رواية الإوَزَّة البرِّية
الأديب الطبيب والقائد العسكري
واضع حجر أساس الأدب الياباني
ترجمةُ هذا العمل لها قصةٌ يجب أن تُروى. مع بداية عملي في الترجمة الأدبية كنتُ قد تواصلتُ مع دار التنوير مصر، عن طريق الصديق الروائي محمد ربيع، الذي يعمل مُحرِّرًا في الدار، واتفقنا على تقديم عدة أعمالٍ للحصول على منحة ترجمةٍ من مؤسسة اليابان. وفي النهاية قرَّرنا التقدُّم بعملٍ كلاسيكي قديم وعملٍ معاصر، واخترنا الإوزَّة البرِّية من الأعمال الكلاسيكية الخالدة في الأدب الياباني، خاصة أن مؤلفها أوغاي موري لم يَحظَ بأي انتباهٍ من المترجمين العرب لأعماله، التي وضعَت حجرَ الأساسِ للأدب الياباني الحديث والمعاصر، فلم تُترجم له أي روايةٍ حتى هذه اللحظة للغة العربية، رغم كثرة ترجماته للُّغات الأجنبية وخاصةً اللغةَ الإنجليزية. واخترنا من الأدب المعاصر رواية «حكاية قمر» للأديب الشاب «كيئتشيرو هيرانو». ولكن في النهاية اختارت المؤسسةُ تقديمَ الدعمِ لرواية هيرانو حكاية قمر، ورُفضَت رواية «الإوزَّة البرِّية» لأوغاي موري وهو ما لم أكنْ أتوقَّعه. فبعد التقديم على المنحة وحتى ظهور النتيجة (وهي فترة حوالي ستة أشهرٍ) عكفتُ على استكمال ترجمة رواية «الإوزَّة البرِّية» على أساس أنها هي التي ستُختار بلا أي ريبٍ مني في ذلك، ولكن كانت المفاجأة أن اختِيرَت رواية «حكاية قمر»؛ ولذا تركتُ العمل في ترجمة «الإوزَّة البرِّية» وهُرِعتُ لترجمة «حكاية قمر» حتى نستطيع الالتزام بشرط إصدار الرواية في الموعد المحدَّد لذلك من المؤسسة (كنا على وشك فقد المنحةِ بسببِ تأخُّرِ وصولِ النُّسخِ المطلوبةِ من لبنان إلى القاهرة عدة أيام عن موعدِ تسليمِها للمؤسسة، ولكن الله سلَّم). وبعد انتهاء العملِ في «حكاية قمر» عَرضتُ على التنويرِ التقدمَ للحصولِ على المنحة مرةً أخرى برواية «الإوَزَّة البرِّية» ولكنهم رفضُوا اعتقادًا منهم أن العملَ الذي رُفض مرة ليس له أملٌ في الحصول على المنحة مرةً أخرى، ولم يكن هذا صحيحًا في رأيي، ولكني احترمتُ رغبتَهم ولم أُلِحَّ عليهم في ذلك. وواصلتُ ترجمة العمل دون أن يكون هناك أي اتفاقٍ لنشره.
بعد ذلك علمتُ بطريقة الصدفة أن مشروع كلمة للترجمة قد أعد مائة عنوان للترجمة من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية، وذلك في أعقاب زيارةٍ قام بها رئيسُ وزراءِ اليابان شينزو آبه للشرق الأوسط، ومن ضمن الدول التي زارها الإمارات العربية المتحدة، ووقَّع هناك عدةَ بروتوكولاتٍ واتفاقيات، منها العمل على ترجمة أُمهات الكتب اليابانية إلى اللغة العربية، وأن من ضمن تلك الأعمال رواية «الإوزَّة البرِّية»، ولكن كان من المقرر أن تتم الترجمة من لغةٍ وسيطةٍ هي اللغة الإنجليزية وليس عن طريق ترجمةٍ مباشرة. وكنتُ وقتها قد انتهيتُ من ترجمةٍ أوليةٍ للرواية فتواصلتُ بطريقةٍ ما مع مسئولي المشروع، وعرضتُ عليهم ترجمة «الإوزَّة البرِّية» مباشرةً من اللغة اليابانية إلى اللغة العربية فأعطَوني موافقةً مبدئيةً على نشر ترجمتي المباشرة للرواية بديلًا عن الترجمة الوسيطة، ولكن مَرَّ حتى الآن أكثرُ من ثلاثِ سنواتٍ على الإعلان عن ذلك المشروع الضخم، ولم يجِدَّ أي جديد. وسمعتُ مؤخرًا أن مشروع كلمة ذاته مُعرَّض للتوقُّف حاليًّا لبحث حالته، والنتائجِ المحقَّقة حتى الآن، بعد إصدار ترجماتٍ لما يقارب الألف عنوان من اللغات المختلفة، ولكني واصلتُ العمل على ترجمة ومراجعة وتنقيح نص «الإوزَّة البرِّية» مع نشر أسطُر من الترجمة وأخبارها في وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك، فلفَت ذلك نظر الصديق سيف سلماوي، مالك ومدير دار «الكرمة» فتفضَّل بعرض نشر أي عملٍ مُترجَمٍ لي من الأدب الياباني، فأرسلتُ له نصًّا شبه نهائي لرواية «الإوزَّة البرِّية»، فلاقت الرواية استحسانَه، وتكرَّم بعرضٍ لنشرها لتكون أول عملٍ روائي يُنشر باللغة العربية لأوغاي موري، ذلك الأديب الياباني الكبير الذي يُعتبر أحد أهم روَّاد الأدب الياباني الحديث في عصر ميجي، العصر الذي دخلَت فيه اليابان بقوةٍ طَورَ التقدُّم والتحديث في شتى المجالات.
وليسمح لي القُراءُ أن أعرضَ هنا بعضَ الآراءِ الهامةِ لثلاثةٍ من المثقَّفين؛ أولهم وهو البروفيسور روبرت كامبل، الأستاذ السابق للأدب الياباني بجامعة طوكيو القومية، وهي أعرقُ وأفضلُ الجامعاتِ اليابانية، والمتخصصُ في أدبِ عصرِ ميجي وما قبله وما بعده؛ أي الفترة التي عاش فيها أوغاي؛ فقد كتب عن رواية «الإوزَّة البرِّية» ما يلي عام ٢٠١٢م، في معرض ترشيحه لها لترجمتها للغة العربية.
في البداية يُعتبر د. كامبل أن أوغاي موري (١٨٦٢–١٩٢٢م) أحدُ أعظمِ مَن يُمثل الأدبَ الياباني بصفته كاتبًا روائيًّا ومسرحيًّا وناقدًا ومترجمًا. ويُشير إلى أن أوغاي كتب رواية «الإوزَّة البرِّية» في عصرٍ يُمثِّل ذروة حركة التحوُّل الصناعي في اليابان؛ حيث كانت سياسة اليابان متسارعةً تُحاوِل الاقتراب من تقدُّم الغرب. ويقول د. كامبل إن من بين الأعمال العديدة والمتنوعة لأوغاي تُشتَهر «الإوزَّة البرِّية» بأنها روايةٌ عظيمةٌ كُتبَت بحساسيةٍ عاليةٍ وجمالٍ رائعٍ عن الفرد في اليابان، وبصفةٍ خاصة عن وعي المرأة وبحثها عن حريتها واستقلالها.
«أنا متأكدٌ تمامًا أنها الروايةُ الأنسب لترجمتها للتعريف بأدبِ أوغاي في العالم العربي للمرة الأولى. وأتوقَّع أنه من خلال اكتمال ترجمة الرواية وإصدارها ستكون سببًا في انتشار أدب أوغاي موري بين العرب من جهة، وستُعمِّق تفهُّم العرب للثقافة اليابانية من جهةٍ أخرى.»
«يُعتبر أوغاي موري مع سوسيكي ناتسوميه أهمَّ روائيَّين في تاريخ الأدب الياباني الحديث، ومن المرغوب فيه التعريفُ بأعماله في العالم العربي وترجمتُها في أسرع وقت.»
ويشرح هيرانو أن العالم العربي سيتفهَّم من خلال معايشة نفس الشعور قيمة أوغاي الذي ذهب إلى أوروبا للدراسة إبَّان فترة تحديث اليابان في عصر ميجي، فأدخل العديد من الأفكار الجديدة إلى اليابان. ويوضِّح أن الصراع الذي عانى منه أوغاي عندما اصطدم بالتعارُض بين ثقافة بلده الأصلية وثقافة أوروبا الجديدة غنيٌّ بالكثير من ملامح حل تلك المشكلة حتى الآن. ويُعطي هيرانو أهميةً قصوى لتعبير أوغاي في رواياته باستفاضةٍ بالغةٍ عن قيمة أمورٍ مثل الطبيعة والمجتمع والشعور الإنساني والصُّدفة … إلخ، التي لا تطالها قوة «الفرد» في الوقت الذي جُلبَت فيه أفكار الفردية الجديدة الغريبة على المجتمع الياباني، وسط لهفةٍ من الدولة تجاه «تحقيق هُويةٍ حداثية». ويوضِّح هيرانو أن الجوهرَ الحقيقي لأدب أوغاي هو قضيةُ الإنسان الذي يعيش وسط «قُوًى لا يمكن مقاومتُها». ويقول إن أوغاي وصل لهذا السبب ذاته في نهاية سنوات حياته إلى موقف «الإذعان»، وإنه من أجل أن يضع البؤرة على تلك القُوى التي لا يمكن مقاومتُها بالضبط كأديبٍ واقعيٍّ حقيقي، فلقد تخلَّى برغبته عن صناعة الحكايات، وبدأ يُغيِّر أسلوبَه إلى أسلوبِ السيرة التاريخي الذي يُعظِّم من «الطبيعة كما هي» في التاريخ. والسبب في ذلك أن نظرة أوغاي للعالم ترى أن العناصر التي لا يمكن للفرد مقاومتُها تحملُ معانيَ في حياة الإنسان أكثر من إرادة الفرد.
ويُلمح هيرانو إلى أنه ربما يبدو للوهلة الأولى أن شخصياتِ أدبِ أوغاي قليلو الجاذبية لشخصياتٍ رئيسةٍ في روايات الأدب الحديث؛ لأنهم ليسوا من نوع الأبطال العظام الذين يحقِّقون أهدافَهم بعد تخطِّيهم مصاعب الحياة، ولكن هيرانو يربط بين أوغاي والزلزال الضخم الذي حدث في ١١ مارس عام ٢٠١١م في اليابان، فيقول إن تبني أوغاي لفكرة «الإذعان» لأنه «يُوجَد في حياة الإنسان أحداثٌ لا يمكن مقاومتُها مُطلقًا»، كان يحمل عزاءً ومواساةً لا يُمكن التعبير عنها بالكلمات للقارئ الحالي الذي أدرك تلك الحقيقة. ويقول «هيرانو» إنه على يقينٍ تامٍّ أن الوقت الحالي هو حقًّا الوقتُ الذي يجب فيه على اليابان إعادةُ قراءة أوغاي، وإن الأمر نفسه ينطبق على العديد من الدول التي تتعمَّق فيها الحَيرة.
ويُشيد هيرانو برواية «الإوزَّة البرِّية» بوصفها العملَ الأفضلَ والأبرزَ وسط روائعِ أوغاي العديدة، ويوضِّح أنها تروي بكلماتٍ مُعبِّرةٍ وعباراتٍ سلسةٍ في منتهى الرقي مأساةَ عدم قدرة شابِّ وشابَّة على الارتباط بسبب ما يمكن أن نُطلِق عليه صُدَف الحياة المعيشية اليومية وتحكُّماتها أكثر مما يمكن إطلاق لفظ القدَر عليها. ويقول هيرانو إن تلك النظرة المليئة بالحُب الهادئ التي ملَكَها أوغاي وسط الحماس الطاغي للتحديث، أثَّرَت تأثيرًا عظيمًا في حياة اليابانيين حتى الآن.
ويرى هيرانو أن قراءة أدب أوغاي موري يُساعِد على فَهم شخصية اليابانيين، وكذلك يُعطي دَفعةً للتفكير المُحدَّد لمن يعيشون في مجتمعاتٍ تتجه نحو التحوُّل إلى الديمقراطية.
أما يوكيو ميشيما أديب اليابان الذي يعُدُّه بعضُ النُّقاد أعظمَ عبقريةٍ أدبية ظَهرَت في اليابان، فقد كتب مقدمةً لأعمال أوغاي موري الكاملة التي صدرَت عن دار نشر «تشوكورون» عام ١٩٦٦م، ضمن سلسلة الأدب الياباني. وفي تلك المقدِّمة أَوْلى ميشيما أهميةً خاصةً لرواية «الإوزَّة البرِّية» واعتبَرها أعظمَ وأهمَّ أعمال أوغاي موري. كانت المقدمة بعنوان «ماذا يمثِّل أوغاي موري؟» ويبدأ يوكيو ميشيما كلامه فيقول:
«ماذا يمثِّل أوغاي موري؟ إن هذا التساؤل يشغل تفكيري بين وقتٍ وآخرٍ في الفترة الحالية. وليس سبب ذلك هو أنني أنظر باستهانةٍ إلى أدب «أوغاي»، بل الأمر على العكس من ذلك، سبب هذا التساؤل هو احترامي وتقديري العميقان لأدب أوغاي. في الأصل لم يكن هناك أية مساحةٍ في اليابان قبل الحرب العالمية الثانية لكي يُطرح سؤال «ماذا يمثِّل أوغاي موري؟» فقد كان أوغاي هو أوغاي. كان هدفًا للاحترام لدرجة التقديس بلا قيدٍ ولا شرط، بل كان صنمًا معبودًا للمثقَّفين بصفةٍ خاصة. وأغلب الناس الذين يستهزئون بكل ما يتعلق بالأدب، أولئك الذين يعملون في مهنٍ حقيقيةٍ في المجتمع ويحتلُّون مناصبَ رفيعة، ويعتقدون أن الروايةَ عبارة عن لعبٍ لإلهاء الفتيات والسيدات، يتعاملون مع أوغاي فقط على أنه حالةُ خاصة، فيشملونه بعظيم الاحترام؛ ولذا يُمكن القول إن أوغاي كان المثقَّف المعبود لمثقَّفي طوكيو بدايةً من عصر ميجي، وفي نفس الوقت كان مُنشِئ علم الجمال الذي يُنظر إليه على أنه الأكثر مثالية، وإذا وصفنا بوصفٍ مشاغبٍ قليلًا فقد كان النموذج الحي للفن والأدب.»
ثم يُضيف يوكيو ميشيما ويقول إنه شخصيًّا نشأ وترعرع في تلك البيئة التي جعلَت من أوغاي موري صنمًا معبودًا، وإن ترقي أوغاي في المرتبة الاجتماعية حتى وصل لمنصب المراقب الطبي الأعلى للجيش، وامتلاكه خبرةً عمليةً وتاريخًا أكاديميًّا يُعتبر قمةَ ما يُمكن الوصول إليه في عصر ميجي، قد أضاف إلى سُمعة وتقييم أوغاي الكثير.
ويُوضح ميشيما أن الصورة المتبقِّية حتى اليوم في عقول الناس وقتَ كتابتِه المقدمة هي: «إن أوغاي فقط يختلف عن أدباء الدرجة الثالثة.»
«أعتذر عن ذكر أمرٍ شخصيٍّ خاصٍّ بي في هذا المقام، ولكن عندما رفع السيد هاتشيرو أريتا قضيةً ضدي في المحاكم منذ فترةٍ ليست بعيدةً بعد نشر رواية «بعد الوليمة»، قال السيد «أريتا» علانية في المحكمة: «حتى لو أصبحَت حياتي نموذجًا لعملٍ أدبي، فربما كان مقبولًا لو كان الكاتب أوغاي موري أو سوسيكي ناتسوميه، ولكن أن يفعل ذلك أديبٌ من الدرجة الثالثة …» فأوغاي بالتأكيد لم يكن من أدباء الدرجة الثالثة! فقد كان يحلق شعر رأسه لأدنى حدٍّ مثل الجنود، ولم يكن له أيةُ علاقةٍ بالأدباء الرومانسيين أصحاب الشعور الطويلة، وكان مختلفًا تمامًا عن ثُلَّة الأدباء الذين يجلسون على المقاهي بلا عملٍ يتبخترون بربطة شعرهم البوهيمية، أو المتشرِّدين الذين تراهم ليلًا ونهارًا في الحانات بزيِّهم الرثِّ المُهلهَل، ويبيعون زوجاتهم فرحين، أو يضعون فِراشهم ومتاعهم في محل الرهونات. وقبل كل شيء كان أوغاي «مثقفًا مختارًا بعناية» بل إنه لم يكن من عيِّنة المثقَّف الضعيف الشاحب الوجه المرتاد المكتبات، بل كان قوي البنية ومعتادًا على ركوب الخيل، وكان كذلك المثالَ الأصلي والأصيل لمواكبة الموضة التي تعلَّمها أثناء حياته في بعثَته الأوروبية، رغم اجتهاده في نفس الوقت في عمله بالجيش.»
ويُوضِّح ميشيما أن تلك كانت صورة أوغاي التي تراها العيون الأكثر اعتدالًا في اليابان. ويُضيف: «إن مثقَّفي وفنَّاني اليابان الذين يميلون نحو إعطاء ظهرهم للمجتمع والحياة الواقعية والعالم المُعاش في هذه الدنيا، الأشخاص الذين يُحِسُّون بالحزن والوحدة، لا ينفكُّون يَرَون في أوغاي مثاليةً مفقودةً وتمثال إلههِم الميِّت، ثم بعد ذلك، الجيل التالي من المثقَّفين الضِّعاف الذين على وَشكِ اليأس من توحيد ودمج التربية والعلم الغربي مع التربية اليابانية، عندما رأوا أن أوغاي حقَّق ذلك بمنتهى السهولة، عبدوا أوغاي مع إحساسهم باليأس من اللحاقِ به.»
ويُضيف ميشيما: «إذا تكلمتُ عني أنا شخصيًّا، فبداية إحساسي بالأُلفة مع «أوغاي» كانت على العكس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين درستُ في المدرسة رواية «القائمقام سانشو»، ولكني لم أشعُر وقتها بأيةِ مُتعةٍ من قراءة الرواية؛ فقد كانت بسيطةً وخفيفةً وبلا حبكةٍ بشكلٍ زائدٍ عن الحد. وعلاوةً على ذلك أن صورة «أوغاي العظيم» التي طُرقَت بها أدمغتنا منذ عهد الطفولة كانت من القوة بحيث دفعَتني إلى اتجاه الابتعاد عن أدب أوغاي تعظيمًا وتوقيرًا له.»
«أعتقد أن صورة أوغاي التي كانت تجسيدًا حيًّا لمثالية حكومة ميجي، صورة أوغاي التي وضَعَت قدمًا على طريق التنوير وقَدمًا على طريق الحفاظ على التراث، وكذلك صورة المثقَّف الذكوري المثالي في نظام الأُسرة الأبوي، قد اختفت من الوعي الباطن لجيل الشباب الحالي، وحتى لو لم تختفِ، فيُمكن بسهولةٍ ملاحظةُ فقدانها لبريقها وجاذبيتها. إن كل ما كان أوغاي يحمله يختلف مع الديمقراطية الأمريكية بعد الحرب، وكذلك يختلف أوغاي مع التقدُّمية السوفيتية أو الشيوعية الصينية اللتَين لا تُناسبانِ مِزاجَه نوعًا ما، ثم مع إلغاء نظام المدارس الثانوية القديم في اليابان، رحلَت إلى الأبد التربيةُ والثقافة على الطريقة الألمانية التي كانت القاعدةَ الأساسيةَ لظاهرة عبادة أوغاي.»
ثم يطرح «ميشيما» سؤالًا: ماذا يعني أوغاي موري لنا؟
«كان من المؤكد أن أوغاي لم يعُدْ على الأقل ذلك (الإله البديهي) الذي لا يحتاج إلى تفسير، ولكن مقابل ذلك ظل سوسيكي وهو «الأكثرُ شعوبية» محتفظًا بإعجاب الأجيال الشابَّة به كما هو.»
«بالطبع كان سوسيكي أديبًا عظيمًا، ولكنه كان يُنظر إليه على أنه أكثرُ شعوبية، وأسهلُ في فهمه بدرجةٍ كبيرةٍ عن أوغاي.»
ويرى ميشيما اندفاع الشباب إلى سوسيكي وتركهم أوغاي أمرًا طبيعيًّا، بعد أن زالت الفكرة العتيقة التي ترى أن الأدب البسيط سهل الفهم أدبٌ شعوبي، وهي فكرةٌ كانت تُسيطِر على عقول المثقفين اليابانيين لعهودٍ طويلة، ولكن ميشيما يسأل هل أوغاي فعلًا «صعب الفهم»؟ ويُجيب على ذلك السؤال بقوله إن أسطورية وتأليه أوغاي اللتَين شرحهَما كانتا، لهما قوةُ تأثيرٍ كبيرة تجعل الإجابة على ذلك السؤال بسهولةٍ أمرًا مستحيلًا. ويرى أن أوغاي هو القمةُ العليا لأسلوب السهل المُمْتنِع في الأدب الياباني منذ عصر ميجي وحتى الآن.
«إن توجيه هذا السؤال الآن وبعد أن ذبلَت وماتت العديد من أساطير أوغاي، يمثِّل الأمر الأكثر خطورةً واستعجالًا بالنسبة لي. بالطبع من الأهمية بمكان تقييمُ صفاتِ أوغاي الإجمالية على أنه (كلٌّ واحد)، ولكن الآن بعد أن ماتت كل الأساطير، وضعفَت هيبتُه إلهًا للمعرفة، يُعتقد أنه من المفترض أن جمال أدب أوغاي ذاته يتألَّق بوضوحٍ ونقاء (حتى لو لم يكن مؤكَّدًا أن تتقبَّله أغلبيةُ الناس).»
«تلك التلقائية والبساطة يتميَّز بها سلوكُ شخصٍ تفهَّم بسهولة قوةَ وجمالَ المخطوطات القديمة لقدماء الصينيين.»
«لقد استخدمتُ الآن كلمة «يسْكَر» بلا وعي، ولكن لا تُوجَد لغةٌ أبعدُ عن السُّكر بمعناه الديونسيسي من لغة أوغاي؛ ولهذا السبب ذاته لا نسْكَر بالشكل العادي، ولكنه يشبه السُّكْر الذي نُصاب بعد أن نصعد طريقًا جبليةً طويلة، ونكون قد بذلنا الكثير من العَرق ثم نشرب كوبًا من ماء بئرٍ باردٍ بعد وصولنا، نحن نسْكَر من تلك السلاسة والنقاء. وعند إعادة التفكير أجد أن سبب عدم محبتي أوغاي إلا بعد دخولي الجامعة هو أن التعرُّف على ذلك (السُّكْر الرائق النقي)، مستحيل لطلبة المرحلة الإعدادية أو الثانوية.»
«نشر أوغاي أخيرًا تُحفتَه الخالدة الإوزة البرية في العام الرابع والأربعين من عصر ميجي (١٩١١م) بعد بلوغه التاسعة والأربعين. وفي كل مرةٍ أُعيد قراءةَ تلك الرواية دائمًا ما أفكِّر في نفس الأمر، تُرى هل استطاع أي كاتبٍ من الكُتاب والروائيين الذين جاءوا بعد أوغاي امتلاكَ مثل هذه اللغة التي كان أوغاي يملكها؟ التي يجمع فيها قِطَع الواقع التافه في اليابان مع نظرة الطائر الشمولية إلى أفكار العالم الضخمة، ومن الأدوات اليابانية الدقيقة إلى المناظر العملاقة، بحرية وبلا تفرقةٍ أو تمييز، بل ودون أن ينتقص ذلك من وحدة اللغة.»
ويُقارِن ميشيما بين أوغاي والكُتاب الذين جاءوا بعده، فيقول إن لغة الروائي تاتسو هوري إن استطاعت أن ترسم مدينة كارويزاوا الراقية، فهي لا تصلُح للتعبير عن المناطق المزدحمة والضوضاء التي في طوكيو. ويُشير إلى أن لغة جونئتشيرو تانيزاكي استطاعت التعبير عن كل شيء بدرجةٍ عظيمة، إلا أنها لا تُناسب الأفكار المجرَّدة. ويُشير ميشيما إلى عدم ظهور كاتبٍ ياباني امتلَك أسلوبًا أدبيًّا يحتوي بفنيةٍ عاليةٍ فوضى التحديث في اليابان مثل الدرجة التي امتلَكَها أوغاي. يعترف ميشيما بالطبع بظهور أدباءَ كُثر بارعين في فن الحبكة الروائية، وظهور أدباءَ ذوي درجةٍ عاليةٍ من التكثيف والتركيز الشعري، وظهور أدباءٍ يُدخِلون في أسلوبهم العادات والتقاليد السطحية بلا حدودٍ ولا نهاية، ولكن كان كلُّ ذلك بفضل عبقرية لغة أوغاي التوفيقية. ويتكلَّم ميشيما عن ظهور أدباءَ عباقرةٍ في كتابة الأفكار التجريدية، ولكن ينقصهم قوةُ التصوير التي تخترق الأشياء مثل الأشعة السينية، ثم يأسَى ميشيما لأن أوغاي الذي امتلك ذلك الأسلوب الأدبي بهذه القدرات، لسوء الحظ لم يكن لديه متَّسعٌ من الوقت ليكتب لنا عملًا روائيًّا ضخمًا وشموليًّا، ولكنه اعتبر «الإوزَّة البرِّية» بقَدْرٍ ما هي عمل أوغاي العبقري الشامل الذي اقترب من الحالة المثالية المطلوبة.
«تُسرد الرواية بواسطة الراوي بضمير المتكلم عن قصة حُبٍ لم تكتمل أو تتحقَّق للنهاية بين صديق الراوي أوكادا الشاب الوسيم صاحب الصفات المحمودة، وبين أوتاما الفتاة الشابة الجديرة بأن تُحب، ولكن وضع أوتاما أنها محظيةٌ لمُرابٍ.»
«يحكي أوغاي القصة داخل حركةٍ حتمية وكل شيء يمضي في هدوء مثل حركة الأجرام السماوية، وشخصيات الرواية فقط طالبٌ من جيله وإحدى المحظيَّات، ولكن يتركُ القدَر الذي يُحتِّم ألا يتلاقى الاثنان أثَرًا لآلامٍ لا تنتهي.»
ويقول ميشيما إن سخرية أوغاي في رواية «الإوزَّة البرِّية» تجاه الأدباء من المذهب الطبيعي لا تظهر مطلقًا، ورغم ذلك فالرواية تُعالج ببراعةٍ عيوبَ المذهب الطبيعي، ويُضيف ميشيما أن أوغاي كتَب روايةً رمزيةً اعتمادًا على واقعيةٍ مؤكَّدةٍ تتخطَّى بمراحلَ إتقانَ واقعية المذهب الطبيعي.
«ربما تكون رمزيةُ رواية الإوزَّة البرِّية هي الإشارة إلى مثالية عصرٍ حاول النهوض والطيران ولكنه فَشِل، ولكن أوغاي لا يرى في موت الإوزَّة البرِّية شيئًا عظيمًا وقويًّا، بل أن الراوي وأوكادا مع صديقهما إيشيهارا يأكلون الإوزَّة البرِّية بلا مبالاة. وبذلك لم يكن قاتلُ الإوزَّة البرَّية قوةَ الزمن العنيفة، ولا ضغطَ الحكومة والقانون، بل إنه لم يزِد عن كونه مجرَّد طالبٍ عديم الإحساس؛ ولذا أكل هؤلاء الطلبة شبابهم على شكل إوزَّة بأنفسهم بهذا الشكل على شكل نَقْل لخمر الساكي. وكان موقف أوكادا تجاه أوتاما هو نفس هذا الموقف؛ فهو يرحل دون أن يفهم الشغف الذي تَولَّد داخل قلب أوتاما، ولكن إذا سألنا حتى لو فهمه، هل كان سيتخلى عن مكانته ويقع في حب أوتاما؟ فالإجابة أنه لا يبدو أن أوكادا كان سيفعل ذلك بأي حال؛ فالأمر كله ينتهي في هدوءٍ مؤلمٍ من نوعٍ لا يُمكن وصفه؛ فالبشر جميعًا في النهاية كلُّ فردٍ منهم يسير في مساره المحتوم، وليس أمامه إلا أن يُحقِّق مصيره بنفسه.»
«يرى القارئ الذي يقرأ أعمال أوغاي مرارةً ومعاناةً تتعمَّق تدريجيًّا من البداية مرورًا بالإوزَّة البرِّية وحتى النهاية، وتتمركَز تلك المرارة والمعاناة داخل أوغاي فقط ولا يُظهِرها في العلن.