فاوست العربي في اليابان
من الحوادث العجيبة التي حدثَت لي في اليابان.
كنتُ أعمل منسِّقَ برامجَ في إحدى المؤسسات الحكومية اليابانية التي تستضيف وفودًا من دول العالم للاطلاعِ على التجربة اليابانية في مختلف المجالات. بالطبع كنتُ أعمل في تنسيق ومرافقة الوفود العربية فقَط.
وفي أحد الأعوام (تقريبًا عام ٢٠٠٣م، على ما أتذكَّر) انتشَر في العالم مرضٌ غريب غيرُ واضح المعالم يسبِّب ارتفاعًا في درجة الحرارة، وقد اصطُلِح وقتَها على تسميته حُمَّى السارس. وكان من دواعي الوقاية التي اتَّبعَتْها المؤسسة أن يتم قياس درجة حرارة كل ضيفٍ في اليوم الأول من بداية الزيارة أثناء المقدِّمة التعريفية، لكي يتمَّ التعامُل سريعًا مع أية حالةِ اشتباهٍ في الإصابة بحُمَّى السارس في وقتها. لم تحدُث طَوالَ عملي والحمد لله أية حالة اشتباهٍ من أي نوع، ولكن حدث ما يلي أثناء عملي مع وفدٍ من إحدى الدول العربية وبه ما يزيد قليلًا عن عشَرة أفراد.
وهو أن جميع الضيوف كانت درجاتُ حرارتهم طبيعيةً ولا مشكلة فيها، ولكن قابل فردٌ واحد فقط، في الخمسينيات من العمر، مشكلةً عكسيةً؛ فمن المعروف أن درجة حرارة الإنسان الطبيعية تدور حول رقم ٣٧ درجةً مئوية. في اليابان تقل قليلًا حيث يعدُّون الدرجة الطبيعية أقل قليلًا من ٣٧ درجةً مئوية؛ تقريبًا ٣٦٫٥ أو ٣٦٫٦ درجةً مئوية مثلًا، ولكن ذلك الرجل كانت درجةُ حرارته أقلَّ من الطبيعي بشكلٍ كبير؛ إذ إنها كانت في حدود ٣٣ أو ٣٤ درجةً مئوية، ومهما أَعدْنا القياس وغيَّرنا جهاز القياس كانت النتيجة لا تتغيَّر (كانت هناك خمسة أو ستة أجهزة قياسٍ كلها تعمل جيدًا، وقاست درجات حرارة باقي الوفد بلا مشاكل). انزعجَت الممرضة التي تقيس وهمسَت لي سرًّا إن هذا الرجل ميت، في حين كان يضحك هو وزملاؤه من النتيجة، وكلما زاد هو من مزاحه نزدادُ أنا وزملائي اليابانيون قلقًا وريبًا من هدوئه. في النهاية انتهى القياس دون أن نصل إلى معرفة سبب هذه المعضلة، وحيث إن الغرض من القياس كان استكشاف من لدَيه اشتباه في الحُمَّى، فلم تكن هناك مشكلةٌ من أن تكون درجة الحرارة منخفضة. وسُجلَت الدرجة كما هي، ومَرَّ الأمر بسلام، خاصة وأن الرجل أمامنا في كامل صحته يضحك ويمزح وليس به أي ما يُسبِّب القلق.
وكنتُ أثناء الزيارة التي استمرَّت حوالي ثلاثة أسابيع، أُبدي اهتمامًا زائدًا بذلك الرجل مخافة أن يكون بصحته شيءٌ ما خفي عليه وعلينا، ولكنَّني اكتَشفتُ أمرًا آخر لا علاقة له بصحة الرجل.
كان ذلك الوفد مرسلًا من حكومة تلك الدولة لبحث موضوعٍ متعلِّق بأحد مشاريع البنية التحتية، وكان من ضمن الوفد وكيل وزارة يحمل درجة الدكتوراه هو رئيس الوفد، ولكني اكتشفتُ أن الرجل الخمسيني إياه هو رئيس الوفد الفعلي، وهو الذي يُصدِر القرارات، وهو الذي يتحدث باسم الحكومة عندما يكون هناك حاجةٌ لذلك؛ أي إنه كان رئيس الوفد الخفي رغم أن منصبه الرسمي الذي جاء به وخبرتَه وعلمَه أقل كثيرًا ممن معه من أعضاء الوفد، وخاصة الأستاذ الدكتور رئيس الوفد. إلا أن رئيس الوفد نفسَه كان متفهمًا للموقف وكان يترك لصاحبنا القرار والحديث كما يحلو له دون اعتراضٍ ظاهر.
ثم عرفتُ السببَ أن صاحبنا ذلك هو عضوٌ قيادي في الحزب الحاكم لتلك الدولة، وأن منصبه الحزبي — وإن كنت لا أعلمُ منصبه الحزبي هذا معرفةً دقيقة — كان هو الذي يُخوِّل له تلك السلطات التي كانت أعلى بكثيرٍ من قدراته وخبراته وعلمه. وكان من الممكن أن يتسبَّب في كوراثَ كثيرة لجعله هو صاحب القرار رغم وجود من هو أفضل منه خبرةً وعلمًا. لا أدري لماذا تخيَّلتُ أن هؤلاء الذين يسيطرون على مقدرات الشعوب بجهلهم وتخلُّفهم، بحجة واحدة فقط هي أنهم أصحابُ الثقة، هم في الواقع من الموتى الذين عقَد معهم الشيطان عقدًا يعطيهم به سلطة الحكم والقرار ويسلبُ منهم حرارةَ القلب ودفءَ المشاعر والروح، وإننا لو قسنا درجات حرارة هؤلاء بجهاز قياس حرارة «ياباني» لأوضَح لنا أنهم باردون، ميتون، ليس لهم قلبٌ ولا مشاعر.