علاقةُ المُترجِم بالأديب
يقول «روبين» في كتابه لقد سحرَتْني تمامًا أعمالُ هاروكي موراكامي، ليس كعالمٍ متخصصٍ ولكني انبهرتُ بشدة من أعماله (موراكامي) كفردٍ من مُحبيه. ويَسردُ في بداية الكتاب كيف أنه لم يكن على اطِّلاعٍ برواياتِ موراكامي؛ لأنه خارجُ نطاقِ تخصُّصه الذي تركَّز في عصر ميجي، بداية التحديث في الدولة اليابانية، ولكن بسبب اتصال هاتفٍ جاءه من دار نشرٍ كبرى تطلُب منه قراءةَ أحدِ أعمال موراكامي ليقولَ رأيه فيه هل يستحق النشر أم لا، وبعد قراءته لتلك الرواية (التي أعرضَت دار النشرِ عن نشرِها في ذلك الوقت) أُصيب بحُمَّى عشق موراكامي، وأخذ يقرأ كل أعماله، وبدأ في ترجمة قصصه القصيرة حتى دون وجود اتفاقٍ بنشرها، ويقول إن ذلك الهاتف غيَّر مجرى حياته بالكامل.
يُشتَهر موراكامي بأنه قليل الظهور والكلام مع وسائل الإعلام، ولكن من خلال هذا الكتاب يمكنُنا أن نتعرَّف على أوجهٍ عديدةٍ لهذا الأديب الذي طارت شُهرتُه في الآفاق، وصار من أكثرِ الأدباءِ قراءةً على مستوى العالم. ويُقال إن شهرة وانتشار هاروكي موراكامي العالمية يقف وراءها مُترجِمون بارعون. وجاي روبين بصفةٍ خاصةٍ أحدُ الذين لهم بصمتُهم الواضحة في هذا المجال، ويُعرف بعلاقته القوية مع موراكامي. وإحدَى متع هذا الكتاب هي القدرةُ على التعرُّف على الروائي موراكامي الذي من النادر ظهورُه في الأماكن العامة ولا يظهر وجهه الحقيقي والطبيعي للناس، من خلال المُترجم الذي على علاقةٍ جيدة به. نتعرَّف من خلال الكتاب على موراكامي الذي يتغلَّب على مصاعب التزلُّجِ على الجليد بعد عدةِ محاولاتٍ قاسيةٍ وسقوطِهِ بعنفٍ أكثر من مرة. موراكامي الذي بَدا كأنه يَسوق السيارة في طريق العودة من التزلُّج ذلك وهو يغفو بين فَيْنَةٍ وأُخرى. موراكامي الذي يكره دائما أن يُسأل «إلى ماذا يرمز هذا؟» موراكامي الذي يردُّ ويُجيب على كل أسئلة المُترجِم التفصيلية بجدٍّ واجتهادٍ مهما كانت مُمِلَّةً ومُزعِجَة. موراكامي الذي رغم أنه يجتمع لسماعه في محاضراته العامة في أمريكا أكثرُ من ألف شخص، إلا أنه شخصٌ قليلُ الكلامِ وحسَّاس ويَميل ميلًا شديدًا تجاه الواجب.
ولكن هذا الكتاب مع سَيْره على هذه الوتيرة من الحكايات عن موراكامي، إلا أنه في الواقع يطرح سؤالًا في غاية العمق والأهمية. وذلك السؤال هو «ما هي وظيفة المُترجِم؟» فطَوالَ الكتاب وحتى نهايته يلتزم روبين بالتواضع الجَم، ولكن روبين كان له دورٌ عظيم في عملية إخراج موراكامي للعالم من خلال ترجمته للإنجليزية؛ فموراكامي الذي يُنظر إلى لغته اليابانية على أنها لغةٌ يابانية غريبة أو بمعنًى آخر «أعجمية»، تظهر مشاكلُ عدةٌ عند ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. ولقد استمعتُ إلى محاضرة ألقاها أحدُ العارفين ببواطن الأمور شرحَت كيفية التغيير الكبير الذي كان مترجمو وناشرو موراكامي يقومون به على النص الياباني الأصلي لكي يتوافق مع «ذوق» القارئ الأمريكي، من حيث الحذف وتغيير الأسماء والعناوين … إلخ، ومثل تلك الحالاتِ التي تظهر فيها مهارةُ المُترجِم. وأعمال المُترجِم الهامة متعدِّدة بدايةً من اختيار النص الذي يُترجَم إلى اختصار النص الأصلي … إلخ.
وغَنيٌّ عن البيان أن المُترجِم لا بُدَّ أن يكون ذا معرفةٍ وثقافةٍ وفيرةٍ سواء بمحتوى النص أو الخلفية الثقافية التي يدور النصُّ خلالها. إن أغلبَ من ستَمتدُّ يده ليقرأ هذا الكتاب هم من مُحبي هاروكي موراكامي، ولكن مع توالي قراءة جُمل الكتاب الغنية بقوة الملاحظة والبساطة والوضوح سينبُع اهتمامٌ بالكاتب روبين نفسه. إنه الأستاذُ الفخريُّ بجامعة هارفارد، والذي كانت أبحاثه الأكاديمية تتعلَّق بقضية «الرقابة» والأدب الياباني في العصر الحديث. ليس فقط الرقابة من خلال الدولة ولكن كذلك ركَّز بؤرةَ اهتمامِه على الرقابة التي قام بها جيشُ الاحتلال الأمريكي في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أثارت جدالًا أكاديميًّا واسعًا. وهو كذلك سَطع نجمُه ككاتبٍ روائي؛ فلقد صدرَت له رواية «آلهة الشمس» (التي تُرجمَت للغة اليابانية بعنوان «أشعة الأيام») بالاشتراك مع زوجته، والتي تُناقِش قضيةَ وضعِ المهاجرين من أصلٍ ياباني في معسكرات الاعتقال الجبرية، تلك الرواية التي ظهرَت لأول مرة بعد ٣٠ عامًا على اكتمالها. إنه كتابٌ تتصفَّحه بسهولة ويسر ولكن التمتُّع به ليس طريقةً واحدة.