تقديم
(١) جوسيبي أنجاريتي (ولد بالإسكندرية في ١٨٨٨/٢/١٠م ومات في ميلانو في ١٩٧٠/٦/١م).
هذا الشاعر الذي رأتْ عيناه النورَ في الإسكندرية — جميلةِ جميلات مُدننا ولؤلؤةِ البحر الأبيض وعروسِه، والشاهد الحي على تاريخه وحضارتِه — وقضَى فيها طفولتَه وصِباه وشبابَه الباكرَ قبل سفره إلى روما، ومِنها إلى باريسَ لاستكمالِ دراسته، ثم التطوع في الحربِ العالمية الأولى التي تركت آثارَ تجاربِها الدامية على أروع مجموعاتِ قصائده، وهي «فرحة الغرقى» (١٩١٩م)، وختمَتْها بخاتمها الذي جعلَ شعرَه ونثره كلَّه بعد ذلك قصةَ «حياة إنسان» وتجاربه الأليمة التي عبَّرتْ عنها لغة الشعر الجوهرية، فارتفعتْ بها إلى آفاقِها الصافيةِ المتعالية.
هذا الشاعر الذي كانت مصرُ — بنِيلِها وريفِها وناسِها وعَراقة ثَغْرها المبتسم الحَبيب — هي على حدِّ تعبيرِه حلمُه المألوف، وسرَتْ أسرارُ روحِها وهديرُ وهمسُ بحرِها وغموضُ صحاريها في شعره الصارم البسيط الذي يشبه شذراتٍ مبتورةً يتخلَّلُها من الصمتِ والسرِّ والكتمان والأصداء أكثرُ مما يُسمع منها من الأصواتِ والأنغام.
هل آن الأوانُ لأنْ نتذكَّر هذا الشاعرَ ونقرأَه، ونحاولَ التعرُّفَ إلى تأثير لؤلؤتنا وعروسِنا الخالدة عليه بعدَ أن طالَ نسيانُنا وإهمالنا له، ولم ينشغلْ به — على مبلغِ عِلمي — أحدٌ من إخواننا المجيدين للغة الإيطالية والعارفين بآدَابها؟ أقول: هل آن الأوانُ لِإنصافِه أو بالأحرى لإنصاف أنفُسنا بالاقترابِ من عالمه وتجربتِه الشعرية المؤثِّرة على الشعرِ الإيطالي والأوروبيِّ كلِّه، والتعرف إلى تجربة حياته التي عكَستْها مرآةُ شعره وصفَّتْها؟
فلنُحاولْ في البداية أن نتابعَ طريقَ حياته خطوةً خطوةً، قبل أن ننظرَ بصورةٍ مؤقتةٍ وعاجلة في تجربة حياته التي لم تخرج تجربته الشعرية عن أن تكون مجردَ انعكاساتٍ لحظية خاطفةٍ لها، وشديدة التركيز والتكثيفِ على مرآة لغتِه الجديدة والوَحيدة.
يؤسفني هذا كما قلت ويضطرني — ولو إلى حين — لمتابعةِ الخطوات الأساسية على دَربِ حياته الذي امتلأ بحُفر الحرب ومَآسيها، وتركتْ على مواقف الوحدة والقلَق والغربة، وفقد الأحباب ولواعج الشوق اللاغب إلى المطلق واللا محدود؛ آثارَ جراحها الدامية.
عاش أنجاريتي مع عائلته في الإسكندرية، ولم يتركها على أرجح الاحتمالاتِ قبل بلوغِه الثالثة والعشرين من عُمره، وسافر حوالي سنة ١٩١١م إلى روما لاستكمالِ تعليمه، ثم لم يلبثْ أن اتَّجه إلى باريس التي أقام بها لأولِ مرة ما يقرُب من ثلاثةِ أعوام (١٩١٢–١٩١٥م)، كانت من أخصبِ أعوام حياته وأشدِّها تأثيرًا على وجدانه وعقله وعلى طُموحه، إلى تجديدِ لغتِه وشعرِه تجديدًا جذريًّا بوحيٍ من الصراعات والمنازعات والمحاورات التي كانت تدور وتصطخب في باريس بين التقليديين من جهة، والمجددين والمستقبليين والحداثيين في الفنون الجميلة وفي الشعر والأدب من جهة أخرى. هنا تعرَّف إلى الجديد الذي سيكتسحُ كلَّ الحواجز والعقَبات التي وقفتْ في وجهِ الأدب والفن الأوروبي، وهنا سيتاحُ له أن يقرأ نيتشه وبودلير ومالا رميه (الذي لا أشكُّ لحظةً واحدة في تأثيرِه الطاغي عليه …) وأن يستمعَ إلى محاضرات برجسون، ويستوعب ما فيها من حديثٍ عذبٍ متدفق عن «الديمومة» والشعور المباشر، والتطور الخالق والدَّفَعات والانبثاقات الرُّوحية التي تنتصر على المادة، وتتحرَّرُ منها وسوف تؤثر كلُّها بطرقٍ غير مباشرة على الشاعر الشابِّ والشيخِ أيضًا. وهنا أخيرًا تعرَّفَ إلى عددٍ من الشعراء والمصورين الذين انعقدَتْ بينه وبينَ بعضِهم أواصرُ صداقةٍ ومحبة عميقة. يكفي أن نذكر منهم الشاعرَينِ: جيوم أبو للينير، وماكس جاكوب، والفنانين المصورين بيكاسو وبراك ومود يلياني. كل هذا بجانب قراءته لعددٍ كبير من الشعراء الذي سيشتهر بترجماتِه الرائعة لهم بما لا يقلُّ عن شهرته الكبيرة بعد ذلك في الثلاثينياتِ كشاعر مجدِّدٍ يصدم أذواق الجماهير، وتُؤسَّسُ المجلات خصيصًا للهجوم عليه، أو للدِّفاع عنه وشرحِ قصائده. من هؤلاء الذين كان له الفضل في ترجمتهم بعد ذلك بودلير ومالارميه — وهما قطبا التجديد اللذان سبَق ذكرُهما — وبول فاليري وسان — جون — بيرس، الذين أضاف إليهم بعد ذلك ترجماتٍ يشاد بها إلى اليوم عن شكسبير وراسين وشارل بيجي ووليم بليك.
(٣) وفي سنة ١٩١٥م تطوَّعَ للاشتراك في الحربِ العالمية الأولى، وانخرطَ في الكتيبة التاسعةَ عشرةَ مشاة، وقضى معظم سنوات الحرب في الجبهة النمسوية؛ حيث كتب في الخنادق المظلمة وتحت وابل القنابل المدوِّيَة أغلبَ قصائد مجموعته الأولى «الميناء المدفون»، التي ظهرت سنة ١٩١٦م في مدينة أودين. لم تكن قصائدَ تحث على الحرب أو تنفِّر منها، وإنما كانت نفثاتِ إنسانٍ وجد نفسه على حين فجأة متورطًا في السَّير على شارع الحرب الذي لم يحسِب حسابَه، ولم يخطر له على بال. راح يسأل في مواجهة الفواجِع البشِعة: لماذا؟ ولم يكن هو وحدَه الذي يردِّدُ السؤالَ الذي استعصتْ إجابتُه على جنودٍ كثيرين مثلَه. كانوا يقفون في بؤسِهم وتعرُّضهم كلَّ لحظةٍ للجرح والموت كما تقف أوراق الشجَر في الخريف، وقد كُتب عليها أن تسقطَ حتمًا دون أن تستطيعَ أن تقول شيئًا؛ لأنه لم يبق من شيء يُمكن أن يُقال. وهكذا تنشأ وتنمو قصيدةٌ نادرة من أربعة سطورٍ وتسع كلمات، لكن كم تدوِّي منطلقةً منها أحزان الورق الذابل في صمتٍ في رياح الخريفِ وكآبته، وأحزان الجنود الذين يروحون كلَّ يوم ضحية «مجزرة الإخوة الأوروبيين»، ولسانهم وقلبهم يردِّدان السؤالَ الذي لا جواب له:
وجاءت بعد المجموعة الشعرية السابقةِ الذكر مجموعةُ قصائدَ أخرى ظهرتْ سنة ١٩١٩م، وحملت هذا العنوان «فرحة الغارقين»، أو «السفن الغرقى» الذي اختصره الشاعر في الطبعات التالية منذ سنة ١٩٣١م، في كلمة واحدة يتعذر ترجمتها وهي «الفرح»؛ الفرح الذي يمكن أن نؤديه بكلمات أخرى كالمرح والبهجة والسرور أو السعادة الباطنة التي تدفعنا لأنْ نعيشَ الحاضر بكل عُمقه وحدَّته، ونأمل في غدٍ نستبشر به ونثقُ فيه، ونمشي على الأرض بخطوات ثابتة، وكأننا نطلق من داخلنا كرة السعادة ونسارعُ لالتقاطها في لعبٍ حرٍّ يفرحنا، ويمكن أن يعود بالخير والنفع على أهلنا ومجتمعنا ووطننا والبشرية جمعاء. ألم أقُلْ: إنَّ كلمة «الفرح» يتعذر ترجمتها والإحساس بمدلولها الخالص في لغتنا؛ لسببٍ بسيط هو: أن هذا الفرح الحقيقي غريب عنا، وغير معروف لنا ولا لمن نعيش وسطهم ويعيشون معنا وحولَنا، هل قلت لسبب بسيط؟ لا؛ بل لأسباب تاريخية وواقعية تجعل ما تصفه عادة بالفرح مُعبرًا في صميمه عن البكاء، وأنينًا يتخذ شكل القَهقهة المريضة والسخرية المرَّة، والنكتة الهروبية المتشفِّيَة، أو المُنتقمة من الذات ومن الآخرين.
مهما يكُنْ من عجزِنا أو من قُدرتنا في لحظاتٍ نادرة على الإحساس بهذا الفرح (الذي لم ينفصلْ منذ البداية في العنوانِ الذي وضعه الشاعرُ نفسه عن غرَق السفنِ، وخيبةِ الآمالِ وتكسُّرها على صُخور الواقعِ العنيد)؛ فقد رأى بعض النقاد — وإن لم يكُنْ هذا بالضرورة هو رأيي! — أن أنجاريتي قد احتضن في قصائد «الفرح» أسمَى ذرى إبداعِه قبل أن تبدأَ أجنحتُه في التهاوي بعد ذلك بالتدريج، بحيث تكفِي المقارنةُ بينها وبين مجموعة أخرى متأخرة وهي «صرخةٌ ومشاهد ريفية» (١٩٥٢م)؛ للتأكد من ذلك بصورة تتجلَّى في انتباهه إلى التأمل المجرد من نبضاتِ الشوق المحموم ورفيفِ فراش الحسِّ الدافئ نحو شفافية الروح، وأفق اللامتناهي واللامحدود.
(٤) استطاعت قصائد «الفرح» أن تنشر اسمَ صاحبها وتدعَمَ شهرتَه، سواء بين الذين سخِطوا عليه أشد السُّخْط، أو الذين وجدوا فيه أملًا جديدًا لإنقاذ الشعرِ الإيطالي من أوزانه التقليدية وأساليبِه الكلاسيكية أو الرومانسية التي ملَّتها الأسماع ومجَّتْها الأنفسُ المتطلعة — بعد كوارث حرب فظيعة حطمتِ الأنظمةَ المستقرةَ في الفكرِ والدين والفن والسياسة والاجتماع … إلخ — إلى شعرٍ يكون بدَوره «حُطامًا» و«شظايا» متناثرةً تسجِّل — بلغةِ الشعرِ المتعالية على الواقع الطبيعيِّ وعلى لغة التواصل الطبيعية على السَّواء — ذلك الواقعَ المادي والنفسي الذي تحول فيه الزمان والمكان والبشَر إلى بقايا خرساءَ، وشذراتٍ متناثرة وأطلال منهارة تنطقُ بالصمت، وتوحي بالإشارة والإيماءة أكثر ما تحرِّك شفاهَها بالكلماتِ المعقولة والمفهومة …
هكذا بدتْ قصائدُ هذه المجموعة (أي: فرحة الغارقين) التي زادتْ على السبعين قصيدة (وتجد منها في هذه المختارات ما يربو على الأربعين!) على هيئةِ أبياتٍ أو سطورٍ شديدة الإيجاز والدقة إلى حدِّ الصَّرامة. وكأني بها محسوبة حسابًا رياضيًّا متناهيَ القسوة في تجريد لغته المشحونة مع ذلك بإمكانات وطاقات سرية، وتثير دوامات متوترة من الصور المجازيةِ والاستعارية التي تختَزنُها، وتشعُّ دلالاتها السِّحرية لغة الشعر الحقيقي أو الجوهري على الدوام (راجع إن شئت كتابَي رائد الحداثة النقدية عندنا — وهو أستاذنا لطفي عبد البديع رحمة الله عليه — وهما: اللغة والشعر، والتركيب اللغوي للأدب).
هل كان من الممكنِ أن تكون هذه القصائد على غيرِ ما هيَ عليه؟ ألا تعكسُ «دراما» إنسان وجدَ نفسه بغتةً — كما سبق القول — على درب الحربِ الذي تخترقه الجراحُ والدماء والقتل البشع، ويمزقه التدمير المستمر للوجود الفردي المعرَّض في كل لحظة من لحظاته للترويع والقلق والاغتراب والضياع وفقد الأعزاء؟ مع ذلك فإنَّ القصائد المنتزعة من هذه المواقف الحدية واللحظات الوجودية القصوى تُسجل إرادة الشاعر العنيدة للحياة، وتحثُّه على التعلُّق بكل لحظة يجد نفسه فيها حيًّا لا يزال.
انظر معي إلى هذه القصيدة الفريدة التي اضطرَّ فيها الشاعر للسَّهَر في حراسة صديق صرعتْه الحرب فيمن صرعتهم، وتأمَّلِ الأضواء التي تنبعث منها، رغمَ كلِّ التمزق في الوجه والأعضاء:
في هذه القصائد الباكرة، وقبل أن تصبح فلسفة الوجود — أو الوجودية، كما اشتهرتِ التسمية غير الدقيقة — في العشرينيات والثلاثينيات، ثم في فرنسا في الأربعينياتِ والخمسينيات دليلًا نظريًّا لتحقيقِ الوجودِ الفردي الأصيل، وممارسة الحقيقة الذاتية في مواقف الاختيار الحر والالتزام المسئول، والقلق والتصميم على مواجهة الموت بالمزيد من تعمق الحياة، وصنع الوجود المتحدي للعدم بمختلف أشكاله. أقول: إن الشاعر قد استطاع في هذه القصائدِ الباكرة، ومن وحي تجاربه في الخنادق وميادين «المجزرة» الأوروبية، لا من وحي قراءاته لفلسفة لم تبدأ في الشيوع إلا بعد الحربِ العالمية الأولى، استطاع أن يقدم مواقف درامية ووجودية مشحونة بكلِّ ما أفاض القول فيه — بعد كيركجورد — فلاسفة وأدباء مثل: «هيدجر»، و«ياسبرز»، و«جبرييل مارسيل»، و«أبانيانو»، و«سارتر»، و«ميرلوبوبتي»، و«مالرو»، و«كامي»، وغيرهم كثير. إنها مواقف اليأس والقلق والاغتراب والوحدة والاكتئاب والحب والتوق الدائم للنور، كل هذا في كلمات تنم عن نزعة حسية شديدة الحساسية والتعاطف مع الطبيعة بكل كائناتِها — حتى الحجارة والحصى — وتغمرها مع ذلك روحانية شفافة ومعذبة تنقيها من كل شائبةٍ حسية. هذا الدرس الخالد الذي تعلمه الشاعر من قراءته وترجمته لمالارميه وترتفع بها، وكأنما هي أجنحة نورانية أو رموز مجردة من أي أثر مادي؛ لتندفع بلغتها الشعريةِ الجوهرية نحو تجربةِ المطلق، أو العدم وإشباع «النهم إلى الله» على حد قول الشاعر نفسه. اقرأ معي هذه السطور النقية الصافية من قصيدة كتبها في صيف سنة ١٩١٨م، بعنوان «سماء صافية»:
وفي قصيدة أخرى «وحدة»، يرجعُ تاريخ كتابتِها إلى اليوم السادس والعشرين من شهر يناير سنة ١٩١٧م، تتصاعد نبرات الكلمات، فتتحولُ إلى صرخاتٍ حادة، وشبيهة بالصواعق المخيفة التي تتهاوى في أعماق سماء ليلية سوداء:
والمفارقة الكامنة في كلِّ ما قُلناه عن هذه المجموعة: أن مضمون قصائدها يناقض عنوانها، وهو الفرح. وإذا كان الشاعر — كما سبق — قد عدَّل العنوانَ الأصلي الذي ظهرت به في سنة ١٩١٩م، وهو: «فرحة الغرقى» (أو السفن الغريقة)، وركزه في الكلمة العسيرة الموحية، فإن الروح التي تسود المجموعة بأسرها هي روحُ الحرب التي جرفتْ معها «أنا» الشاعرِ في مستنقعها الدموي الموحل، وارتفعتْ لغة الشعر بالحرب؛ كحدثٍ تاريخيٍّ لتصبحَ استعارة دالةً على الزمن المدمر، والشعر المحطم الذي يعبر عنه ويرتفع به — كلما قُلنا من قبلُ — في لغة شعرية تحوَّلت بدورها إلى شذرات وشظايا وحطامٍ منثور، أي: إلى أبنية لغوية وشعرية متكسرة مبتورة، كأنما هي أصداء وحيدة تتردد مكتومة في فضاء الصمت الكوني.
(٥) انتهت الحرب العالمية الأولى، وتحرك شوقه إلى باريس التي رجع إليها، وعقد قرانه على زوجته جان دوبوا، ثم عاد إلى روما في سنة ١٩٢١م، واستقر فيها وتولى العمل في وزارة الخارجية التي كلفتْه بالإشراف على تحرير مجلة، أو نشرة تصدر باللغة الفرنسية وتلخص الأحداث الثقافية والسياسية المهمة في كلا البلدين.
كان في هذه الأثناء قد حققَ شهرة واسعة بعد صدور مجموعتيه السابقتي الذكر، وهما: «الميناء المدفون» (١٩١٦م)، و«فرحة الغرقى» (١٩١٩م) اللتين ظهرتْ بعدهما مجموعة أخرى رسخت دعائمَ شهرته، وهي: مجموعة «عاطفة الزمن» (١٩٣٣م)، بجانب ظهورِ عددٍ من ترجماته الأولى التي شهدت على عبقريته اللغوية، مثل: ترجماته عن شكسبير وراسين ومالارميه وسان جون؛ بيرس وجونجورا. وانقسمت الآراء حوله واحتدم الصراع بين المتحمسين له والساخطين عليه، حتى أدى الأمر — كما ذكرت من قبل — إلى تأسيس مجلات للهجوم عليه أو للدفاع عنه. أما الشاعر نفسه الذي ثقلت عليه أعباء الأسرة فاضطر للعمل مراسلًا صحفيًّا لإحدى الجرائد السيارة، وهي: جريدة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي تصدر في مدينة تورين، وأتاح له هذا العملُ الصحفي فرصةَ السفر وكتابة التحقيقات والمقالات المتنوعة من الجنوب الإيطالي ومن معظم البلدان الأوروبية؛ مما ساعد من ناحية أخرى على تدعيم شهرته وذيوع اسمه مرتبطًا بريادة حركة التجديد في الشعر الإيطالي بعد دانو نزيو (مات: ١٩٣٨م)، وكاردوتشي (مات: ١٩٠٧م).
(٦) واستجاب أنجاريتي في سنة ١٩٣٦م للدعوة التي وجهتها إليه جامعة ساوباولو بالبرازيل؛ لتولي وظيفة أستاذ الأدب الإيطالي بها، وأقام الشاعر ستَّ سنوات في مقر عمله الأكاديمي الجليل، حفلت فيما يبدو بصفاء المحبةِ ودفء المودة التي ربطت بينه وبين عدد كبير من الأدباء والأصدقاء والتلاميذ البرازيليين، الذين حافظوا على عهود الزمالة والأبوة حتى آخر أيامه، ولكن هذه الفترة نفسها كانتْ تُخفي له سرًّا داميًا لم يتكشف إلا بعد وقوع الكارثة؛ فقد فُجع في وفاة ابنه أنطونيو الذي لم يكمل تسعَ سنوات من عمره، مما اضطره إلى الرجوع لروما، حيث بدأ في تدوين مجموعة قصائده أو بكائياته القاتمة في رثاء طفله الحبيب، تحت هذا العنوان الدال على كونها يومياتٍ شعرية وهو: «يوم بيوم». وقد نشرت مع قصائدَ أخرى عن الحرب في سنة ١٩٤٧م، تحت عنوان «الألم» (وتجد هذه القصيدة المؤثرة مع القصائد التي بين يديك) …
رجع أنجاريتي إلى روما سنة ١٩٤٢م، والحرب والخراب على أشدِّهما ليجدَها في أسوأ أحوالها. صحيح أن جامعة روما دعته لتولي كرسي الأدب الإيطالي المعاصر الذي شغله حتى سنةِ رحيله، كما كرمته الأكاديمية الإيطالية بتعيينِه عُضوًا فيها، وبدأتْ أشهر دور النشر الإيطالية — وهي دار موندا دوري — في نشر أعماله الكاملة في مجلَّدَين يحملان هذا العنوان الدال على طبيعة إبداعه كله في الشعر والنثر على السواء، وهو «حياة إنسان»؛ غيرَ أنَّ كل صور التكريم والاحتفاء به لم تستطع أن تخفي عن عينيه ولا قلبِه المأساةَ المتجددة التي تعيشُ فيها بلاده. كانت الجيوش الألمانية قد احتلتْ روما وجعلتْها تركع تحت سياط الرعبِ النازي بدعوى الدفاع عنها وحمايتها من الحلفاء الذين أخذوا يستعدون لإنزال قواتهم على الشواطئ الإيطالية. ولا بد أن الشاعر قد اختزن أنهارًا من الحزن في مستودع وجدانه على المصير الذي آلت إليه بلاده، على يد طاغيتها المهرج موسوليني وعصاباته الفاشية المهزومة (كان الشاعر في شبابه — فيما قرأت عنه في المراجع القليلة المتاحة — صديقًا لموسوليني الذي كتب بنفسه مقدمة الطبعة الثانية لمجموعة قصائده الباكرة، وهي: «الميناء المدفون» التي ظهرت سنة ١٩٢٣م، كما أن الشاعر أعلن في سنة ١٩٣٣م تأييده الصريح للفاشية، قبل سفره إلى البرازيل بسنوات قليلة. ولست أدري، هل عضَّه الندم على موقفه، بعد أن رأى بعينيه وبصيرته ذلَّ بلاده وإذلالها وخرابها؟! ولا أشك في أن ضميره استيقظ على خطئِه الرهيب بعدَ أن عرف بنهاية صديقه السابق، الذي تدلى مشنوقًا من فرع شجرة قبل نهاية الحرب بقليل). مهما يكن الأمر الذي لا يمكنني الحسمُ فيه، فإن عذابه تزايدَ مع عذاب بلاده وفقْد أعز أصدقائه، وتحولت الفرحة السابقة على الرغم من الحزن الذي كساها بضبابه، إلى الألم الذي جعله عنوانًا لمرثياته السابقة الذكر لولده ولمصير بلاده وأحبابه في ليل الحرب المدلَهِمِّ بالصواعق والرعود والزلازل. وصدر «الألم» سنة ١٩٤٧م ليحفر — بلغة الشعر — أحزانه الشخصية مع أحزان وطنه وأهله وإخوته، ثم ظهرت مجموعته «الأرض العجوز» (١٩٦٠م) التي سرعان ما لحقت بها «المحاورات والمداخلات» (١٩٦٨م) التي تعبر جميعُها عن أعمال الشيخوخة المتأخرة. وتدور حول موضوع الذاكرة التي تحاول أن تجعل من الماضي حاضرًا، كما تتحوَّل — على طريقة شاعرَين من آبائه التراثيين، وهما: بتراركا (١٣٠٤–١٣٧٤م)، وليوباردي (١٧٩٨–١٨٣٧م) — إلى استعارة دالةٍ على الكلمة الشعرية التي تنتزعُها «اعترافات» الشاعر من مجرى الزمن المتدفق، لتضعها في المكان «الباطن» الذي يقول عنه «رلْكة» بحق: «ما من مكان يا حبيبتي يتحقق فيه العالم إلا في الباطن …»
(٧) سبق أن قلنا: إن كلمتَي «حياة إنسان» مكتوبتان على غلاف كل مجموعات أنجاريتي الشعرية، بل لقد حرص على إثباتها على غلاف المجلدين الكبيرين، اللذين ضمَّا لأول مرة طبعةَ أعماله الكاملة من أشعار وترجمات ومقالات ورسائل ومحاورات ومداخلات (وقد ظهرت بين عامَي ١٩٦٩ و١٩٧٤م). هل نفهمُ من هذا أنَّ كل ما يتركه الأديب وراءه هو في المحصلة النهائية نوعٌ من السيرة الذاتية؟ إن الخلاف ليطولُ ويحتدم فيه الصراع بين من يفرِّقون بين السيرةِ الذاتية، أو قصة الحياة الشخصية وبين الأعمال الفنية الخالصة، لا سيما الأعمال الروائية. ولكن أليست هناك في أدبنا وآدابِ غيرنا من الأمم سير ذاتية خُلِّدت على مرِّ الزمان، وحققت الشروط الضرورية لما يمكن أن يدخل في نطاقِ الأدب والفن؟ ألا نجد عندنا وعند غيرنا سيرًا ذاتية استطاع أصحابها أن يتجاوزوا الوقائع والأحداث الشخصية والتاريخية والمحلية، ويختاروا المواقف والتجارب التي تنبعث منها دلالات كليةٌ ذات أبعاد وآفاق إنسانية وجمالية واجتماعية وسياسية عامة؟ ألم نقرأ جميعًا نماذج رائعة من هذه «السير» التي التحم فيها الصوت المنفرد للأديب مع الصوت العام لمجتمعه أو للبشر عمومًا، في سعيهم الدائب وكفاحهم اليائس؛ من أجل السعادة والحب والسلام والتقدم والمستقبل الأفضل والأعدل؟ ربما يكون هذا المعيار الأخير؛ أي: انطباق الخاص والعام ومقدرة الكاتب على تجاوز الزمني والنسبي والشخصي، والعلوُّ به بلغة الفن إلى دلالات وأبعاد ورموز وصور حية وشاملة، أقول: ربما يكون هذا المعيار في تقديري المتواضع على الأقل هو الفيصل في الحكم على قيمة السيرة ومدى حظها من الفن الحقيقي. ومع ذلك ففي ظني أن الحدَّ الشفاف سيبقى قائمًا بين ما نسميه سيرة وما نسمِّيه رواية، وإن كان هذا الحدُّ لم يمنع أبدًا مِن أن تسمو بعض السير الذاتية إلى مصافِّ الأعمال الروائية العالمية.
هذا الكتاب مذكرات يومية، والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الأدباء الكبار لم يطمحوا إلا لأنْ يتركوا وراءَهم سيرةً شخصية جميلة.
لهذا فإن القصائد هي عذاباتُه الشكلية، ولكنه يريد أن يوضح مرة أخرى، وإلى الأبد، أنَّ الشكل إنما يعذبه؛ لأنه يطلب أن يتطابق مع التغيرات التي اعترتْ حسَّه ووجدانه، وإذا كان قد استطاع — كَفنَّانٍ — أن يحقق أي تقدم، فإنه يود ألا يُفهم من هذا سوى أنه قد حقق — كإنسان — بعض الكمال. لقد نضج وأصبح رجلًا وسط أحداث غير عادية لم يقفْ أبدًا بعيدًا عنها، وإذا كان لم ينكر يومًا أنَّ الأدب يتوجه إلى العام، فقد كان من رأيِه دائمًا أنه حيثُ ينشأ شيءٌ (له شأنه وقيمته) فلا بدَّ أن يتطابق العام — من خلال شعور تاريخي فعال — مع الصوتِ الفرديِّ للأديب …
كيف نفهم قول الشاعر بأنَّ قصائدَه يومياتٌ شعرية؟ وكيف نفسر حرصه الدائم على إثبات المكان والوقت الذي دُوِّنت فيه كل قصيدة على حدة؟ (وهو ما حَرَصْتُ عليه أيضًا بقدرِ ما أسعفَتْني المصادر القليلة). هل نفهم من ذلك أن القصائد تقتصرُ على وقائع حياة الشاعر وتجاربه المؤلمة؟ لو كان الأمر كذلك لما كانت اليوميات شعرية، ولا كان صاحبها شاعرًا؛ ذلك لأن القصائد المقصودة تقوم بالوصف والعلو معًا وفي نفس الوقت؛ أي: إنها ترفع الموصوف — بلغة الجدل الهيجلي عن رفع الضدَّين إلى مستوى أعلى وأكثر خصوبة — إلى سياقٍ شعريٍّ تؤخذ فيه الكلمة الشعرية مَأخذًا مطلقًا، وهنا يظهر مرةً أخرى تأثيرُ «مالا رميه» رائدُ الحداثة في الشعر الأوروبي، قبل أن تصبح الحداثة مذهبًا وأيديولوجية وكلمةً يَلوكها لسان كلِّ ثرثار. هذه الكلمة الشعرية التي لم يكن أنجاريتي يملُّ مراجعتَها مع كل طبعة جديدة لمجموعاتِ قصائده، في سعي لا يتوقَّفُ لإظهار الجوهري وحذف العرَضي والمتزيد، والوصول بجَرْسها الموسيقي — حتى عدم مراعاة البحر والوزن التقليدي في القصائد الباكرة — إلى الدرجة المُرضِيَة لسمعه وإحساسه، وإلى أدق تعبير ممكن وأكثره صدقًا ودقة وحيوية وطبيعية. وأكتفي للدلالة على دور الكلمة الشعرية في تمزيق الصمت وملء سكونه بالإشراق المضيء، بتلك القصيدة الشهيرة التي افتتحتُ بها هذه المجموعة المختارة ولم تزد كلماتُها عن كلمتين اثنتين، وتحيرت طويلًا في نقلِهما إلى العربية حتى استقرَّ رأيي على وضعها في هذه الصورة، تحت العنوان الذي وضعَه الشاعر نفسه لها، وهو «صباح»:
(٨) يمثل أنجاريتي نقطة تحولٍ بارزة في الشعر الإيطالي الحديث، ويمكن القول بأنه هو الأب الشرعي الذي انحدرَ التجديد عنده وعند تلاميذه وزملائه الكثيرين من صلبِ رؤيته الجديدة للعالم والإنسان واللغة. هؤلاء الزملاء الذين ذكرتهم هم: مونتاله وبونتمبللي وسابا وكوازيمودو الذين اتَّهمهم النقاد في الأربعينيات بتكوين مدرسة الغموضِ أو الألغاز (الهيرميتزم)، وقامت — كما سبق القول — مجلاتٌ للدفاع عنهم وشرح غوامض شعرهم، أو للجهوم عليهم وعلى أنجاريتي بوجه خاص. كانت آذان القُرَّاء النقاد قبل عيوِنهم قد تعودتْ على الأشكال والقوالب التقليدية ذات الإيقاع المتجانس، والتراكيب المكتملة والمعاني المفهومة، واللغة المثقلة بالبلاغة والزخرفة والتكلف. ألِفُوا الاستماع إلى «الخطاب» الشعري الطنان الرنان عند جبرييل دانو نزيو (الذي راح يمجد البطولة والقوة، ويتغنى بالأساطير والأمجاد القومية الغابرة؛ مما جعلَه ركنًا من أركان الفاشية الإيطالية التي أيَّدها بكلِّ قوة، ودمرت البقية الباقية من مواهبِه الأدبية قبل موته في سنة ١٩٣٨م)، واعتادوا على الأشكال الكلاسيكية القديمة التي تَصورَ شاعرٌ كبيرٌ آخرُ، وهو جوسوي كاردوتشي (١٨٣٥–١٩٠٧م)، أن استلهام القيم الشكلية والجمالية والأخلاقية التي قامتْ عليها عند اليونان والرومان هي الكفيلة بإنقاذ التفكير والتعبير من التحلل والضعف الرومانسي، والإيذان بنهضة جديدة تعوض عن النهضة المفقودة. وفوجئ القراء والنقاد بقصائد أنجاريتي المتقطعة المبتورة، وأبياتها المتشذرة المتوحدة، كالصرخات المتكومة والرعشات العفوية، واختراق العدم أو الصمت لأنغامها المهموسة التي ترتفع وتسقط كأنوارِ السفن الغارقة، وتسطع وتخبو وتتجلى، ثم تتوارى في عمق البحر أو الليل الكوني …
-
(أ)
إن تجربةَ الشاعر الجديد أو المجدد تجربةٌ جديدة، وهي تستلزم بالضرورة لغةً جديدة، تقوم على نظرة مختلفة للوجود والإنسان والمكان والزمان، كما تعكس — في بنية الجملة وتركيب البيت والصورة والموسيقى — تفتُّتَ العالم وانهيار النظم التقليدية وقلقَ الإنسان المبدع وغربته ووحدتَه مع لغتِه ونفسه، (وسط عالم مُعادٍ، يحتشدُ دائمًا لاغتياله، ثم وضع الغار على رأسِه والنَّياشِين على صدرِه).
-
(ب)
لا بد من التفرقة من ناحيةٍ بين الغموض الأصيل والغموض الزائف، ومن ناحية أخرى بين الغموض والتعقيد؛ إذ ليس كل الشعرِ المعقَّد غامضًا، ولا كل الشعر الغامض معقدًا. إن الشعر الحقيقي يتسمُ في جوهره ووفقَ طبيعته الأصيلة بالغُموض، ولكن الغموض الزائف قد يأتي من عَجزٍ في اللغة أو الموهبة، وجهل الشاعر بتراثه بحجة تجاوُزه أو اختراقه وإعلانِ القطيعةِ معه، واستخدام الأُطر والأشكال الجديدة مع إفراغها من الروح والنظرة الجديدة. أما الغموض الأصيل، الغموض الكاشف فهو يرتبط كما قلت بالحقيقة الشعرية، ويرفع الحجاب عن سرِّه المكشوف — على حد تعبير جوته في ديوانه الشرقي — لكلِّ من يملك الصبر الكافي على قراءاته وإعادة قراءته، بل إبداعه إبداعًا خاصًّا به.
-
(جـ)
الغموض لا يعني أبدًا الإِلغازَ إلى حدِّ السخف والتعقيد المتعمد والمقصود لذاته، أو للرغبة في صَدْم القارئ واستفزازه؛ فالغموض الأصيل له سحره، وله عند الشاعر الحقيقي ما يبرره في البوح أو الصمتِ في الصورة، أو الرؤية في الفكرة الشعرية ووحدة الشعور الأصيلة السابقة على التجسد في الكلمة، والنغمة داخل شكل معين أو بلا شكل، وبمنطق خاص أو بلا منطق ووراء المنطق. والأمر الحاسم هو التمكن والصدق؛ لأن كل ما ذكرناه يمكن أن يصبح في يد العاجزين ميدانًا للألغاز والادعاء والشذوذ والنشوز المتعمد والسخف الممجوج، الذي يثير السخرية أو الرثاء.
-
(د)
إن الشعر الأوروبيَّ الجديدَ منذ عهد أعلامه المؤسسين لبنيتِه الجديدةِ (وهم بودلير ورامبو ومالارميه، بالإضافة إلى عدد كبير من عظامِ الشعراء التالين لهم، مثل فاليري وإليوت وألبرتي وجين وسان جون بيرس وغيرهم من «الأبولونيين» و«الديونيزيين»،٨ ومن «الرمزيين» و«السيرياليين» و«المستقبليين» … إلخ) هذا الشعر يعتمد على السحر والإيحاد والإيماء، لا على المعنى المنطقي المفهوم أو البناء المعقول، وهو يحطم البِنَى التقليدية لتركيبِ البيت والجملة والوزن والموسيقى، بحيث يغلب الصمت على الكلام، والكتمان على الإفصاح، والهمس على الأصوات الجهيرة، والتقطع على التواصل، والتكثيف على التزيد، والمراوغة المستمرة بين التجلي والخفاء، والظهور والاحتجاب، والإضاءة والإظلام. لكأني بالشاعر الجديد يقدم لنا حطامَ العالم والنفس، وأشلاء اللغة والفكر، وهو يقول: هذا هو عالمكم، وهذه هي لغتكم، وعليكم أن تبنوها بأنفسكم، أو تتقبلوها وتتعايشوا معها بأمانة وشجاعة.
-
(هـ)
سيعرف القارئ من النظرة الأولى أن أشعارَ أنجاريتي تتميزُ بالتركيز «البرقي» التام، وأنها أشبه بشذرات وألحان لم تتم. الكلمة عنده شق أو صَدْع قصير للصمت، «مونادة» (أو كيان حي وجوهري وحيد بتعبير ليبنتز!) تقف وحيدة مرتعشة داخل عالم الأسرار الذي لا تكاد تلمَسُه إلا من بعيد، وفي لحظات باطنية خاطفة — صوفية أسطورية — وسط الصمت الذي لا يلبَثُ أن يطبق عليها؛ لاستحالةِ القول أو لأنه لم يتبقَّ شيء يمكن أن يُقالَ أمام تجارب الألم والفقدِ والاغتراب.
-
(و)
هل نخلص من هذا كلِّه إلى أن أنجاريتي شاعرٌ غامض وملغز كما قيلَ عنه، ولا يزال يقال؟ لا يمكننا القول بأن شعرَه سهل، ولكن صعوبتَه لا تجيزُ لنا أن نَصِفَه بالغموض، بل إننا حين نقرأ شعره لن نفهمَ هذا الوصف ولن نصدِّقه، وربما نسلِّم — بعد كل ما قيل — بأن إلغازه نابع من جوهرية الشعر نفسه وطبيعته الأصيلة، ولغته المفارقة للغة الطبيعية التي هي مجرد أداة للتواصل والتوصيل والممارسة؛ ومن ثم يمكننا أن نؤكد في النهاية أن غموضه — لو صبرنا عليه! — هو الغموض الأصيل، وليس الغموض الزائف الذي يأتي من تشوُّشِ الفكرة وتشتُّت الإحساس، ومن تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو كسرها بغير ضرورة فنية أو نفسية أو موسيقية، أو من غرابة المصطلح والخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة انسياقًا وراء الادعاء والحذلقة والنشوز، لا استجابة لنداء التجربة الشعرية. ذلك هو الغموض الكاشف أو القابل للكشفِ عنه، وألغازه لا تحتاج إلى حلٍّ؛ لأنها تتصل بلغز الحياة والكون، وتنبع من قلبِ وجودنا الشقيِّ ومن طبيعةِ الشعر، ورؤيةِ الشاعر نفسه.
لهذا أرجوك يا قارئي الكريم أن تُعيد التأمل في القصيدة الشهيرة التي افتتحت بها هذه المجموعة المختارة، وذكرتها في الفقرة السابقة: أتجلى باللامحدود. لقد ضيَّعت الترجمة المدَّ الموسيقي في الفعل والاسم الأصليين، بالإضافة إلى أن التجلي لا يعبر بدقَّة عن الإشراق وإشعاعاته وأبعاده التاريخية والصوفية والشعرية في التراث الغربي والشرقي القديم والوسيط والحديث. ومع كل الجناية التي ترتكبها الترجمة — وترجمة الشعر بوجه خاص! — فسوف تشعر يا قارئي بأن اللغزَ في هذه القصيدة الفريدة لا يحتاجُ إلى حل، وأنَّ السر فيه هو السر المكشوف، أو القابل للكشف عنه (سواء بفعل القراءة المبدعة، أو بفعل الوجد والعشق والتَّوق — أو النَّهَم كما يقول الشاعر نفسه! — إلى الأبديِّ اللامحدود).
وإذا مضيتَ في القراءة فستجدُ ألغازًا أخرى تَصِلُك بألغاز أولية أو جوهرية قائمة في تكوين المخلوقِ الذي لا يكفُّ عن الحنين إلى الخالق، وفي الشوق إلى البراءة وإلى النور الأولى إلى حدِّ الصراخ والارتعاش في الليل والبحر الذي تَهوِي سفنُنا الغريقة في أعماقِه، وتتحطم دائمًا على صخوره.
-
(ز)
إن أَنْسَ فلن أنسى ذلك اليوم الذي رأيتُه فيه لأول وآخر مرة. كان ذلك في سنة ١٩٥٣م، وكنت في منحة صيفيةٍ لاستكمال دراسة اللغة الإيطالية في جامعة الأجانب الإيطالية العريقة الساحرةِ في مدينة «بيروجيا»، (وهو نوع من السياحة الثقافية الراقية، ليتَنا نفطنُ إليه ونَقْتدِي به).
وكان من عادة هذه الجامعة أن تستضيفَ عدَدًا من كبار الأساتذة العلماء والأدباء والمفكرين؛ ليُحاضروا الطلاب الأجانب — بجانبِ الدروس اللغوية — في موضوعاتٍ تخصصهم، أو ليحدثوهم عن سيرةِ حياتِهم وفكرهم، ويقرءُوا عليهم شيئًا من إنتاجهم. وبعد أن استمعنا في ذلك اليوم إلى محاضرة «جوسيبي أنجاريتي» — الذي لم أكن سمعتُ عنه أو قرأت له أبدًا — وجدت الطالبات والطلاب يُهرَعون إليه ويلتفُّون حوله ويمطرونه بأسئلتهم أو يطلبون منه التوقيعَ باسمه على النُّسَخ التي اشترَوها من دواوينه وترجماته ومقالاته. وقفت ساكنًا تمر يدي على ذَقني كما هي عادتي في مواقف التأمل والحيرة، وتتردد نظراتُ عيني بين الرجل الطويل النحيل المحنيِّ الظهر، بعينيه الضيقتين خلفَ الزجاج السميك للنظارة الطبية، وبين يده التي لا تتوقف عن الامتداد للأيدي الشابَّة بالسلام، أو بالقلم الذي يوقع به على الكُتب والألبومات، وكنت تائهًا كاليتيمِ في الزفَّة. ويبدو أن شَعري الأسود وعينيَّ السوداوَين وملامحي التي قيل لي أحيانًا: إنها طبق الأصل المنقوش على جُدرانِ المعابد والمقابر المصرية القديمة، يبدو أنها لفتتْ نظرَه في اتجاهي، ففوجئت بالرأس الأشيَب الوقور والوجه الأبيض العريضِ يقتربُ مني، وينحني فوق قامتي القَصيرة وبالصوتِ الأجش الخفيض يسألني: وأنتَ، من أي بلدٍ أنت؟ أفقتُ على السؤالِ الذي فهمته لحُسن حظي، وقلت: من مصر. عاد الصوتُ يسألُ: من القاهرة؟ قلت: نعم. درستُ في جامعتها، في كلية الآداب. قال الرجل، وهو يعتدل بقامته الطويلة ويمد ذراعه؛ ليربت بكفِّه على كتفي: أنا مثلُك مصريٌّ، ولكن من الإسكندرية، ولدتُ في الإسكندرية … آه! مِن زمنٍ طَويلٍ…
ودُهشت للضحكة الطيبة الرنانة التي فجَّرت دوامةً من ضحكات الشباب والشابات، الذين أحكموا حصارهم حول الشاعر الذي عرَفتُ بعد ذلك من زميل إسباني أنَّه أكبرُ شعراء بلاده، وأحد المجدِّدينَ بين الكبار للشِّعر الأوروبي عامة.
ربما أكون قد عاهدتُ نفسي منذ ذلك اللقاء أن أفرغَ لدراسة هذا الشاعر والكتابة عنه في يومٍ من الأيام. وربما تكونُ ابتسامته الطيبة ورَبتةُ كفه على كتِفي في حنان، وبريق الحب الذي لاحظتُه وهو يلمع ويخبو في العينين الذابلتين المرهَقتين، ومبادرته لسؤال شابٍّ صامت خجولٍ وغارق في تيهِ الغربة، وعلى طريق اللغة التي لم يحسنْها تمامًا (بل كاد يتخلَّى عنها بعد ذلك حينَ شغلته دراستُه للألمانية عن التعمق الكافي في أدبها، بعد أن قطع شوطًا لا بأسَ به في قراءة جحيمِ دانتي ومسرحياتِ بيراند للو)، أقول ربما يكون ذلك، لكنه قد عمِل عملَه في اللاوعي، وذكَّرني بعد ذلك في فتراتٍ متقطعة من حياتي بالعهد الذي قطَعتُه على نفسي؛ ففي أواخر الستينيات أتيحَ لي — أثناء العمل الشاق الذي استغرقَ مني سنواتٍ في تأليف كتابي المتواضع عن ثورة الشعر الأوروبي الحديث — أن أطَّلع على ترجمةٍ ألمانية رائعة لمختاراتٍ من شعره بقلم الشاعرة العظيمة أنجورج باخمان (١٩٢٦–١٩٧٣م) رحمها الله، وأن أنقلَ منها للعربيةِ ما يقرُب من عشرين قصيدةً. وفي أواخر الستينات أيضًا — وكنت أيامها عُضوًا في هيئة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» برئاسة الصديق الكبير فؤاد زكريا — كتبت عن الغموضِ في شعر أنجاريتي، كما أشرت لذلك في هامشٍ سابق. وها أنا ذا أعود بعد نحو ثلاثين عامًا، لا أدري كيف سرقها مني التعليم الجامعي العقيم الأليم؛ لكي أكرر المحاولة وأجدِّد عهد الوفاء للرجل الذي رحل عن عالمنا بعد كتابة المقال المشار إليه بسنتين. هل أستطيع أقول اليوم: إنني أنصفته وأدَّيت حق الذكرى الحية التي ما تزال حاضرةً في وعيِي بالرغم من ضعف الذاكرة مع التقدم في العمر؟ مبلغ عملي — وأرجو أن أكون مخطئًا — أنَّ أحدًا من أبناء وطني والوَطن العربي لم يهتمَّ بهذا الشاعر، الذي وُلدَ في بلادنا وعاش تجارب طفولته وصباه وشبابه الباكر في الإسكندرية، الاهتمامَ الذي يستحقه، كما فعل عدد كبير من الأصدقاء والزملاء الأعزاء مع شاعرٍ سكندري آخر من أصل يوناني، ولد وعاش ومات في المدينة الحبيبة نفسها، وأقصد به الشاعر العظيم: قنسطنطين كفافيس، الذي حظِي بعناية أديب كبير وناقد تشكيلي ومترجم عن اليونانية الحديثة، وهو الدكتور: نعيم عطية، الذي نذكر له جهده وفضله منذ الستينيات في تقديم هذا الشاعر، إلى أن أسعدنا أخيرًا بترجمة أعمالِه الكاملة. ولا بدَّ أيضًا من الإشادة بفضل زميل كريم، هو الدكتور: حمدي إبراهيم الذي شارك في ترجمة بعض قصائد كفافيس عن اليونانية، فضلًا عن مساهمة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في تقديم مختارات عنه عن الإنجليزية، وعن عكوف شاعر قصيدة النثر المعروف: رفعت سلام في الوقت الحاضر على إعداد طبعة تضمُّ شذراتٍ ونصوصًا لم يسبق نشرها عن ترجماتها الإنجليزية. هل يحق لي في النهاية أن أقول: إنني وفيت بالعهد وأنصفت الرجل الذي وُلد على أرضنا وتنفس هواءنا، وجرب سماحة المصري وكرمه ورقته ووداعته وطيبة قلبه، وقدرته على إشعاع الفرح والحب من حوله، على الأقل في ذلك الزمن الذي عاشه الشاعر على أرضنا، وتحت سمائنا؟! لا أظن أنني أستطيع أن أقول هذا بضمير مستريح؛ فما زالتْ معرفتي بالشاعر قاصرةً محدودة، والقصائد التي أقدمها في هذا الكتاب غيرُ كافية للتعريف به وبعالمه وتجاربه في بلادنا وفي بلده الأصليِّ، لكنني قد فعلت ما في طاقتي وفي حدود المراجع القليلة التي عثرت عليها، وعلى الأخواتِ والإخوة العارفين باللغة الإيطالية والمتمكنين من آدابها أن يُكمِّلوا ما بدأتُ، ويصححوا ما وقعت فيه من أخطاء.
-
(ﺣ)
وقد اعتمدت في هذه المنتخباتِ على الترجمة الألمانية التي قامتْ بها الشاعرة الكبيرة إنجبورج باخمان، والدراسة التي ألحقتْها بها،٩ مع الحرص على قراءة الأصل الإيطالي كلمةً كلمةً وسطرًا سطرًا — بمساعدة القاموس والترجمة! — ومراعاة الدقة والأمانة والتعاطف — إلى حد التقمص! — مع روح النص وجسده. أقصد مع معانيه ودلالاته الفكرية ومع كلماته وطعمها ولونها وجَرسها وملامحها المحسوسة والملموسة، ولا يسمح المقام بالحديث عن أسلوبي في ترجمةِ الشعر، بعد أن كتبت عنه في مواضع أخرى١٠ ووهبت سنواتٍ طويلة من عمري في حبِّ معبودي الشعر ودراسته، ونقله إلى لغتي (وليغفر لي الله هذه الخيانة أو الجناية التي أعتزُّ بها ولا أتبرأُ منها، والتي أعزِّي نفسي دائمًا، فأقول: إنها خلاقةٌ أو مبدعةٌ، أو على الأقلِّ ضرورةٌ وواجبٌ ثقافي … إلخ).
-
(ط)
وأخيرًا فقد اهتديت في اختيار هذه القصائد بترجمة إ. باخمان السابقة الذكر، وببعض المختارات الإنجليزية المختلفة من الشعر الإيطالي الحديث والمعاصر في طبعاتِ سلسلة بنجوين المشهورة وغيرها. وأرجو أن يلاحظ القارئ أن القصائد الأولى التي بلغَ عددها ما يقرُب من الأربعين قصيدة مأخوذة عن أهمِّ مجموعات أنجاريتي الشعرية، وهي: «الفرح»، مع قصائد أخرى كثيرة من مجموعاته التالية التي صدرتْ كلها في طبعات مختلفة، لدى الناشر الإيطالي الشهير: أرنولدو موندادوري في ميلانو. وقد حاولتُ بكلِّ جهدي أن أثبت تواريخ كتابة القصائدِ وأماكنها، فصاحبني التوفيق في معظمها، وخذلتني صعوبة الوصول إليها في عدد آخر، وإليك هذه القائمة المختصرة بعناوين دواوين الشاعرِ وسنوات صدورها في طبعاتها الأولى، وفي لغتها الأصلية:
-
(١)
الميناء المدفون، أودين، ١٩١٦م.
-
(٢)
فرحة الغارقين (أو السفن الغارقة)، فلورنسة، ١٩١٩م، وقد عدَل الشاعر منذ سنة ١٩٣١م في العنوان مكتَفيًا باختِصاره إلى «الفرح» L’allegria، ميلانو.
-
(٣)
عاطفة الزمن، فلورنسة، ١٩٣٣م.
-
(٤)
الألم، ميلانو ١٩٤٧م.
-
(٥)
الأرض الموعودة، ميلانو، ١٩٥٠م.
-
(٦)
صرخة ومشاهد ريفية، ميلانو، ١٩٥٢م.
-
(٧)
مفكرة العجوز: من ١٩٥٢ — إلى ١٩٦٠ — ميلانو ١٩٦٠م.
-
(٨)
أشعار متفرقة، نشره الناقد دي روبرتيس، ميلانو، ١٩٤٥م، مع مقدمة بقلم الشاعر.
-
(٩)
حياة إنسان، الأشعار الكاملة، نشره ل. بيتشيوني، ميلانو، طبعة ١٩٧٤ و١٩٨٢م.
-
(١٠)
حياة إنسان، مقالات وحوارات، نشره ذياكونووربياي، ١٩٨٢م.
-
(١١)
رسائل إلى فيلسوف ظاهري (فينومينولوجي)، ميلانو، ١٩٧١م.
-
(١٢)
رسائل إلى بيا، نشره ج. لوتي، ميلانو ١٩٨٣م.
-
(١٣)
إبداعات الشعر الحديث، دروس برازيلية في الأدب، من ١٩٣٧ إلى ١٩٤٢م، نشره مونتيفوسكي نابولي ١٩٨٤م (وهو يضم محاضراته ومذكراته عن الشعر الحديث، خلال فترة عمله أستاذًا للأدب الإيطالي بجامعة ساو-باولو بالبرازيل).
مع العلم بأن هذه القائمة لا تضمُّ ترجماته المختلفة التي تحسب عادة ضمن إبداعاته، كما أنها لا تضم عناوين الدراسات العديدة التي كتبت عنه بلغاتٍ مختلفة.
Übertragung und Nachqort van Imgeborg Bachmann. Frank Furaim., Suharkanp, 1966.