اليابان وثقافة المرور
المسافة بين مسكني وبين أقرب محطةٍ للقطارات حوالي ٨٠٠ مترٍ تقريبًا. ولا يُوجَد في هذه المسافة إلا إشارةُ مرورٍ واحدة تقع في منتصف تلك المسافة تقريبًا في تقاطُع بين طريقَين غير رئيسيَّين.
بالأمس كنتُ عائدًا إلى منزلي في وقتٍ متأخر نسبيًّا من الليل، ألا وهو العاشرة والنصف مساء. وفي هذا الوقت من الليل في منتصف الأسبوع عددُ المارَّة من المُشاة والسيارات يكون قليلًا للغاية، خمسة أو ستة رجالٍ ونساءٍ عائدين من أعمالهم مثلي في نفس الاتجاه، وسيارة أو سيارتَين في كل اتجاهٍ عند التقاطُع.
عندما وصلتُ إلى التقاطع كانت الإشارة قد تحوَّلَت إلى اللون الأحمر بالفعل، فوقف من سبقَني من المشاة في انتظار اللون الأخضر، ولكني نظرتُ فوجدتُ أن السيارة الوحيدة في الاتجاه المعاكس التي كانت تنتظر تغيُّر الإشارة قد سارت بالفعل ولا تُوجَد أي سيارة في الاتجاهَين ولا يُوجَد أي احتمالٍ لقدوم سيارة، فواصلتُ سَيْري دون توقُّف رغم أن الإشارة حمراء، ورغم أن جميع المُشاة حولي كانوا ينتظرون عند مكان عبور المُشاة.
بعد أن سرتُ قليلًا جاءني هاتف أن أنظر خلفي، فوجدتُ أن الإشارة قد صارت خضراء، وأن المشاة بدءوا السير في نفس اتجاهي. كانت المسافة بيني وبينهم حوالي ١٥ مترًا، وفارق الزمن بيني وبينهم ١٠ ثوانٍ تقريبًا.
فكَّرتُ كثيرًا في هذا الذي حدث، لماذا أخذتُ قرارًا بالسير رغم أن الإشارة كانت حمراء؟ ولماذا انتظر باقي المشاة رغم عدم وجود احتمالٍ لأية مخاطرَ من عُبور الطريق في ذلك الوقت؟
ماذا استفدتُ أنا من توفير ١٠ ثوانٍ، وماذا خسر الباقون؟ هل ١٥ مترًا تقدُّمًا في المسافة عن الآخرين، مقابلٌ مُجزٍ لاختراق القانون والتفرُّد بوصمة المتخلِّف الهمجي الذي لا يُبالي بقواعد المجتمع وما جرى عليه العُرف؟
هل كنتُ أنا الذي في المقدِّمة وهم يُلاحِقونني أم كان الأمر على العكس؟
حسنًا، هل سيتغيَّر الأمر لو أني فُزتُ بجائزةٍ أكبر من مجرد ١٠ ثوانٍ و١٥ مترًا؟ أعني لو خرقُ القانون (بلا عواقب بالطبع) أفادني بتوفير ١٠ دقائقَ وتقَدُّمٍ بمسافة ١٥٠٠ مترٍ عن المحافظين على القانون، لو حدث ذلك هل كنتُ أشعر بالنصر ولذَّة التفوُّق عليهم؟
هذا الموقف ذكَّرني بما حدث لي عندما جئتُ إلى اليابان للمرة الأولى منذ ما يقرب من عشرين عامًا. كنتُ أسكُن عند صديقٍ ياباني منزله أيضًا يشبه منزلي الآن يقع في الأطراف البعيدة من مركز العاصمة طوكيو، ويقع إداريًّا في المحافظة المجاورة لطوكيو، رغم أنهما على طَرفَي النقيض شرقًا وغربًا من طوكيو.
كنتُ أريد أن أستغل كل دقيقة من وجودي في اليابان، فكنتُ أظل في مركز طوكيو حتى موعد آخر قطارٍ يصل المحطة التي بها مسكن صديقي هذا، فكنتُ أصل البيت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وكان ذلك الوقت يعني أنني كنتُ الوحيد تقريبًا الذي أسير في الطريق من المحطة حتى منزل صديقي. وكان يُوجَد عددٌ أكبر من التقاطُعات لا أتذكَّره بالضبط، ولكن الذي لن أنساه ما حييتُ هو دهشتي وصدمتي عندما أرى السيارات وإن كان عددها تقريبًا معدومًا إلا أنه كل سيارة تمُرُّ في الطريق كانت تلتزم بالوقوف في الإشارات الحمراء، رغم أن في ذلك الوقت احتمال مرور سيارتين في اتجاهَين متقاطعَين يكاد يكون صفرًا. كان هذا الذي أراه صدمةً حضاريةً بكل ما تعني الكلمة، خاصةً لشابٍّ أتى من مصر في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وكنتُ أعتقد أن الأمر به لغز، وأنه ربما كان الأمر مجرد صدفةٍ تكرَّرَت أمامي بشكلٍ عَفْوي وهي ليست العادة المنتشرة في كل اليابان.
كان هذا ظني حتى مرت السنوات وعرفتُ أن الأمر ليس صدفة، وأنه الأمر المتبع في كل اليابان طولًا وعرضًا. وإن عجزتُ عن معرفة كيفية جعل الناس تلتزم بمثل هذه الدرجة التي لا يكاد يشذُّ عنها أحد. إلى أن قرَّرتُ بعد سبع سنواتٍ في اليابان اقتناء سيارة، وكنتُ لا أحمل رخصةً في بلدي مصر ولم أقم بقيادة سيارة من قبلُ، فكان لزامًا أن أتعلَّم القيادة وأحصل على رخصة قيادةٍ يابانية، فذهبتُ لتعلُّم القيادة في مدرسةٍ متخصصة لذلك، وداومتُ الذَّهابَ إليها على مدى حوالي ثلاثة أشهرٍ حتى استطعتُ الحصول على رخصة قيادة. وخلال هذه الفترة عرفتُ سبب التزام الجميع بقواعد المرور، فأي شخصٍ ياباني من أجل أن يحصل على رخصة قيادة لا بد له من التعلُّم في مدرسة تعليمٍ مُحترِفة كالتي تعلَّمتُ فيها. وفي هذه المدرسة يتم تعليم قواعد المرور والقيادة بشكلٍ علمي بحت، عملي ونظري، على مدًى طويل من الوقت، بحيث يصبح الالتزام بالقانون وقواعد المرور شيئًا بديهيًّا تلقائيًّا في السائق، فأنا حتى الآن لا أستطيع قيادة السيارة بدون ربط حزام الأمان، وحتى داخل مَرأَب السيارات في منزلي، ارتبط جلوسي على مقعد القيادة بربط الحزام، لو لم أربطه أُحِس بإحساسٍ غريبٍ وكأني غير قادرٍ على السير، ربما كان الأمر له علاقةً بتأثير نظرية بافلوف، لا أدري، ولكني حتى الآن وعلى مدار ما يقرب من ١٣ سنةً قيادة لا أستطيع أن أتخيَّل نفسي أخترق إشارةً وهي حمراءُ مهما كنتُ في تعجُّل، مهما كان المكان الذي يجب أن أذهب إليه سريعًا، وحتى وأنا أتوجَّه في منتصف الليل بأحد أبنائي للمستشفى وهو يتلوَّى من الألم. الإشارة حمراء معناها الوقوف. الجلوس في مقعد القيادة معناه ربط حزام الأمان.
إذن ما الذي كان المدير يريد قوله؟
المدير كان يريد نصحي بالانتباه، حتى لو إشارتي أنا خضراء فيجب ألا أعبر مُغمَضَ العينَين ويجب أن أحترس؛ فلعل سائق السيارة لا يرى دراجتي بسبب الظلام، أو لعله يسوق تحت تأثير الخمر، أو لعله مُصابٌ بضعف نظرٍ ليلي أو لعله … أو لعله إلى آخر مُسبِّبات حوادث الطرق التي تحدُث في اليابان، والذي لا بد أن القارئ قد تساءل في نفسه هل إذن لا تُوجد حوادث مرور بسبب هذا الالتزام الياباني الصارم بالقانون وقواعد المرور؟ ولكن الإجابة هي العكس، وهي أن حوادث المرور كثيرة في اليابان وتسبَّبَت على سبيل المثال في وفاة ما يزيد على الأربعة آلاف شخصٍ في عام ٢٠١٤م فقط، وإصابة أضعاف هذا الرقم. والسبب في كثرة حوادث المرور في رأيي هو نفس السبب الذي شرحتُه؛ فأنا ذكرت أن السائق عندما يرى الإشارة حمراء فهذه الإشارة تتحول لا إراديًّا في عقله إلى مِكبحٍ صارمٍ يمنعه من الضغط على مِكبَس السرعة وتخطِّي الإشارة، ولكن العكس أيضًا صحيح؛ أي إن الإشارة الخضراء تتحول في عقله إلى علامة ضغطٍ على السرعة وتخطِّي التقاطع، ولا يمكن للياباني أن يفهم سببًا يجعله يقف أمام إشارةٍ خضراء، فهي لا تعني كما يجب أن تكون يمكنك المرور ولكنها ربما تعني له يجب أن تمر أو احذَر من الوقوف أو شيئًا من هذا القبيل، ولن يفهم أيضًا أن هناك من يفكِّر في السير في الاتجاه العكسي رغم أن إشارتَه تمنعه من ذلك؛ وبالتالي فأيُّ خطأ ولو بسيطًا؛ أيُّ سهو، أيُّ إهمال، معناه حادثة تصادُمٍ بين السيارتَين.