كيف أنقذَت إمبراطوريةُ الشمس نفسَها من الكوارث والحروب؟
بعد انتهاء ما يقارب ثلاثة قرونٍ من السلام الداخلي والخارجي تحت حكم عائلة توكوغاوا التي فرضَت على البلاد عُزلةً شديدة وانغلاقًا تامًّا عن العالم، تعرَّضَت اليابان في العصر الحديث لحروبٍ شرسةٍ أولًا مع جيرانها الصين وروسيا القيصرية، ثم بعد ذلك حروب عالمية، فخاضت الحرب العالمية الأولى وكانت من المنتصرين بعد تحالُفها مع بريطانيا، وخاضت الحرب العالمية الثانية منفردةً وإن كانت في تحالفٍ شكليٍّ مع ألمانيا وإيطاليا، إلا أنها فعليًّا حاربت بمفردها ضد قوات الحلفاء في شرق آسيا والمحيط الهادئ، فنالت هزيمةً فاجعةً مدمرةً انتهت بسقوط قنبلتَين ذرِّيتَين عليها لأول مرة في التاريخ الإنساني. وفي كل مرة تتحول البلاد كليًّا أو جزئيًّا إلى ما يُشْبه أطلال دولة، وتنهار فيها كل مقوِّمات المدنية والحضارة.
أقولُ بعد هذا الدمار الشامل باستخدام أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل، فاجأَت اليابان العالَم بمعجزةٍ كبرى؛ ففي خلال عقدَين تحوَّلَت إلى دولةٍ صناعيةٍ كبرى وثاني أكبر قوةٍ اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
فما السر يا تُرى في ذلك؟
السر يعود في رأيي، إلى عاملٍ أساسي، هو الإنسان.
اهتمام اليابان بالإنسان وبناء الإنسان وتأهيله ثقافيًّا وتعليميًّا هو ما جعلها قادرةً على استعادة زمام الأمور بعد كل كارثةٍ طبيعية أو هزيمةٍ حربية، حتى لو وصل الأمر إلى قنابلَ ذرية، أو موجاتِ تسونامي تأكل الأخضر واليابس، أو تسرُّبٍ إشعاعي يجعل جزءًا من البلاد مهجورًا لا يمكن الدخول إليه لسنواتٍ عديدة حتى ينتهي أثَر الإشعاع.
ولكي نرى دَوْر التعليم والثقافة في خلق وعيٍ حضاريٍّ عالٍ لدى اليابانيين، لا بد أن نُلقي نظرةً على نسبة التعليم في اليابان على مدى التاريخ؛ فاليابان تفخر بأنها تحتل أعلى نسبة تعليمٍ بين سكانها على مستوى العالم لقرونٍ عدة.
ففي العصور الوسطى، حيث كانت الأمية والجهل منتشرَين في أوروبا وبقية بقاع العالم، كان مستوى التعليم في اليابان عاليًا للغاية من خلال تطبيق نظامَين للتعليم؛ أولًا تعليم الصفوة؛ أي الساموراي، وكانوا هم الطبقة العليا من المجتمع الذين يتولَّون شئون الحكم والعمل في الجهاز الإداري للدولة، وكان يتم تعليمهم في مدارسَ شبه حكومية تُسمَّى «هانكو» يُقيمها الحاكم العسكري لكل ولايةٍ أو إقطاعيةٍ لكي يتعلم فيها أبناء الحكام والقواد من الساموراي لكي يخلفوا آباءهم في مناصبهم، وهذا النظام جعل نسبة معرفة القراءة والكتابة بين الساموراي مائة في المائة حسب المصادر الموثوقة. ونظام التعليم الآخر هو التعليم الأهلي الذي يُشرِف عليه المجتمع المدني بلغة العصر، وكان عبارة عن فصولٍ تعليمية تُوجَد داخل المعابد الدينية، خاصة البوذية، وتُسمَّى «تيراكويا»، وهي تشبه «الكتاتيب» في العالم الإسلامي. وكانت هذه الكتاتيبُ اليابانية تُعلِّم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب لأبناء الشعب من العامة. وتُشير المعلومات التاريخية إلى أنه في حين لم تَزِد نسبة التعليم في أوروبا عن العشرة في المائة أو أقل في القرون الوسطى، إلا أنها كانت في اليابان تزيد على الخمسين في المائة وتقترب من الستين في المائة بين عامة الشعب، فضلًا عن كونها مائة في المائة بين الطبقة العليا. رغم أنه لم يكن هناك تعليمٌ إلزامي في القرون الوسطى، ولكن كان إقبال الشعب الياباني ورغبته المحمومة في تعليم أبنائه ذكورًا وإناثًا هو السبب في المحافظة على تلك النسبة العالية جدًّا على مستوى العالم وقتها؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر، كانت نسبة التعليم في المدن الصناعية الكبرى في بريطانيا ما بين ٢٠ و٢٥ في المائة. وكانت النسبة عشرة في المائة في الطبقات الدنيا من المجتمع في لندن ذاتها.
بعد بداية الدولة المدنية الحديثة بنجاح ثورة ميجي في عام ١٨٦٨م، بدأ نظام التعليم الإلزامي في اليابان ووضعَت حكومة ميجي خطَّة للقضاء تمامًا على الأمية بين جميع أفراد الشعب في خلال جيلٍ واحد، وتَحقَّق لها ذلك؛ ففي بداية القرن العشرين قضت اليابان على الأمية تمامًا بين أفراد جميع الشعب.
وحاليًّا نسب التعليم في اليابان هي كالتالي: ٩٩,٩٪ من الشعب خريج مدارس متوسطة؛ أي تلقَّى التعليم الإلزامي كاملًا لمدة تسعة أعوام. ثم أكثر من سبعة وتسعين في المائة من الشعب خريج المدارس الثانوية. ومن ٦٥ إلى ٧٠ في المائة من الشعب اليابان خريج جامعة أو معهدٍ عالٍ أو مدرسةٍ متخصصة بعد الثانوية (المصدر إحصائيات وزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلم والتقنية اليابانية).
توازُن المحتوى: وعند النظر إلى محتوى التعليم في اليابان، نجد أن مرحلة التعليم الإلزامي (تسع سنوات)، وهي مجانية تمامًا، يتعلَّم فيها الأطفال تعليمًا يعتمد أساسًا على التربية السليمة عقليًّا وروحيًّا وجسديًّا واجتماعيًّا. وفي هذه المرحلة، يتم إهمالُ الجانب التنافُسي والصراع من أجل الدرجات والنجاح.
عندما يكون الاهتمام بتنشئة جيلٍ جديدٍ فلا يهم مَن الأول ومَن الأخير. وكذلك في هذه المرحلة العمرية يتم انتقال الأطفال إلى السنوات الأعلى تلقائيًّا من دون إسقاطهم مهما كانت نتائجهم في الامتحانات؛ لأن الغرض هو التعليم والتربية وليس العقاب.
في المدارس الابتدائية، حصص الرسم والموسيقى والغناء والألعاب في غاية الأهمية، مثلها مثل حصص اللغة اليابانية والعلوم والتاريخ والجغرافيا … إلخ. وأهم حصة في اليوم هي وجبة الغداء. نعم وجبة الغداء حصة؛ حيث يتناول كل التلاميذ معًا الوجبة التي تم إعدادها داخل المدرسة، بعد أن يتم جلبُها من المطبخ وتوزيعها بواسطة التلاميذ أنفسِهم، حيث يتم تقسيم الفصل إلى مجموعاتٍ عدة، كل مجموعة تقوم بدَورٍ ما من هذه الأعمال، ويتم تبادُل الأدوار بشكلٍ مستمر على مدار العام الدراسي.
من خلال المدرسة، تتمُّ تربيةُ الفرد الياباني لكي يكون جزءًا من المجتمع مشاركًا فيه بفاعلية، ثم من خلال التعليم العالي يتم تأهيله بما هو أهلٌ له حتى يُفيد نفسه وبلده؛ ولذا تنجح اليابان في تخطِّي كل الأزمات التي تُواجهُها سواء كانت كوارثَ طبيعية أو حروبًا أو احتلالًا أو غيرها من الأزمات.