الحراك الاحتجاجي المباشر في المملكة المتحدة: كيف تصدَّينا للقوة الماحقة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا؟
إنها الثالثة صباحًا، والظلام يغلِّف الأجواء تمامًا. ولكن لا يزال هناك بصيص من الضوء قادم من أعمدة إنارة الشارع القريبة على بُعد بضعة حقول، كان كافيًا لتمييز صفوف نباتات الذرة المُنمَّقة. النباتات يانعة وسليمة؛ إذ يصل ارتفاعها إلى مستوى الكتف تقريبًا. وعلى الرغم من أن الضوء ضعيف جدًّا لتمييز الألوان، يُخيَّل إليَّ أن بإمكاني تمييز الأوراق الوارفة ذات اللون الأخضر الداكن الغني والجذوع المتينة الراسخة. وبينما كنت أعد مِنجَلي، أدهشني كم أن هناك دومًا ضوءًا يكفي للرؤية حتى حين يبدو الظلام حالكًا بالخارج، بمجرد أن تعتاده عيناك. ولم تفشل هذه النظرية قط إلا مرة واحدة فقط، وكان ذلك قبل عامين مضيَا، حين كنت في جنوب ويلز، أشقُّ طريقي عبر إحدى الغابات مع بعض النشطاء الآخرين المحتجِّين على عمليات التعدين المكشوف للفحم. في ذلك الوقت، كانت الأجواء حالكة الظلام حتى إنني اصطدمت بشجرة. أما الليلة، فنحن أقرب إلى الحَضر، في مكانٍ ما شرق إنجلترا؛ ما زلنا بالتأكيد في أعماق الريف، ولكن في ذلك الجزء من إنجلترا أنت دومًا على مقربة كافية من التجمعات السكانية. ولهذا السبب نُبقي مصابيحنا مطفأة. فأنت لا تعرف أبدًا من يراقبك.
للحظة أشعر بوخز الضمير وأنا أتراجع إلى الخلف ومنجلي يخترق الصف الأول من محصول الذُّرة. فأنا بستانيٌّ هاوٍ وقضيت وقتًا في المَزارع، ولا يروق لي تدمير النباتات اليانعة السليمة. وأعترف أن هذه النباتات تبدو أفضل شكلًا من أي شيء زرعته على الإطلاق؛ ولكنها مُعدلة وراثيًّا؛ لذا فهي ليست طبيعية تمامًا من وجهة نظري. فأنا أرى هذه الذُّرة ذات الشكل البريء شيئًا دخيلًا مصطنعًا؛ شكلًا من أشكال التلوث الحي الذي لا ينتمي إلى الريف الإنجليزي. ولهذا السبب يجب أن يُباد من جذوره، هكذا كنت أُذكِّر نفسي، بينما يتزايد إيقاعي في العمل. أندفع وأضرب ثم أقطع. أندفع وأضرب ثم أقطع. إنها عملية سهلة على نحوٍ مدهش بمجرد أن تبدأ فيها. يتساقط محصول الذُّرة على الفور، كما يحدث مع الأشجار عند إزالة إحدى الغابات.
بالطبع لست وحدي. فهناك نحو عشرة أشخاص، منتشرين بالتساوي عبر الحقل، كلٌّ منَّا يعمل على صف. ومن نافلة القول أنه يجب توخي الحذر الشديد عند استخدام أدوات حادة في مكانٍ شبه مظلم. فلن يكون هذا وقتًا مناسبًا لوقوع إصابات. بعض النشطاء أصدقاء مقربون لي، والبعض الآخر لا أكاد أعرفه. لقد سافرنا معًا مُكدَّسين داخل شاحنة صغيرة مستأجَرة، وقضينا بضع ساعات على الطريق، مرتدين قلانسَنا ومحاطين بأدوات معدنية. اللون الأسود هو اللون المعتمَد للزي، أو أي لون داكن قدر الإمكان. لا نحمل بطاقات هُوية، شأننا في ذلك شأن جميع المجرمين، بل نحمل بعض النقود الاحتياطية لاستخدامها في حالة الطوارئ وحسب.
في واقعة أخرى، أوقفتنا الشرطة ذات مرة، وكنا مكدَّسين جميعًا بعضنا فوق بعض في المقعد الخلفي للسيارة مُدجَّجين بمجارفنا ونصالنا، في مكان ما بالشوارع الخلفية بمقاطعة نورفولك. أجبرنا رجال الشرطة على الترجل من السيارة وجعلونا نصطف على جانب الطريق الريفي، بينما أخذوا يُدونون أسماءنا وعناوين بيوتنا في دفتر. أفصحت عن بياناتي الحقيقية كالأحمق. وقضيت الأيام القليلة التالية في حالة ضبابية من الارتياب، منتظرًا سماع طرقات على الباب في أي لحظة. ولكن لم يحدث هذا أبدًا؛ وما زلت أتساءل عمَّا كان يفكر فيه هؤلاء الشرطيون، وهم يستوقفون هذه السيارة الغريبة المكتظة ببُستانيِّين أغلبهم من الشباب في منتصف الليل. هل خمَّنوا ما كنا بصدد القيام به؟ هل صدقوا فعلًا قصتنا التي اختُلقت في عجالة عن كوننا عائدين من «حفل بحديقة»؟
مضت ساعة إلا ربع ونحن في حقل الذُّرة، نحرز تقدُّمًا جيدًا. كمية كبيرة من المحصول، الذي كان في وقت سابق يانعًا ومُورقًا، صار الآن ذابلًا وهامدًا على الأرض. والأوراق والسيقان، التي انفصلت عن الجذور القوية التي كانت تدعمها وتغذيها، تدعس داخل الوحل الإنجليزي. ولكن لا يزال هناك ما هو أكثر بكثير للقيام به، وبعد استراحة قصيرة وبعض الأحاديث الهامسة، ضاعفنا مجهودنا من جديد. نندفع ونضرب ونقطع. نندفع ونضرب ونقطع. ثمة أضواء تنبعث من المصابيح الأمامية للسيارات المارة على الجانب الآخر من السياج الممتد بطول حقل الذُّرة المُعدَّلة وراثيًّا. هل تتحرك السيارات ببطء شديد، كما تفعل سيارة دورية الشرطة؟ نتجمَّد جميعًا في أماكننا، ولكنها تمر بطنينها مبتعدة عنَّا. وبعد مرور بضع دقائق، تسطع أضواء مختلفة قادمة من الزاوية البعيدة. هل ضُبِطنا متلبسين؟ نتوقف مرة أخرى. ثم تتوقف الأضواء؛ لعلها خدعة من خدع الليل! أواصل القطع والاجتثاث، واضعًا المهمة نصب عينَيَّ، ومركزًا فقط على صف محصول الذُّرة الموجود أمامي مباشرةً. أندفع وأضرب وأقطع. أندفع وأضرب وأقطع.
ثم فجأة تُفتح أبواب الجحيم على مصراعيها. صيحات تتعالى وضربات تنهال. الناس يركضون في كل اتجاه. أسمع صوت الخشخشة الواضحة لأجهزة الشرطة اللاسلكية التي لا تُخطئها أذن. وكما هو الحال مع كابوس الركض في الوحل الذي يراود الجميع، أحاول أن أتحرك بالحركة البطيئة، وقد سيطرَتْ على عقلي فكرة واحدة؛ ألا وهي الهروب. توجد غابة على الطرف الأقصى من الحقل، ولكن الأرض التي تفصل بينها وبين الموضع الذي أقف عنده في تلك اللحظة مفتوحة للغاية. كان المخبأ الأمثل يكمن في الجزء الأطول من حقل الذُّرة نفسه. وعلى بُعد بضعة صفوف، حيث كنت واقفًا أجتثُّ محصول الذُّرة، أنبطح أرضًا. إن مذاق التربة يسري في فمي وأنا أحاول كتم أنفاسي. لست بمفردي؛ إذ تستلقي بجواري صديقة من أُكسفورد، ولكنها تحاول مرارًا أن تهمس لي بشيء ما. أصيح فيها بصوت مبحوح لتصمت. ثم يهدأ كل شيء تمامًا، باستثناء وقع النعال الساحقة للذُّرة المُجتَثَّة على الأرض من حولنا في أثناء مطاردة رجال الشرطة لنا. وبعد دقيقة، كانوا قد أحضروا كلابًا بوليسية. أسمع لهاث كلاب الجيرمان شيبرد المتسارع وهي تمشط صفوف الذُّرة ذهابًا وإيابًا، تتشمَّم الأثر بحثًا عن طريدتها الصامتة. يقترب أحدها مني بشدة وأنا في وضع الانبطاح؛ حتى إن بإمكاني استشعار أنفاسه الساخنة مع اقتراب لهاثه أكثر فأكثر مني … ثم يبتعد مرة أخرى لسبب آخر يمُر بجواره.
ثمة عاصفة من النباح قادمة وراءنا من على مسافة قريبة. لقد أُلقي القبض على أحدهم. والكلاب البوليسية مُدربة على ألَّا تطلق سراح شيء بمجرد أن تمسك به؛ فلا جدوى إذن من المقاومة. الآن تحِين فرصتنا. أهمس إلى صديقتي من أكسفورد «هيا!» وننطلق من مخبئنا، ونندفع نحو الغابة الآمنة. نركض وكأننا في سباق العدو السريع. ثمة سياج من الأسلاك الشائكة. تتمزق الثياب الداكنة، ولكن لا يُهم. ثمة سياج خشبي آخر، ثم بوابة نمر من خلالها، مُتخفِّين وسط الأشجار وثمار العليق، ونبتعد بخُطًى ثابتة أكثر فأكثر عن رجال الشرطة. وبمجرد أن نبتعد بمسافة آمنة نختبئ وسط الشجيرات حتى الفجر، ثم نشُقُّ طريقنا إلى محطة قريبة للسكك الحديدية. النقود الاحتياطية التي كان من المفترض أن نحملها غير كافية، ولكن لا يهم. نجتاز الحواجز ونصعد على متن أول قطار مُتَّجه إلى لندن. وطوال طريق العودة إلى المنزل أتطلع إلى كاميرات المراقبة في المحطات وعند نواصي الشوارع؛ هل تدور يمينًا ويسارًا لتتبعني؟ هل كان ما فعلت مجرد تأجيل للاعتقال الحتمي، سيتبعه مُثول سريع أمام المحكمة، يليه عقوبة طويلة بالسجن؟ أصل إلى المنزل مُوحلًا ومنهكًا.
•••
بدأت هذه القصة، بالنسبة إليَّ على الأقل، في بناية باردة بمدينة برايتون في نوفمبر من عام ١٩٩٦، قبل ثلاث سنوات من الأحداث التي سردتها آنفًا. كانت هذه البناية تحديدًا عبارة عن مبنًى إداري شبه مهجور. كانت الأرضية تغطيها كُتَل أسمنتية وشظايا زجاجية، والجدران ملطخة برسومات الجرافيتي. لم يكن المبنى مُزودًا بالماء أو الكهرباء، بل إن المنظِّمين اعترفوا بأن طابقَين فقط من إجمالي أربعة عشر طابقًا صالحان للاستخدام. كان الجو شديد البرودة أيضًا؛ فحين افترشنا الأنقاض لننام في حقائب النوم خاصتنا، كان من الواضح أن أحدًا منا لن ينال قسطًا وافرًا من النوم على أي حال. كان هذا بالتأكيد مكانًا لا يبشر بخير لإطلاق حركة من خلاله.
كانت شركة مونسانتو هذه، على حد قول جيم، تنتج محاصيل مُعدلة وراثيًّا، بدأَتْ بفول الصويا، من أجل تسجيل براءة اختراع النباتات الجديدة الخاضعة لتقنية التضفير الجيني وتأكيد الهيمنة المتزايدة على الإمدادات الغذائية العالمية. كان جيم مُتخوِّفًا من أن هذه التقنية من شأنها أن تزيد من تركيز نفوذ الشركة والعولمة الاقتصادية على نحو مستفحل. كانت صيحة الاستنفار الجديدة هي: «أوقفوا براءات الاختراع على الكائنات الحية!» أخبرنا جيم بأن شركة مونسانتو هي شركة كيماويات أمريكية متعددة الجنسيات، وكانت الأغذية الجديدة المعدلة وراثيًّا (لم ينتشر استخدام مصطلح «فرانكينفودز»، أو الأغذية المُعدلة جِينيًّا، إلا فيما بعد؛ فلم أكن أنا من صُغت هذا المصطلح، خلافًا للادعاءات التي أشيعت عني) على وشك الظهور على أرفف المتاجر الأوروبية دون أي ملصقات تعريفية. وربما كان الأهم من ذلك أن هذه المحاصيل الجديدة خضعت للتعديل الوراثي لغرض واحد فقط، كما أخبرنا جيم توماس، ألا وهو: التصدي لاستخدامات مبيد الأعشاب، «راوند أب»، الذي تنتجه شركة مونسانتو. وبدلًا من اعتماد النظام الزراعي الأكثر ملاءمة للحياة البريَّة الذي أردنا أن نشهده، كانت هذه المحاصيل الجديدة الخاضعة لتقنية التضفير الجيني ستُزرع في حقول معقمة كجزء من أسوأ أنواع الزراعة الأُحادية المعتمدة على المواد الكيميائية التي يمكن تخيُّلها.
صار لديَّ هوَس بالقضية. وحين عدت إلى منزلي في أُكسفورد، كان لدينا بالفعل الوسيلة المثلى للترويج للحملة الجديدة المناهِضة للمحاصيل المُعدلة وراثيًّا والمُضي قُدمًا بها؛ إذ كنا قد أصدرنا مؤخرًا مجلة للنشطاء تُدعى «كوربرت واتش». أقنع جيم منظمة السلام الأخضر بأن تمنحنا عددًا من أجهزة الكمبيوتر القديمة الفائضة عن حاجتهم في المقر الرئيسي، وكنا نعسكر في غرف الضيوف بمنازل النشطاء، أو في مساحة مكتبية مشتركة للنشطاء فيما بعد. أُصدرت المجلة وجرى تصويرها بأقل التكاليف وتوزيعها بالبريد على جماعات الحراك الاحتجاجي المباشر الشعبية في مختلف أنحاء البلاد. كنت واحدًا من المؤسسين الستة، وصدر العدد الأول قبل عقد مؤتمر برايتون للحراك المباشر، في أكتوبر من عام ١٩٩٦، بشهر واحد. وظهر على غلاف المجلة الأبيض والأسود رسم كاريكاتيري لقاعة اجتماعات مزدحمة بمُديري شركاتٍ أشرار يناقشون أرباحهم، بينما يختبئ أحد النشطاء تحت طاولة الاجتماعات مُمسكًا ميكروفونًا. ويُظهر الرسم ناشطًا آخر فوق شجرة بالخارج مُمسكًا بنظارة مكبرة. هكذا كان تصوُّرنا عن أنفسنا؛ أشخاص يتقصَّون الحقائق، يكشفون جرائم الشركات ذات النفوذ التي بدا أنها تُهَيمن على العالم بصورة متزايدة. وأعلنت الصفحة الافتتاحية من العدد الأول: «كوربرت واتش عازمة على كشف وفضح جرائم ونفاق تلك الشركات الرافضة للتعامل بأسلوب مسئول.» وحمل الغلاف عنوانًا فرعيًّا يقول: «كوكب الأرض لا يُحتضَر، وإنما يُقتَل عمدًا. ولمن يقتلونه أسماء وعناوين معروفة.» وهو اقتباس لافت للنظر على نحوٍ رائع يُنسب إلى المطرب الشعبي يوتا فيليبس.
بعد أن اكتشفت أن شركة مونسانتو هي العملاق الجديد الذي يقتل كوكب الأرض ببذورها المُعدلة بالتكنولوجيا الحيوية، قررت أن أبذل كل ما في وسعي لكشف أمرها والتصدي لها. وفي أُكسفورد، كتبت مقالًا بعنوان: «الحملة المناهضة للهندسة الوراثية؛ إنه طعام يا جيم، ولكن ليس كما عهدناه» ونُشر بعد شهر، تحديدًا في ديسمبر ١٩٩٦، في العدد الثاني من مجلتنا. لخَّصَت الفقرة الاستهلالية التحقيق الصحفي بأكمله: «في التجربة الجينية العالمية الكبيرة، التي تُجريها شركات الكيماويات والأغذية المتعددة الجنسيات في سعيها إلى تحقيق أرباح أكبر، نقوم نحن المستهلكين بدور فئران التجارب. إذا سمحنا لهم بأن يفوزوا في معركتهم لإجبارنا على قبول منتجاتهم المعدلة وراثيًّا، هكذا يقول مارك لايناس، ربما يتغير مسار الحياة على وجه الأرض إلى الأبد.»
لم يكن الغرض من «كوربرت واتش» أن تكون مجرد مصدر سلبيٍّ للمعلومات بالنسبة إلى النشطاء. وإنما كانت بصدد استنهاض همم الناس من أجل التحرك، من أجل حراكٍ احتجاجي مباشر. وكان هذا يعني تدمير الممتلكات، والتصرُّفات الهوجاء الجاذبة للانتباه، وتعطيل العمل في المكاتب، أي شيء قد يُفلح في ظل هذه الظروف؛ إما في جذب الانتباه أو في تغيير الوضع مباشرة على أرض الواقع. وبعد فترة وجيزة اكتسبنا سمعة سيئة في الصحف الرئيسية حين نشرنا كُتَيبًا يحوي أسماء بعض رؤساء الشركات الرائدة في المملكة المتحدة وعناوينهم، الذين كنا نعتقد أنهم ينبغي أن يتحملوا المسئولية الشخصية عن جرائمهم المفترَضة. وانتهجت كتاباتي عن الهندسة الوراثية النهج نفسه. فقد ذكرت في الصفحة الثالثة من التحقيق الصحفي الشركات الشريرة الأساسية بالتفصيل، على رأسها شركة مونسانتو. إذ كتبتُ أقول: «إن شركة مونسانتو تقود حملةً لفرض الأطعمة المُعدلة وراثيًّا على أطباق عشاء المستهلِكين المترددين.» مضيفًا قائمة بجرائمها المزعومة السابقة؛ بدءًا من إنتاج مبيد الأعشاب «العامل البرتقالي» (إيجنت أورانج) الذي رشته الحكومة الأمريكية أثناء حرب فيتنام، وصولًا إلى تصنيع المُحلي الصناعي الأسبارتام. وقد كتبت أقول عن هذا الأخير: «لقد ربطت عدة دراسات بينه وبين السرطان والتقلُّبات المزاجية والتغيُّرات السلوكية ونوبات الصرع.» ولم أُورِد أي تفاصيل إضافية أو مراجع تُبرر هذه الادعاءات.
خُصصت الصفحة المقابلة كاملة لسرد قائمة بأماكن وأنواع المحاصيل المُعدلة وراثيًّا التي يجرى تجربتها داخل الحقول بالمملكة المتحدة، والتي تنوعت حينها بين الهندباء والفراولة وأشجار الحور. كنا نعرف المواقع المحددة لهذه التجارب الميدانية على المحاصيل المُعدلة وراثيًّا بدقة بالغة تصل إلى تحديد إحداثيات موقع بعينه على الخريطة، وهذا بفضل «الهيئة العامة لتسجيل المحاصيل المُعدلة وراثيًّا» التابعة للحكومة البريطانية. أُنشئت هذه الهيئة في البداية لتهدئة مخاوف الرأي العام من خلال زيادة الشفافية إلى الحد الأقصى، أما بالنسبة إلينا فكانت أداة جاهزة لتحديد موقع كل محصول مُعدَّل وراثيًّا يُزرع في حقول التجارب الميدانية ثم تدميره. وفيما بعد أعَد أحد أصدقائي في لندن جدول بيانات رئيسيًّا بجميع الحقول التجريبية وإحداثيات المواقع في أعمدة منفصلة، وكانت تُشطب بمجرد «تطهير» كل موقع منها. كان الأمر بهذه البساطة حقًّا.
وعلى حد علمي، كان مقالي في «كوربرت واتش» — عقب الدفعة الأولية لمنظمة السلام الأخضر — هو باكورة كتابات النشطاء الرامية إلى حث الحركة البيئية في المملكة المتحدة على التحرك ضد الهندسة الوراثية. كان التحدي الذي بدأناه أنا وزملائي في «كوربرت واتش» طَموحًا بالتأكيد. قبل ذلك، حاولنا أن نوقف مشروعات إنشاء الطرق، أو التركيز على أمثلة محددة للإضرار بالبيئة؛ مثل عمليات التعدين المكشوف للفحم، أو مدرجات المطارات القاطعة للغابات القديمة. أما الآن فنحاول اعتراض مسيرة تكنولوجيا بأكملها. لم نكن نتوقع النجاح في إيقاف المحاصيل المعدلة وراثيًّا بالكامل، ولكن كنا نأمل أن تؤدي هذه الدعوة إلى التعبئة إلى اندلاع موجة من العمل الاحتجاجي المباشر من شأنها أن تبطئ من تطوُّر الأمور على الأقل لبضع سنوات.
ولم يخِب أملنا.
•••
أُعلن يوم الحادي والعشرين من أبريل لعام ١٩٩٧ «يوم الحراك الاحتجاجي» ضد الهندسة الوراثية. وأدركتُ على الفور ما كنت أرغب في حدوثه، وعرفت أي شركة ينبغي استهدافها في ظني. فلقد اكتشفت مؤخرًا أن مقر شركة مونسانتو داخل المملكة المتحدة يقع على بُعد ٢٠ ميلًا فقط جنوبَي منزلي في أُكسفورد، في مبنًى إداري غير لافت للنظر يقع في منطقة تشيلترن هيلز بالقرب من مدينة هاي ويكومب. قُدت سيارتي الصغيرة من طراز فورد فيستا إلى هناك، وأوقفتها في ساحة انتظار السيارات الخاصة بالشركة وتفقدت المكان من حولي. كان مقر شركة مونسانتو عبارة عن مبنًى بالطوب الأحمر بارتفاع خمسة طوابق، تحيط به مناطق مفتوحة لوقوف السيارات غير مزود ببوابات أمنية أو سياج تعوق دخول المبنى بسهولة. ولكن لم يكن هناك مأوًى للاختباء فيه في نطاق قريب، ولا غابة يمكن للنشطاء الاختباء فيها قبل الهجوم والانقضاض على المكان. لذا كنا مضطرين إلى اتباع أسلوب الهجوم المباشر. كان حجَر العثرة الوحيد أمامنا هو شفرة المفاتيح الرقمية للدخول عند الأبواب الأمامية، إلا أنني لاحظت وجود مقصف في الطابق الأرضي نوافذه مفتوحة في الغالب.
«تتضمن الهندسة الوراثية زرع الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (دي إن إيه) بين أنواع لا تربطها أي صلة بتاتًا. إنه أمر خطير وغير ضروري؛ إذ إن ٦٠ في المائة من طعامنا ربما يحتوي بالفعل على منتجات خضعت للمعالجة الوراثية. وتستعين شركات كبرى — مثل نوفارتس ومونسانتو بمساعدة شركات لتصنيع الأغذية وشركات بيعٍ بالتجزئة مثل نستله وسينسبري — بعلم الوراثة لتنظيم عملية استحواذ تجاري على إمداداتنا الغذائية بالكامل. لا يزال هناك مُتَّسَع من الوقت لإيقافها.»
تمثلت الخطوة التنظيمية التالية في استئجار حافلات. وكانت هذه خطوة سهلة؛ إذ دفعت الإيجار من مالي الخاص، بحيث يتسنَّى للنشطاء، الذين كنت آمل أن يحضروا هذا اليوم، الحصولُ على انتقالات مجانية. كان بوسعي تحمُّل تكلفة استئجار الحافلات لأنني كنت واحدًا من القلائل المشاركين في حركة الاحتجاج المباشر الذين يعملون في «وظيفة حقيقية»؛ وهو ما كنت أشعر بشيء من الحرج تجاهه وأردت أن أُحسن استغلاله. لم يكن السبب في شعوري هذا أنني أعمل لحساب شركة شريرة؛ إذ كنت أعمل محررًا لشبكة مواقع إخبارية صغيرة تابعة لمؤسسة خيرية مُهتمَّة بحقوق الإنسان والقضايا البيئية تُدعى وانورلد، كان مقرها في مكان ملائم بدرجة كافية بمنتصف الطريق بين أكسفورد وويكومب. غير أن امتلاك وظيفة فعلية، بدلًا من التجاسر على العيش عالة على مزيج من إعانات الدولة ونبش النفايات، وضعني في ذيل الترتيب الهرمي للنشطاء. فعلى سبيل المثال، لم يكن بإمكاني الاستجابة للدعوات العاجلة للاحتجاج المباشر والإسراع نحو مُخيَّم المحتجِّين على بناء الطرق الجديدة الذين يواجهون إخلاءً، لأنني في ذلك الوقت على الأرجح أكون في ساعات العمل أنقر بكل هدوء على لوحة المفاتيح في مقر وانورلد في مِرأب متحوِّل داخل الغابة. وقد كانت حركة النشطاء تعمل وفقًا لتسلسُل هرمي غير رسمي من حيث درجة الالتزام؛ ليتربع على قمة الهرم النشطاء بدوام كلي، الذين يعيشون في مخيمات الاحتجاج، وفي القاع يأتي النشطاء الذين يشاركون مثلي في عطلات نهاية الأسبوع بقدمٍ واحدة في المشهد الاحتجاجي، بينما لا تزال القدم الأخرى راسخة بقوة في المجتمع العام. وفي هذه المناسبة، على الأقل، كنت آمل أن أتمكن من الاستفادة من الحاجة الماسة واستغلال المال الذي أجنيه من وظيفتي للمساعدة في تسريع سير الأمور.
وفي الحال، جرى حل المشكلة بطريقة بريطانية بحتة. فقد فتح لنا أحد موظفي شركة مونسانتو الأبواب بكل سهولة، بعد أن عجز عن مقاومة الرغبة الغريزية لديه ليكون مهذبًا. وهكذا، تهربنا ببراعة من النظام الأمني الباهظ، والقائم على شفرة المفاتيح الرقمية ذات التقنية العالية. وبناءً على تعليمات أخرى عبر الهاتف المحمول، توقفت الحافلات على مقربة من ساحة انتظار السيارات وداخلها. فُتحت أبواب الحافلات مصدِرةً هسيسًا وقفز منها عشرات النشطاء، يرتدون أزياء تنكرية ملونة ولافتة للغاية. كانت هذه هي المغامرة الأولى لفرقة الأبطال الخارقين المناهضين للتلاعب بالجينات (كنا جميعًا نفضل تسميتها: فرقة الخارقين)، ناشطين مُقَنَّعين يغطون أكتافهم برداء منسدل، ويرتدون الزي المميز للأبطال الخارقين المتمثل في ارتداء الملابس الداخلية فوق سراويلهم الخارجية. وعندما فتحنا بدورنا، نحن الثلاثة القادمين من أكسفورد، أبواب مقر شركة مونسانتو على مصراعيها، اندفع الجميع وانطلقوا مباشرة عبر الدرج. وفي غضون دقائق، تدلت اللافتات المناهضة للمحاصيل المُعدلة وراثيًّا من نافذة الطابق العلوي، في حين استولى عدة نشطاء آخرين على غرفة الاجتماعات ذات الجدران الزجاجية وثبتوا أقدامهم على الطاولة، متظاهرين بعقد اجتماع مجلس إدارة وهمي.
وفي غضون دقائق معدودة، سقط المبنى في أيدينا. وبناءً على تعليمات غير مرئية من رؤسائهم، اصطف موظفو شركة مونسانتو في صف واحد بكل خنوع خارج مكاتبهم، تاركين مكاتبهم وملفاتهم، وهو الأهم، دون حراسة. قمت بالرد على مكالمات الصحافة عبر هاتفي المحمول أثناء تفريغ خزائن الملفات، وكنت إما أتصفح محتوياتها بحثًا عن أي معلومات سرية، أو أبعثرها بكل بساطة لعرقلة أي أعمال مشبوهة افترضنا أن شركة مونسانتو تقوم بها في يوم عمل عادي يهدف إلى تدمير كوكب الأرض. وبعد عدة ساعات من المفاوضات مع بعضٍ من رجال شرطة هاي ويكومب، المذهولين، غادرنا جميعًا المبنى — الذي لم يكن على نفس الحال الذي وجدناه عليه — وصعدنا مرة أخرى على متن حافلاتنا، تتطاير وراء أبطالنا الخارقين أرديتهم المنسدلة على الكتفين رافعين رءوسهم في شموخ احتفالًا بإنجاز المهمة على أكمل وجه.
•••
واقتداءً بالنموذج الملهِم الذي مثله جيم توماس من منظمة السلام الأخضر، جاء دوري لتقديم ورش عمل. كان موضوع «استهداف مونسانتو» بندًا ثابتًا في اجتماعات النشطاء في طول البلاد وعرضها، وبدأت الأخبار تنتشر. وفي أحد هذه الاجتماعات، وكان بعنوان «اجتماع الجين الكبير»، كان من بين الحضور اثنان من أبرز نشطاء العمل الاحتجاجي المباشر في المملكة المتحدة، وهما ثيو سايمنو وشانون سمي. وباعتبارهما نجمَين ساطعَين في فرقة «سيز ذا داي» للموسيقى الشعبية السياسية، ألف ثيو وشانون أناشيد حماسية لحركة العمل الاحتجاجي المباشر. كان ثيو مَعسُول اللسان، ولكنه فصيح البيان وذو شخصية آسرة، وكان لديه لمحة ساحرة من لكنة سومرست. عزفت شانون، ذات حبائل الشعر الأشقر المجدولة المدهشة والفساتين الفضفاضة، على أوتار الجيتار وألفت أغانيَ بكلمات أرق وَقعًا على الأذن وطابعٍ عاطفي أقوى. كنت من أشد المعجبين بموسيقاهما، وفيما بعد شعرت بأنني محظوظ لاعتبارهما صديقَين لي.
ولكن ما أكسب فرقة «سيز ذا داي» طابعًا استثنائيًّا ومميزًا وسط الموسيقيين أنهم كانوا على استعداد لتقديم ما هو أكثر من مجرد التغني بقضايا تخريب البيئة وانعدام المساواة على مستوى العالم. فقد كانوا مستعدِّين للتصدي لهذا الموقف مباشرة، واضعين أنفسهم على المَحَكِّ ومعرضين أنفسهم لخطر الاعتقال، أو المحاكمة، أو حتى الإصابة في الأثناء. نادرًا ما قابلتُ أشخاصًا أشجع أو أكثر التزامًا أخلاقيًّا من هؤلاء. كانت جرأتهما المطلقة واضحة منذ الوهلة الأولى التي تعاونَا فيها معًا، حين تجردا من ملابسهما مع ثلاثة نشطاء آخرين فوق سطح وكالة بارتل بوجل هيجارتي للإعلانات، في سوهو، المسئولة عن حملة شركة مونسانتو. وعلى اللافتة التي حملوها وعرضوها بجوار أجسادهم العارية كُتبت هذه العبارة باللون الأحمر: «افضحوا جريمة التستُّر على التلاعب بالجينات.» وقد ساعدت في التحضير لهذا الاحتجاج قبل أسبوع، من خلال دخول مبنى وكالة بارتل بوجل هيجارتي تحت ستار حيثيَّتي النهارية كصحفي مستقل، يتحامل على نفسه لحضور مقابلة مملة مع أحد كبار التنفيذيين لديهم لكي تسنح لي فرصة لحفظ الشفرات السرية لفتح الأبواب، وهو ما أخفقت في القيام به كالعادة. لم تعترض هذه المشكلة اللوجستية طريق ثيو وشانون، اللذين عثرا في اليوم المحدد على بئر سلم بلا حراسة موجود في مبنًى مجاور للوكالة، واستطاعا بطريقة ما أن يتسلقا عبر نوافذ الطابق الخامس ويصعدا إلى سطح البناية. وبينما كانا يواجهان ببسالة درجات الحرارة المنخفضة والعيون المتطفلة للحشد الكبير من المتفرجين، وهما يغنيان ويهتفان بطاقة وجَلَد مُذهلَين، وقفتُ أنا بالأسفل متدفئًا ومرتديًا كامل ملابسي، وتعاملت مع الصحافة. وكان هذا يعني كتابة بيان صحفي وإرساله عبر الفاكس (كان قد أُعد في وقت سابق وأرسِل من مكان آخر بعيد عن موقع الحدث) والإدلاء بتصريحات نيابة عنهما إلى وسائل الإعلام عبر الهاتف.
ومن خلال التحدث مع رجال الشرطة، ساعدت في التفاوض على نزول ثيو وشانون بسلام إلى الطابق الأرضي. وبعد مرور ساعتين، نزلوا جميعًا من فوق السطح منتصرين، وقد أوصلوا وِجهة نظرهم. واعتقدنا أن شركة مونسانتو قد شعرت بالإحراج بالقدر الكافي، ولم يُعتَقل أحد منَّا، وهو ما كان يعني أننا جميعًا أحرار للبدء في التخطيط للاحتجاج التالي. وكان هذا مكسبًا آخر.
•••
كانت أحد أغرب التجارب التي عايشتها في تلك الفترة هي مشاركتي مع المجموعة السرية الصغيرة التي خططت لما كان يُفتَرض أن يكون أجرأ عمل احتجاجي على الإطلاق، لو كانت الأمور قد جرت كما خُطط لها. لم يتحدث أحد من المشاركين عن هذا المخطط لنحو ١٥ عامًا بعد وقوع الحادثة، وهذا لأسباب واضحة. وها أنا ذا أُفصِح عنها لأول مرة في هذا الكتاب.
لقد قررنا سرقة أول حيوان مزرعةٍ استنسخه العلم؛ ألا وهي النعجة دوللي الشهيرة.
لكي يكون لدينا خلفية لهذه القصة، من المهم أن نفهم أن اعتراضنا لم يكن مقتصرًا على المحاصيل الخاضعة للهندسة الوراثية وشركة مونسانتو. لقد كنا معارضين لمسيرة تقدم البحث العلمي برُمتها في مجال التكنولوجيا الحيوية وفكرة التحكم التقني في عمليات حميمية حيوية مثل عملية التكاثر. ولهذا السبب عارضنا بشدة تقنية استنساخ الحيوانات الناشئة حديثًا، وكنا قلِقين أيضًا بخصوص التطورات على صعيد التناسل البشري؛ مثل الفحص الجيني للأجِنَّة، باعتبارها منحدرًا زَلقًا سينحدر بنا نحو تحسين النسل. كنا نرى أن التكاثر الجنسي، كما أرادته الطبيعة بكل مخاطِره وتعقيداته، ينبغي حمايته من التدخل التكنولوجي. وكان أحد التحركات المقترحة لتسليط الضوء على ما كنا نحسبه تهديدًا مصطنعًا للتكاثر الجنسي هو «الجنس» الجماعي؛ حيث يقوم العشرات، وربما المئات، منا بممارسة الجنس بلا قيود في الهواء الطلق لإثبات أن الطريقة الطبيعية هي الطريقة المثلى. ظننتها فكرة رائعة، وكنت على أتم استعداد للمشاركة شخصيًّا في التخطيط والتنفيذ على حد سواء. ولسوء الحظ لم ترَ فكرة الجنس الجماعي النور، كما هو الحال مع أفكار عظيمة أخرى.
غير أننا كنا قاب قوسين أو أدنى من سرقة النعجة دوللي. اختُرِعَت النعجة دوللي، أو بالأحرى «خُلِّقت»، في يوليو من عام ١٩٩٦ على يد علماء من معهد روزلين، الذي كان على مرمى حجر من مدينة إدنبرة التي تقع بها جامعتي القديمة. ذهبتُ أنا وثلاثة نشطاء آخرون بدافع الواجب إلى اسكتلندا ذات يوم من أيام فصل الخريف في منتصف عام ١٩٩٨ لننفذ خطتنا. انتحلت صفة باحث أكاديمي في وضح النهار، وسُمح لي بالدخول إلى مكتبة معهد روزلين، مفترضين أنني أجري بحثًا من نوع ما. وبمجرد أن اجتَزتُ مكتب الاستقبال، أخذت جولة حرة عبر الأرْوِقة، وأخذت أجول محاولًا معرفة أي من الحظائر الخارجية العديدة تُئوي النعجة دوللي بداخلها. وفي الأثناء، رفعت واحدة من الناشطين الآخرين، والتي كانت تجيد تقليد الأصوات على نحو مدهش، شعرها تحت قبعة مرنة ملونة واعتمدت إحدى لهجات تكساس في حديثها. بعد ذلك تظاهرت بأنها سائحة أمريكية ضلت طريقها على ممر مشاة قريب تصادف أنه كان يؤدي إلى نقطة قريبة من الحظائر نفسها التي كنت أحاول الدخول إليها من الداخل.
بحلول المساء، كنا قد قررنا أننا قد حددنا الحظيرة المنشودة. غير أنني أَثَرْتُ بعض الشكوك إثر ضبطي في مكان بعيد نوعًا ما عن المكتبة، وحينها هتفت قائلًا: «حسنًا، معذرة. أنا تائه هنا. يا إلهي، يا لها من حظيرة كبيرة هنالك، ماذا بداخلها؟» وفي تلك الأثناء، قامت سائحتنا الأمريكية المزيفة بالشيء نفسه بطرح أسئلة كثيرة جدًّا من الخارج: «أهنا يحتفظون بالنعجة دوللي؟ يا له من مكان نظيف ومرتب! قلت: أي حظيرة بالضبط؟» غير أنه بعد فترة طويلة من غروب الشمس، وتحت جنح ظلام الليل الدامس تقريبًا، تسلل أربعتنا عبر طريق ريفي يبعُد نحو ميل خلف معهد روزلين. أصابتنا الصدمة، نظرًا لأننا كنا نتسلل بعد منتصف الليل بوقت طويل، لنصطدم برجلين قادمين في الاتجاه الآخر؛ لحسن الحظ اتَّضح أنهما صَيَّادان مُخَالِفان لا حارسان لمنطقة الصيد، يحمل كل منهما زوجًا من طائر التدرج. تبادلنا تحية مقتضبة بإيماءات من الرأس. «مساء الخير!» قُلناها جميعًا في صوت واحد، ومضى كل منا في طريق منفصل.
بالمناسبة، لم تبقَ النعجة دوللي على قيد الحياة بعد ذلك إلا بضع سنوات. فنظرًا لإصابتها بالسمنة والتهاب المفاصل جراء بقائها داخل الحظيرة أغلب الوقت بهدف إحباط أمثالنا من النشطاء، كان لا بد من إنهاء حياتها في عام ٢٠٠٣. والآن، تُعرض جثة النعجة دوللي المُحنطة في المتحف الوطني الاسكتلندي بإدنبرة. قم بزيارتها وستراها عن قرب أكثر مما فعلنا.
•••
واصلنا تكتيكات حراكنا الاحتجاجي المباشر في مدينة واتلينجتون. وخلال الأسبوعين الماضيَين، شغلنا مبنى مزرعة مهجورًا قريبًا، محوِّلين إياها إلى معسكر احتجاجي ومبدِّلين حدائقها المكسوَّة بالعُشب إلى «مزرعة معمرة» وأراضٍ تجريبية للزراعة العضوية بفضل جرَّار زراعي محمَّل بسِماد مستورد. وفي يوم الأربعاء قبيل الفعالية الكبرى، ومع تزايد الاهتمام الإعلامي بالاحتجاج المرتقب، وجدت نفسي محاصَرًا في أحد أركان حقل نبات السلجم المُعدَّل وراثيًّا بكاميرا أمامي وسماعة في أذني، أُجري لقاءً تليفزيونيًّا يُذاع مباشرةً على شبكة آي تي إن نيوز. وفي اليوم المقرَّر نفسه، كانت ثمة شاحنات بث مصطَفَّة على جانبَي الحقل؛ أتذكر أنني أجريت مقابلة داخل الشاحنة التابعة لقناة سكاي نيوز التليفزيونية، المزودة بعدد كبير من المعدات التقنية المعقدة، وكنت أعاني من آثار إرهاق شديد من أحداث الليلة السابقة. لم أكن قد تجاوزت السادسة والعشرين من عمري آنذاك، وبدا وكأنني قد صرت نجمًا أصاب شهرة إعلامية ونجاحًا كبيرَين.
كانت «الفعاليات» التي تتصدر العناوين الإخبارية الرئيسية هي الجزء الأكثر وضوحًا للجمهور فقط من الجهد المبذول في هذا الصَّدد. فوراء تلك الجهود ساعات من العمل الشاق اليومي؛ مثل متابعة قوائم البريد الإلكتروني، وتنسيق تبادل المعلومات بين مختلف مجموعات العمل في المدن البعيدة، وتنظيم تجمعاتٍ يُمارَس من خلالها التخطيط الاستراتيجي وتُطرح فيها أفكار جديدة. ولن أنسب لنفسي الفضل بأثرٍ رجعي في النجاح العالمي الذي أدركناه، وهو بالتأكيد فضل لا يَرقى إلى ما يُنسب إلى جيم توماس وغيره من النشطاء المخلصين الذين شكَّلوا معًا المجموعة المعروفة باسم شبكة الهندسة الوراثية بالمملكة المتحدة. لقد كان إسهامي محدودًا، وكان يركز بالأساس على المراحل الأولى لما صار فيما بعد حملة واسعة النطاق وفعَّالة للغاية.
فيما بعد عَزَا جيم توماس، أحد منظمي حملات منظمة السلام الأخضر الذي وضعني على أول هذا الطريق، الفضل في إنجازات الحركة المناهضة للتعديل الوراثي في المملكة المتحدة إلى عدة عوامل أخرى. وعن هذا، كتب يقول: «وراء هذا الزَّخْم المتزايد للحركة المناهضة للتعديل الوراثي تناغُم متقن من العمل الجاد، وصدفة سعيدة، واستراتيجية وشغف دءوب.» وفي مدينة توتنس بمقاطعة ديفون، والتي تعتبر، نوعًا ما، نسخة إنجليزية من مدينة بورتلاند الأمريكية، بولاية أوريجون، من حيث تعدد السكان ممن لهم أنماط حياتية بديلة (تحت لافتة الطريق المكتوب عليها «توتنس» كتب أحدهم أسفلها بكل حب: «في توأمة مع عالم نارنيا»)، تحوَّل المئات — وكان من بينهم والدي — إلى معارضة وجود موقع تجريبي للتعديل الوراثي الذي كان يُنظَر إليه باعتباره مصدر تهديد لإحدى المزارع العضوية القريبة. وبحلول عام ٢٠٠٠، كان هناك عدة جماعات تُدشِّن حملات مناهضة للمحاصيل المعدلة وراثيًّا؛ على الصعيد الاحترافي نجد جمعية «أصدقاء الأرض»، ومنظمة «السلام الأخضر»، و«رابطة التربة»؛ أما على صعيد الحراك الشعبي فنجد منظمة «جينيتكس سنوبول»، و«الأرض أولًا!»، ومنظمة «جين واتش» و«شبكة الهندسة الوراثية».
ولكن كان ثمة شيء يعكر صفو هذا النجاح، حتى في ذلك الوقت، جعلني أشعر بالغثيان أيضًا. أي نوع من النصر هذا حين تشترك الصحف الشعبية ذات الانتشار الواسع بكل سعادة وبهجة في حملة لشيطنة العلماء وتصويرهم وكأنهم دكتور فرانكنشتاين العصر الحديث؟ هل يحقُّ لنا فعلًا أن ندمر التجارب العلمية دون أن نُولِيَها المزيد من التفكير؟ لم أكُن متأكدًا من أنني أتفق مع الأمير تشارلز بشأن ضرورة منع العلماء من اقتحام «عوالم لا تخُص أحدًا سوى الرب، والرب وحده». بدا وقع الأمر يشير إلى وجود لمحة من التعصب الديني، وذكَّرني بمؤيدي نظرية الخلق الذين حاولوا منع تدريس نظرية التطور في المدارس. هل كان هذا من نوعية الأنشطة التي يفترض أن يشارك فيها المهتَمُّون بعلم البيئة؟ ومع تناولي لقضايا مختلفة في السنوات اللاحقة، بدأت أُجري أبحاثي العلمية الخاصة، وتزايدت بداخلي الشكوك. ومن بِذرة العلم هذه، نبتَتْ شكوكي فيما بعد وترعرعت. وفي النهاية، أجبرتني على اتخاذ قرارٍ من شأنه أن يغيِّر مجرى حياتي كلها، ويزجَّ بي في صراع صريح ومرير مع من كانوا في السابق أقرب أصدقائي وحلفائي.