهم؛ فهي لا تُناقِش كما في أعماله الكبرى همًّا اجتماعيًّا وقضيةً حيويةً تهمُّ الجميع، ولكنها تُناقِش مشكلةً فرديةً ربما واجهَت عددًا ما من الأشخاص ولكنها لا ترقى إلى مصافِّ القضايا الإنسانية الكبرى.
وكذلك هناك انطباعٌ عام عن اقتراب موراكامي في هذه الرواية من أدب الروايات البوليسية المثيرة، التي لها عشاقٌ كُثر هنا في اليابان، وتُعتبَر أكثر أنواع الروايات انتشارًا؛ فأحداث الرواية يشوبُها بعض الغموض والتشويق، ويتم الكشفُ عنها تدريجيًّا مع التقدُّم في قراءة الرواية، إلا أن الاختلاف بين الروايات البوليسية المعتادة وبين رواية موراكامي هذه، أن موراكامي تعمد ترك مصير كل الأحداث غامضًا، فلم نصل إلى معرفة ما هو مصير هايدا ولا كل ما يتعلق به، وما حكاه من أحداثٍ تخُص عازف البيانو ميدوريكاوا، وكذلك لم نعرف حقيقة ما حدث مع «شيرو» ومن الذي اغتصبَها ومن الذي قتلَها ولماذا؟ حتى مصير بطل الرواية تسوكورو مع حبيبته سارا، هل سيرتبطان أم ينفصلان، لقد طلَبَت سارا منه مُهلة ثلاثة أيامٍ للردِّ على ذلك، ولكن موراكامي يُنهي الرواية قبل مرور الثلاثة أيامٍ تلك، فهل سيفعلها موراكامي ويكتب الجزء الثاني من حكاية تسوكورو تازاكي؟
هناك العديد والعديد من الآراء التي ملأت الجو الأدبي الياباني تعليقًا على هذه الرواية. ربما كان أشدها لذعًا في النقد، هو من قال إن تلك الرواية ربما تكون بدايةَ النهاية لظاهرة هاروكي موراكامي، وأن الرجل لم يعُد لديه ما يقولُه بعد هذه المسيرة العظيمة في مجال الأدب. فهل يصدُق ذلك التنبُّؤ يا تُرى؟ ليس أمامنا إلا أن ننتظر لنرى.
تبقى كلمةٌ لا يمكن ترك الرواية دون الحديث عنها، وهي أن موراكامي كما هي عادته دائمًا، يضع الموسيقى عنصرًا أساسيًّا من عناصر الرواية، وقد اختار هذه المرة الموسيقى الكلاسيكية، ممثلةً في مجموعة فرانز لِيست للبيانو «سنوات الحج» (لاحظ عنوان الرواية المأخوذ من عنوان المجموعة) خاصةً بعزف العبقري الروسي لازار بِرمان. كانت «شيرو» التي تهوى الموسيقى حتى إنها درسَتها وبعد تخرُّجها من الجامعة عملَت كمُدرسة بيانو للأطفال، تعزفُ للأصدقاء الأربعة مجموعة لِيست سنوات الحج. وطَوالَ أحداث الرواية يستمع تسوكورو إلى عزف لازار برمان، خاصة في الوقت الذي كان يقضيه في شقته مع صديقه هايدا.
بعد صدور الرواية زاد الإقبال على سماع مقطوعات «سنوات الحج» لفرانز لِيست، وخاصةً من عَزفِ لازار، ولكنها كأسطوانةٍ كانت غير موجودةٍ في الأسواق اليابانية، ولكن نظرًا لزيادة الطلب عليها قرَّرَت شركة يونيفرسال إصدار سي دي جديدٍ بعد شهرٍ من صدور رواية موراكامي.