أحلام العِظام المجذوبة
«ناتسوهيكو كيوغوكو» روائيٌّ يابانيٌّ في العقد الرابع من عمره، حصل عام ٢٠٠٤م على أكبرِ جائزةٍ يابانية في الأدب الشعبي، وهي جائزةُ «ناوكي شو» عن آخر روايةٍ كتبها وهي جزءٌ من سلسلةٍ طويلة، اسم السلسلة «الحكايات المائة». ولم تنتهِ بعدُ هذه السلسلة.
يكتب كيوغوكو رواياتِه في قالبٍ غامضٍ تحيط به الإثارةُ والتشويق، لكنها ليست من نوعِ الرواياتِ البوليسية التي تَهدف إلى التسلية فقط. في رواياته يمتزج الماضي بالحاضر، الحوادثُ التاريخية بالأحداث الجارية، الفلسفةُ بعلم النفس، الإثارةُ بالرعب المنطقي. أغلبُ رواياتِه ذات حجمٍ ضخمٍ يَعيا المرءُ في مجردِ قراءته لاحتوائه على كميةٍ لا بأس بها من المصطلحات والكلمات الغريبة وأيضًا الكلمات المهجورة في اللغة اليابانية.
لا أدري إن كان قد تُرجمَت أعمالُه إلى لغاتٍ أجنبيةٍ أم لا. لكن أدعو المهتمين بآداب الشرق الأقصى إلى الانتباه إلى هذه الشخصية التي أتوقَّع أن تبزغَ في سماء الأدب العالمي. بل لا أظن أن جائزةَ نوبل عصيةٌ عليه إذا تمَّت ترجمةُ أعمالِه بشكلٍ جيد إلى اللغات الحية.
روايةُ «أحلام العِظام المجذوبة» سِفرٌ بالغُ الضخامةِ في أدبِ الرواياتِ البوليسيةِ تفوَّق فيه «كيوغوكو» على مَن سبقوه في هذا المجال، ووصل أعاليَ شاهقةً في الحبكة الدرامية التي ليس بها أي ثغرةٍ أو افتعال. ويصل بقارئه إلى الاقتناع بكل ما مَرَّ عليه من أحداثٍ في غاية الغرابة، والتي تبدو للوهلة الأولى تقع في نطاق اللامعقول أو الخيال العلمي، لكن كاتبَنا يقول إنه لا يؤمن باللامعقول.
تَقع أحداثُ الرواية في منتصف القرن الماضي وبعد مرورِ سنواتٍ قليلةٍ على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. لكنها تَغوصُ في أعماق الماضي ثم تَعودُ إلى الحاضر، وبما أن عنوانَ الرواية عن الأحلام فلم يترك الكاتب أي رأيٍ قِيلَ في تفسير الأحلام لعلماء النفس ولم يذكُره.
تقع الروايةُ في حوالي الألف صفحةٍ من القَطع المتوسط. وتتعدَّد فيها الشخصياتُ بشكلٍ هائل، وتتنوَّع فيها الأحداث، ولكن رغم ذلك تُجبِرك على الاستمرار معها لمعرفة تفسيرِ ما جرى ويجري من أحداثها الغامضة، بل واللامعقولة.
إلا أن المفاجأة هي أن لكل حادثةٍ تفسيرَها المنطقي الذي يكشفه لنا بطلُ الرواية بائعُ الكتبِ القديمة الذي يلجأ إليه أكبرُ المحقِّقين وأعتَى العقولِ ليُفسِّر لهم الأسرارَ التي تُحيط بالجريمة أو على الأصحِّ جرائم القتل التي لا تنتهي، والغريب أن الضحية شخصٌ واحدٌ، ما يَلبَث أن يُقتل حتى تعود إليه الروحُ لِيُقتل من جديد. وعلى يد من؟ إنها زوجته السابقة. التي قتلَته في المرة الأولى لتتخلَّص من عار هروبه من الاستدعاء إلى ساحة الشرف.
أكره صوتَ البحر.
من الأفق البعيد، من مكانٍ بعيدٍ يبعثُ على اليأس من بلوغه، يأتي متتابعًا في هدوءٍ مريب، صوتٌ مدمدم ذو لهجةٍ تهديدية صاعقة. أين مصدَره بالتحديد؟ صوت ماذا؟ ما الذي يصيح؟ هل هو صوت الماء؟ أو على العكس صوت الريح؟ أم هو صوتُ شيءٍ ما سواهما. إنه يُسبِّب الإحساسَ بالاتساع اللانهائي والعُمقِ الفارغ من المعنى، ولا غير.
ولا يسمح بأي إحساسٍ بالطمأنينة.
أصلًا، أنا أكره البحر.
أنا الذي تربَّيتُ في مكانٍ لا يُوجَد به بحر، عندما رأيتُ هذا الشيء لأوَّل مرةٍ انحصر تفكيري في شيءٍ واحد، من أين إلى أين يُسمَّى بالبحر. هل البحر هو الماءُ؟ أم هو أرضُ القاع أسفل الماء؟
أولًا هذا غير واضحٍ تمامًا. سطح الأرض التي تغوص بالماء هل هي فعلًا البحر؟
إذا كان الأمر كذلك، فماذا تكون هذه الأمواجُ العاتية التي تُثير الإحساس بالضغينة؟
الموج أيضًا، التفكير فيه يدعو إلى الاستياء. يتتابع من الأفق البعيد متماوجًا ثم يرحل عائدًا إلى حال سبيله. عندما أتذكَّر أنه في هذه اللحظة يتتابع ويتكرَّر بلا انقطاعٍ وبنفس الشكل على سواحلِ بحارِ العالمِ أجمع، أكاد أن أُصاب بالجنون. معنى ذلك أن البحر ينتفخ بلا هوادةٍ مُوسعًا لحدوده أو مُضيِّقًا لها.
أصلًا، ساحل البحر إن كان رملًا أو حتى صخرًا، فهو بلا أي شُبهةِ خطأ أرضٌ قارِّية. لا تُوجد أي علامةٍ لتُحدِّد لنا من أين يبدأ البحر.
وإذا سألنا، حسنًا … ما ماء البحر؟ في الأصل إنه في منتهاه ماءٌ رائقٌ شفَّاف. فقط مجرَّد أن ماءً متجمعٌ في أرضٍ منخفضة. شيءٌ لا غرابة فيه على الإطلاق.
ومع ذلك، الماء الذي يُفترَض أنه شفَّافٌ ورائق، يتخذ البحرُ في غفلةٍ من الزمن لونَه الأزرق الذي يثير الخوف، ثم يبدأ في الإعراب عن وجوده الطاغي.
في اعتقادي أن هذه هي القوة البلهاء للكَم. إنه حتى مجرد الوجود الشفَّاف، الخائب إذا تجمَّع بشكلٍ كهذا، يبدأ في التعبير عن النفس الطاغية. البحر إن كان صغيرًا لا يُعتبر بحرًا. يصبح مجرد ماء. إذن هذه الكميات المهولة من الماء هي التي تجعل من البحر بحرًا.
يا له من تعبيرٍ غبي!
أيضًا، لم يصل تفكيري إلى أنه تُوجَد بحارٌ عميقة إلى حد لا تستطيع قامتي الوقوف فيها. لا ليست مسألة قامتي فقط. إن مجرد التلميح إلى أنه تُوجَد بحار يصل عمقُها إلى أضعاف، بل آلاف الأضعاف من طول قامتي لم أكُن أعتبره إلا مجردَ قدحٍ من الخيال تخطَّى حدود المعقول، ولكنها الحقيقة.
ما من شيءٍ أسفل القدم. رُعبُ السقوط دون أن يكون ثمَّة ما يستقبلك. هل هناك ما هو أكثرُ رعبًا من ذلك؟
إن السقوط من مكانٍ عالٍ يختلف تمام الاختلاف. مهما بلغ ارتفاع مكان السقوط، الأكيد أن الأرضَ في انتظارك.
ولكن البحر يختلف؛ إذ ربما لا يُوجَد للسقوط نهاية.
يُقال إن أعماق البحار لا يصلُها شعاعُ الشمس.
الماء الذي يُفتَرض أنه شفافٌ، لماذا يصبح حاجبًا حتى لأشعة الشمس؟ شيءٌ يستحيل عليَّ فهمه.
بمعنى أن الكمياتِ الهائلة وقدرتَها على التعبير عن ذاتها، تبتلع حتى أشعة الشمس!
شيءٌ يثير الضجر!
ما من شاطئٍ على الجانب الآخر. علاوةً على ذلك لا قاع.
أنا أكره البحر … أخافُه.