اليابان وثقافة الانتحار
انتحر وزير الزراعة الياباني توشيكاتسو ماتسوكا (٦٢ عامًا) في الثامن والعشرين من شهر أيار/مايو الماضي على خلفية اتهاماتٍ له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمالٍ غير مشروعة. وقد أُصيب المجتمع الياباني بصدمةٍ من هذا الحادث لأن هذه هي المرة الأولى التي ينتحر فيها وزيرٌ وهو في منصبه. الوزير ماتسوكا كان من كبار راديكاليِّي الحزب الحاكم المتزمِّتين الذين يعارضون التقدُّم والإصلاح. وكان من المجاهرين بمعارضتهم لرئيس الوزراء السابق كويزومي، الذي كان يعمل على إحداث إصلاحاتٍ سياسية وهيكلية، مما يجعل الناس تحتار في إقدامه على الانتحار.
عدد المنتحرين اليابانيين يزيد على الثلاثين ألف شخصٍ للعام التاسع على التوالي، وصل العدد في عام ٢٠٠٦م إلى ٣٢,١٥٥ شخص؛ أي بمعدل انتحار شخص كل ١٨ دقيقة، وهي من أعلى النسب في العالم والنسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى. وإذا أضفنا عدد محاولات الانتحار التي يُخفِق منفِّذوها في التخلُّص من حياتهم فيها، وهي أكثر من حالات الانتحار نفسها، نجد أننا أمام ظاهرةٍ خطيرة ومنتشرة في اليابان.
والسؤال هو لماذا يُقْدِم الياباني على التخلص من حياته بهذه السهولة؟
بالطبع أسباب الانتحار المباشرة كثيرةٌ ومتنوعة، وهي لا تختلف كثيرًا عنها في الدول والبلاد الأخرى. لكن ما أريد مناقشتَه في هذه المقالة هو لماذا يُقْدِم عددٌ أكبر من البشر في اليابان عنه في باقي بقاع العالم على الانتحار؟
بل يصل الأمر وكما نعلم جميعًا أن اليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لها طريقةٌ معينة في الانتحار مُسجَّلة باسمها، وهي طريقة «الهاراكيري» وتعني «قطع البطن».
أعتقد أن ثقافة الانتحار في اليابان أتت في الأصل من «الهاراكيري» التي اشتُهر بها المحاربون القدماء «الساموراي».
فما تاريخ هذه العادة التي انفردَت بها اليابان عن العالم أجمع؟
الهاراكيري هي قيام الفرد بقطعِ أحشائِه بسيفٍ صغير (خنجر) وذلك بشَقِّ بطنه بخطٍّ أفقي من الشمال إلى اليمين، ثم يواصل الشقَّ رأسيًّا إلى أسفلِ البطن. ولأن هذه الطريقة لا تُسبِّب الموت الفوري بل يظل المنتحر يُعاني من الآلام الرهيبة، فلا بد من وجود شخصٍ يقوم بقطع رقبته على الفَور حتى يُريحه من هذه الآلام.
يُقال إن أول من أقدَم على الانتحار بطريقة «الهاراكيري» في اليابان هو المحارب «ميناموتو نو تاميموتو» في عام ١١٧٧ ميلاديًّا، وانتشرَت بعد ذلك بين الساموراي منذ ذلك العصر وحتى عصر انتهاء طبقة الساموراي بانتهاء الحكم العسكري وانتهاء المجتمع الطبقي في عصر ميجي. ولكنها استمرَّت بعد ذلك أيضًا وإن قلَّت نسبتُها طريقةً مفضَّلة للانتحار لدى بعض اليابانيين من العسكريين واليمينيين الذين يحنُّون إلى عصر الساموراي المجيد. ونعرف أن أشهر كُتاب اليابان المعاصرين يوكيو ميشيما (١٩٢٥–١٩٧٠م) انتحر بطريقة «الهاراكيري» في عام ١٩٧٠م.
اكتسبَت «الهاراكيري» مقوِّماتها ومجدها الشهير في عصر الحرب الأهلية التي استَمرَّت ثمانين عامًا من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن السادس عشر. وبعد انتهاء الحرب الأهلية وتوحيد البلاد تحت قيادةٍ واحدة تغيَّرَت الهاراكيري قليلًا؛ فبعد أن كان الأصل أن الساموراي المهزوم وخاصة القائد يقدم على الانتحار بطريقة الهاراكيري خوفًا من أن يقع أسيرًا في يد أعدائه ويُعدم ذبحًا، وهو ما كان يُعتبَر عارًا كبيرًا بالنسبة للساموراي، أصبحت أسباب الهاراكيري متنوعة؛ كأن يُقْدِم الساموراي المنهزم على الهاراكيري بدافع تحمُّل مسئولية الهزيمة، أو لكي يلحقَ بقائده الذي قُتل في المعركة، أو لكي ينال نفس الشرف الذي ناله رفيقه المنتحِر، أو لكي يُعليَ من شأن عائلته بهذا الشرف … إلخ. ثم صارت الهاراكيري طريقةً من طرق الحكم بالإعدام وخاصة في عصر إدو ضد الساموراي، ولكن يبقَى السبب الأكثر شهرةً وكثرةً هو قطع البطن (الهاراكيري) دليلًا على تحمُّل مسئولية الهزيمة أو الخطأ أو لمسح العار الذي يلحق بالشخص المنتحِر. وهناك كلمة نقدٍ شديدة القسوة لا تُقال إلا في أشد حالات الغضب والانفعال، ألا وهي «اقطع بطنك»، تُقال لشخصٍ ما لحثه على وجوب تحمُّل مسئولية الخطأ، أو ضرورة الإحساس بالندم والعار مما سبَّبه عن قصدٍ أو حتى عن خطأ وإهمال. وسرعان ما يندم قائلُها لأنه يعلم أنها كلمةٌ يجب ألا تُقال تحت أي ظرفٍ كان. إذن الانتحار في اليابان على طريقة الهاراكيري يعني في الماضي أولًا تحمُّل المسئولية، ثانيًا يمسح الخزي والعار، ثالثًا يُمتدَح فاعله لأنه قدَّم حياتَه في سبيل ذلك.
رغم اختلاف الأوضاع كثيرًا بعد انتهاء عصر الساموراي الذين انقرضوا بعد ثورة ميجي الإصلاحية، إلا أنه خلال الحرب العالمية الثانية فوجئ العالم بظهور قوات «الكاميكازيه» التي هي عبارةٌ عن فِرقٍ خاصة تقوم بعملياتٍ عسكرية انتحارية ضد الجيش الأمريكي من أجل الإمبراطور الذي يعتبرونه إلهًا، ويعتبرون أن بذل النفس من أجله غاية المجد والشرف. وهي عملياتٌ عسكرية أفقدَت أمريكا صوابها، فكان أول ما عملَت على تنفيذه بعد احتلالها اليابان هو نزع صفة الألوهية عن الإمبراطور، وجعله إنسانًا عاديًّا في عيون اليابانيين، بل ونزع كل سلطاته السياسية، وجعله مجرد رمز للدولة «لا يهش ولا ينش» كما يقولون. وبسبب هذا الاحتلال اختلفَت النظرة إلى الانتحار، وزاد البعد عن الثقافة اليابانية الخاصة بذلك، بسبب طغيان الحياة المادية الغربية على نمط الكثير من مناحي الحياة، إلا أنه ما زال يبقَى في أعماق اليابانيين بعضٌ من هذه الثقافة التي تُمجِّد تحمُّل المسئولية، وأن من أخطأ سواء عن قصدٍ أو عن إهمالٍ يجب أن يُكفِّر عن هذا الخطأِ بأيِّ طريقةٍ كانت، وإن انعدمَت طريقة الهاراكيري إلا فيما ندر، كما هو الحال في حادثة انتحار ميشيما. وبالمناسبة ميشيما انتحر لفشله في حثِّ أفراد قوات الدفاع الذاتي على التمرُّد على الأوضاع الذي أُجبرَت عليها اليابان بعد هزيمتها أمام أمريكا، وخاصة الوضع المُزرِي للإمبراطور، بعد أن ظل يخطب فيهم حوالي نصف ساعة، فشل في حثِّهم على القيام بانقلابٍ عسكري يُعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب، فانتحر بطريقة الهاراكيري وهو يهتف «يعيش جلالة الإمبراطور».
إذن الانتحار سواء بالهاراكيري أو بوسيلةٍ أخرى هو بصفةٍ عامة فعلٌ ينم على تحمُّل المسئولية وينمُّ على الندَم والأسف. وفي الماضي كان يُمجَّد مَن ينتحر لهذه الأسباب.
إذن الانتحار بسبب اليأس من الحياة أو اليأس من الفقر أو اليأس من المرض … إلخ، هو وإن كان سببًا ظاهريًّا في الكثير من حالات الانتحار التي تحدُث حاليًّا، إلا أن الواقع يقول إنه لأن اليابانيين لا يؤمنون بالقضاء والقدَر، فالمنتحر في أغلب الأحوال يعتقد أنه السببُ في كل ما يجري له، وأن هناك حوله الكثيرين الذين يعانون بسببه، سواء كانوا أهله أو مرءوسيه أو رؤساءه أو حتى عامة الناس، وأن تخلُّصَه من حياته هو عملٌ يوجبه منطق الشرف والأمانة، وأنه بذلك سيُريح ويستريح، خاصة أن أغلب اليابانيين الآن يؤمنون بتناسُخ الأرواح، وأنه سيُولَد مرةً أخرى في هذه الحياة، وسيكونُ وضعُه فيها بناءً على أفعاله، فإن فعل خيرًا فخير، وإن شرًّا فشَر.
ذكرتُ في أول المقالة أن عدد المنتحرين في اليابان فاق الثلاثين ألفَ شخصٍ للعام التاسع على التوالي. هذه السنوات التسع هي مُحصِّلة والمتوقَّع أن تستمر لفترة، للكساد الاقتصادي الذي تعاني منه اليابان منذ منتصف التسعينيَّات في القرن الماضي وحتى الآن وإن تحسَّن الأمر نسبيًّا مؤخرًا. أكثر من عانى من هذا الكساد الاقتصادي هي الشركات الصغيرة والمتوسطة التي وقعَت في أزماتِ مالية متوالية؛ الأمرٌ الذي أدَّى بالكثير من هذه الشركات إلى إعلان الإفلاس والإغلاق. عددٌ كبيرٌ من أصحاب ومديري هذه الشركات يُقدِم على الانتحار عندما يرى أن شركته التي يملكها أو يديرها مضطرةٌ إلى الإفلاس مما يُسبب العديد من المآسي للعاملين فيها وأُسرهم. على اعتبار أن هذه هي الطريقة التي يعتذر بها عما حدث. وهذا هو السبب الذي جعل عدد المنتحرين في اليابان يزيد بمقدار أكثر من عشرة آلاف شخصٍ في العام بين ليلة وضحاها؛ فبعد أن كان متوسط عدد المنتحرين في اليابان في العشرين سنة منذ عام ١٩٧٨م إلى عام ١٩٩٧م هو ٢٢,٥٢٣ شخصًا في العام، أصبح متوسط العدد منذ عام ١٩٩٨م وحتى العام الماضي هو ٣٢,٥٠١ شخص في العام الواحد. ويرى الخبراء أن الأزمة الاقتصادية التي حدثَت بعد انتعاشٍ اقتصادي مبالَغٍ فيه وقع بشكلٍ فُجائي هي السبب الرئيسي في هذه الزيادة، للأسباب التي تحدَّثنا عنها.
الانتحار في الأديان السماوية وخاصة الإسلام مُحرَّم بإطلاقه؛ لأن حياة الإنسان هي هبة من الخالق الذي نفخ فيه من روحه؛ ولذا لا يحق للإنسان أن يُنهيَ هذه الحياة التي لا يمتلكها في الواقع، وإن كان له الحريةُ الكاملة على أفعاله، إلا أنه سيُجازَى على ذلك الجزاءَ الأَوفى، ولكن هناك من يقول: «إنه لا يُوجَد نصٌّ صريح في القرآن يُحرِّم الانتحار، وإن كان هناك أمرٌ بعدم اليأس من رحمة الله. إلا أن الانتحار ندمًا أو الانتحار تحمُّلًا للمسئولية يختلف في الواقع عن اليأس من رحمة الله.»
«وقصة الماساداه تتلخص في أنه بعد أن دمَّر الرومان مملكة القدس اليهودية في عام ٧٠ بعد الميلاد لجأَت جماعة تتجاوز ألف شخصٍ من غُلاة اليهود المتعصبين لديانتهم إلى جبل الماساداه المُطِل على البحر الميت وتحصَّنوا في أعلاه.
الرومان ردُّوا على ذلك بأن أقاموا سورًا حول الجبل لمحاصرة اليهود الذين رفضوا الاستسلام بعد أن دُمِّرَت مملكتهم.
وفي سنة ٧٣ ميلادية أرسل الإمبراطور الروماني فرقةً عسكرية للقضاء على اليهود المتحصِّنين بالجبل.
وعندما أدرك اليهود أنهم خاسرون في تلك المواجهة، اتخذوا قرارًا بالانتحار الجماعي، ولكن لأن الانتحار مُحرَّم في الديانة اليهودية، أمر كبيرهم أليعازر بن يائير عشرةً منهم بقتل الآخرين، ثم قتَل واحدٌ من العشرة التسعة الآخرين، ثم انتحر» (انتهى الاقتباس).
وهذا بالضبط ما كان يحدث في الهاراكيري؛ إذ إن الشخص المُنتحِر في الأغلب الأعم كانت تطير رأسُه قبل أن يقطَع أحشاءَه، للتردُّد الذي يصيبه في اللحظة الأخيرة، أو لاستعجال الشخص المُكلَّف بقطع الرأس لكي يُخفِّف عن المنتحر الآلام. وليس هناك أي شكٍّ في أن ما حدث في الماساداه إن كان حقيقيًّا فهو انتحارٌ جماعي حتى لو لم يتم بيد المنتحِر. يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم باتِخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، إِنهُ هُوَ التوابُ الرحِيمُ (البقرة آية ٥٤).
والله أعلم.