«هيتومي كانيهارا»
روايةٌ تتسلَّل لأعماق القلب
هيتومي كانيهارا أديبة يابانية شابَّة، وُلدَت في ٨ أغسطس من عام ١٩٨٣م، وتبلغ حاليًّا السابعة والثلاثين من العمر. فازت بعدة جوائز أدبيةٍ رفيعةٍ منها جائزة أكوتاغاوا الشهيرة، وحصلَت عليها في عام ٢٠٠٤م، مناصفةً مع الأدبية ريسا واتايا، وكانتا وقتها أصغر مَن حصَل على تلك الجائزة المرموقة إذ كانت واتايا في التاسعة عشرة من العمر، وكانت كانيهارا في العشرين في عمرها. تُعتبر كانيهارا حاليًّا أكثر الأدباء اليابانيين الشباب الذين تتسلَّط عليهم أنظارُ النُّقادِ بوصفهم أفضل من يُعبِّر عن الحركة الأدبية اليابانية في الألفية الثالثة، وتُترجَم أعمالُهم إلى العديد من اللغات الأجنبية. تُعتبر هيتومي كانيهارا ظاهرةً غريبةً بين الأدباء الشباب الحاليين في اليابان؛ فرغم أن والدها أستاذٌ في جامعةٍ مشهورةٍ في اليابان، وهي جامعةُ هوسيه، وهو متخصصٌ في دراسةِ أدبِ الأطفال، ومُترجِمٌ شهيٌ، إلا أنها تركَت الدراسة رسميًّا في المرحلة الثانوية، وتقول إنها لم تذهب للمدرسة تقريبًا منذ سن العاشرة؛ أي منذ كانت في الصف الرابع الابتدائي. وإن كانت قد التحقَت كطالبةٍ مستمعةٍ بالحلقة الدراسية (سيمينار) لوالدها في الجامعة وهي في سن الخامسة عشرة، وبدأَت كانيهارا كتابة الروايات في سن الثانية عشرة، وهي السن التي ذهبَت فيها مع والدها إلى أمريكا بسبب عمله هناك، ورجعَت لليابان بعد قضاء عامٍ في سان فرانسيسكو. تُعتبر حياة كانيهارا الشخصية مليئةً بالأحداث والمعاناة لدرجة إدمانها في سن الخامسة عشرة من عمرها عادةَ قطعِ الرُّسغ (وهي عادةٌ تُعبِّر عن رغبة الشخص في إيذاء نفسه بجرح الرسُّغ بسكينٍ أو موسَى وإن لم تصل إلى الحد الذي يؤدِّي إلى الانتحار). وترتبط هذه العادة عامةً بإدمان الخمر أو المخدِّرات أو كلَيهما معًا. أما في حالة كانيهارا فلا يُعرف مدى وقوعها في تلك العادات السيئة، وإن كان محتوى رواياتها ينمُّ على معرفتها بتفاصيلَ دقيقةٍ عن العالم السفلي للشباب الياباني في العصر الحالي، وخاصةً عصر ما بعد بداية الألفية الثالثة؛ حيث ابتعد الشباب الياباني رويدًا رويدًا عن تقاليد بلده العريق، واقترب كثيرًا من الثقافة الغربية الحديثة، حيث لا وجود لقيودٍ أو حدودٍ على التصرُّفات إلا ما يفرضه القانونُ الوضعي الذي يتغيَّر ويتبدَّل مع مرور الأيام والأعوام، ورغبة الشباب عامةً بتحدي أي قانونٍ وأي قواعد. إلا أن الملاحظَ في روايات كانيهارا أن شخصياتِ الشباب ليس بها أية تعقيداتٍ نفسيةٍ أو خللٍ اجتماعي أُسري يدعو إلى تلك السلوكيات التي تبتعد عما هو مألوفٌ في المجتمع الياباني، بل هي تنقل ما يعيشه الشباب بلا أي محاولةٍ لإظهار أن ذلك غيرُ طبيعي، أو أن هناك وراء تلك التصرفات أسبابًا ما دعت شخصياتِ الرواية إلى تلك التصرُّفات. ربما لأنها ترى أن ذلك هو الطبيعي، وأن اختلاف سلوكِ البشر وأخلاقهِم أمرٌ لا مفَر منه مع مرور الزمن وتطوُّر المجتمعات. على سبيل المثال في روايتها «السقوط على نجم» الصادرة عام ٢٠٠٧م، عن دار نشر شوئيشا، تحكي بمنتهى التلقائية قصةَ فتاةٍ كانت ترتبط بشابٍّ في مثل عمرها وتعيش معه في نفس المنزل، ولكنها بعد أن أصبحَت روائيةً مشهورةً، تتعرَّف على شخصٍ أثناء العمل فتقع في حُبه، وتترك منزل حبيبها الأول، لتسكن بمفردها بالقرب من منزل حبيبها الجديد، الذي نفاجأ أنه يعيش مع شخصٍ رابع في علاقةٍ مثليةٍ شاذَّة. وتستمر أحداثُ الرواية لتحكي تفاصيل هذه العلاقات المتشابكة الغريبة بين فتاة وثلاثة ذكور. حبيبها السابق الذي لا ييأس من محاولة حثِّها على العودة له ومواصلة العيش معه في منزله كما كانا، وحبيبها الحالي الذي يعاني هو الآخر من تمسُّك حبيبه المثلي به، وعدم سماحه له بفسخ تلك العلاقة الشاذَّة بينهما، وتهديده له بالانتحار إذا ما فكَّر في مغادرته لمنزلهما، بل ومحاولته ذلك أكثر من مرة؛ كل هذه الأحداث ترويها البطلةُ بلسان المتكلِّم بدون أي شعورٍ بالغرابة وبدون أي محاولةٍ للتبرير؛ لأنها تروي واقعًا مُعاشًا من دون افتعالٍ ومن دون النظر له نظرةً استعلائيةً رافضة.
وتنتهي الرواية كما بدأَت بمشهدٍ للبطلة مع حبيبها وهو يقول لها بسهولةٍ لنتزوج، ولكن البطلة تُجاريه وتقترح مازحةً عدة أيام بدون الوصول إلى قرارٍ نهائي، وتنتهي الرواية بدون معرفة مصير كل أبطالها.
تقول الأدبية المخضرمة والراهبة البوذية جاكوتشو سيْتوأوتشي (٩٨ عامًا) إنها من أشد المعجَبين بروايات هيتومي كانيهارا؛ لأنها بها جِدَّة وحيوية لا تُوجَد لدى المخضرمين من الكُتاب والروائيين، وأنها من خلال قراءة روايات الأدباء الشُّبان في اليابان تحصُل على الدهشة والمفاجأة التي لا تحصُل عليها من قراءة كبار الكُتاب الذين تعرف على الأرجح ماذا سيكتبون حتى من قبلِ أن تقرأ أعمالهم. وتقول عما يجذبها في روايات كانيهارا: هي أن شيئًا ما منها يظل باقيًا داخل عقلِ قارئها بعد انتهاء القراءة، ولا ينفلتُ منه طويلًا.
وفجأةً يختفي «أما» وتُحاول روي البحث عنه، فتجد أنها لا تعرف عنه أي شيء، حتى اسمه الحقيقي لا تعرفه، لا تعرف إلا أنه «أما» ذلك الشاب الطيب الوديع الذي يرتكب جريمة قتلٍ من أجلها. وهنا تلجأ روي إلى شيبا سان الذي لم تنقطع علاقتها الجسدية معه طَوالَ الرواية، فيُساعِدها في البحث عن «أما» ويذهبان معًا لإبلاغ الشرطة وإعطائها صورتَه ومواصفاتِه. وبعد ذلك يتصل شيبا سان بروي ليُخبرها أن الشرطة تريد منهما الذهاب إلى القسم للتعرف على جثةٍ يُشتَبه أنها جثة «أما». وتذهب روي لتجد أن الجثةَ جثةُ «أما» فعلًا، ولكنها قد تحوَّلَت إلى جسدٍ مشوهٍ بعد الاعتداء عليها بشدةٍ لدرجة لا يمكن معها معرفة ملامح وجهه، ولكنها تتعرف عليه من سمات جسده ومن الأقراط والوشم المميز له. وتعرف بعد ذلك أنه تَمَّ الاعتداءُ عليه جنسيًّا قبل قتله. وهنا تشُك روي في أن شيبا سان هو الذي قتل «أما»، ليُزيحه عن طريق زواجه منها، ولكنها لا تملك الدليل ولا الشجاعة لتسأل شيبا سان عن ذلك. وتُنهي كانيهارا الرواية بشكلٍ غامض، فلا نعرف من قتل «أما»، هل هو شيبا سان أم أصدقاء الشخص الذي قتلَه «أما» والذين يبدو أنهم أعضاءٌ في عصابةٍ من عصابات الجريمة المنظَّمة. ولا ندري هل ستتزوج روي من شيبا سان، كما عرض عليها الزواج، أم ستتركُه وتعود لحياتها الهادئة قبل التعرُّف على الاثنَين.
الرواية تمتاز بسلاسةٍ وتلقائيةٍ شديدةٍ في السرد بحيث تأخذ بتلابيب عقل القارئ، فلا يتركها إلا وقد أنهاها في جلسةٍ واحدة، ولا يستطيع التخلُّص من التفكير في محتواها بعد قراءتها، كما قالت الراهبة العجوز والأدبية الأريبة جاكوتشو سيْتوأوتشي ذلك عن حق. يقول الروائي الشهير ريو موراكامي، عضو لجنة اختيار جائزة أكوتاغاوا العريقة إنه ظل الليلة التي قبل اجتماع تقرير الجائزة يُجهِّز الأسباب التي يُقنِع بها اللجنة بالموافقة على إعطاء الجائزة لرواية أقراط وثعابين، وظل يُفكِّر في كيفية إقناع أعضاء اللجنة، وقد ظن أن الأغلبية ستُعارِض بشدة لما في الرواية من لغةٍ جريئةٍ تتناول حياة الشباب كما هي بدون تجميل، وبعباراتٍ صريحة، وأحيانًا بشكلٍ خادشٍ للحياء، ولكنه فوجئ أن اللجنة قرَّرَت إعطاء كانيهارا الجائزة بالإجماع تقريبًا ولم يعترض أحد، وبذلك لم يكن هناك أية فائدةٍ لما حشَده من وسائل الإقناع؛ فالرواية وحدها كانت كفيلةً بإقناع جميع أعضاء اللجنة.
تعيش كانيهارا في باريس حاليًّا هي وابنتاها، بعد حدوث الزلزال الضخم في شرق وشمال اليابان، وبعد حدوث انفجارٍ إشعاعي في محطة «فوكوشيما دايئتشي»، خوفًا على طفلتها من خطر الإشعاع النووي.