بذور العلم: كيف غيَّرت رأيي؟
كان آخر عمل احتجاجي مباشر قمتُ به هو مهمة فردية ظلت تُطوق عنقي كالنِّير منذ ذلك الحين. كان واحدًا من تلك الأشياء التي أكسبتني القليل من الشهرة وسط دوائر مُعَيَّنة، وكان كفيلًا بأن يجعل عينة عشوائية من الأشخاص ينظرون إليَّ باندهاش، إما من أثر إعجابٍ أو اشمئزاز، حسب وجهة نظرهم، قائلين: «أنت إذن الذي …»
ولهذا السبب، ما زلت أذكر هذا التاريخ على وجه التحديد: ٥ سبتمبر ٢٠٠١. كنت قد عُدْتُ قبل بضعة أشهر من ولاية ألاسكا، حيث كنت أُجري بحثًا ميدانيًّا عن الآثار المترتبة على تغيُّر المناخ، مُعِدًّا بذلك واحدة من دراسات الحالة التي عرضتُها في كتابي الأول بعنوان «ذروة المد»، الذي يتناول موضوع الاحتباس الحراري العالمي. في ألاسكا قضيت وقتًا مع مجتمعات الإسكيمو الأصليين الذين تأثرت حيواتُهم تأثُّرًا بالغًا بتغيُّر المناخ. وفي بلدةٍ أنوبياكية صغيرة على الساحل الغربي من الولاية، تُدعى شيشماريف، رأيت بيوتًا تنهار فوق الجُرف الرملي. فلم تعُد هذه البيوت محمية من تآكل الأمواج بالجليد البحري، الذي كان يتكوَّن في نهاية الخريف ويذوب في وقت مبكر من الربيع. وبالداخل، بالقرب من مدينة فيربانكس، زُرْتُ مناطقَ، حيث كان ذوبان طبقة الجليد الدائمة يُسفِر عن ميل الطرق والمباني بزوايا شديدة الانحراف، وغوص الأشجار في حُفَر موحلة في البرية تُسمى التضاريس الحرارية. قيل لي إن بحيرات كاملة قد اختفت، وكان ذلك يحدث أحيانًا بين عشية وضحاها حرفيًّا، لتجف بكل بساطة وتتحول إلى أرضية ذائبة. كان الجليد الذي ظل متجمدًا منذ العصر الجليدي الأخير يختفي، وبوتيرة متسارعة. تحدثت إلى علماء من جامعة ألاسكا، وفيربانكس، وأماكن أخرى، وأخبروني بأن الارتفاع الأخير في درجات الحرارة غير مسبوق، ربما منذ مائة ألف عام مضت. كما أنني سافرت حتى وصلتُ إلى ساحل المحيط المتجمِّد الشمالي في خليج برودهو، مركز صناعة النفط في ألاسكا، وكنت شاهدًا على التناقض الذي تتسم به ولايةٌ تستخرج ملايين البراميل من النفط، التي عند إحراقها جميعًا تزيد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية الذي كان يتسبب بالفعل في هذه المشكلات الجليَّة التي ظهرت في أماكن أخرى في الولاية عينِها.
توقعت أن يسحبني حُرَّاس أمن المكتبة إلى الخارج فورًا في مشهد بطولي، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يُجنبني على نحو أنيق معضلة ما سأقوله فيما بعد، ولكن هذا لم يحدث. وقف لومبورج — وقد تلطخ وجهه وقميصه القطني الأسود الذي يرتديه بقطع الكريمة المتناثرة — منتظرًا في صبر أن تتوقف الموظفة الشابة عن التجول بلا هُدى وتحضر له مناديل ورقية؛ بينما اعتليت أنا خشبة المسرح. كانت الأضواء مُسلطة عليَّ. وكل ما تعيَّن عليَّ القيام به هو التحدث بأسلوب خطابي واثق وبليغ لأوضح ما كنت أحتج بشأنه، ومدى الغضب المستحَق الذي يعتريني إزاء عدم اكتراث لومبورج بمشكلة الاحتباس الحراري العالمي، وكيف أن موقفي مُدعَّم بالعلم الدقيق القائم على مراجعة الأقران.
غمغمتُ بصوت يكاد يكون غير مسموع قائلًا: «هذا ردٌّ على كل الهراء السخيف الذي تقوله عن البيئة! هذا ردٌّ على كذبك بخصوص تغيُّر المناخ! هذا ما تستحقه نظير موقفك المتعجرف إزاء كل ما يتعلق بالبيئة …» أعقب هذا توقف قصير مُثقَلًا بالمعاني. في الحقيقة، كنت قد بدأت أشعر بالارتباك حيال ما فعلتُه للتَّوِّ، لا سيما أن لومبورج لا يزال واقفًا في مكانه مُغطًّى بالكريمة. فأردفت قائلًا على سبيل التبرير: «إممم … آسف، ولكن كثيرين كانوا يطالبون بهذا. كان يجب أن يحدث. كعكة في وجه لومبورج! الكعك ردًّا على الأكاذيب! هذا ما تحصل عليه جزاء ترويج الأكاذيب عن البيئة.»
وفي النهاية — وأخيرًا! — طلب مني أحد الموظفين برِفق أن أغادر المكان، وهو ما شرعت في القيام به بتعجُّل غير لائق. وأتبعَ ذلك تصفيقٌ من عدد محدود من الحضور.
•••
أجل، أنا الفاعل. أنا «من رشق بيورن لومبورج بالكعكة». وكانت عواقب هذه الفعلة بالنسبة لي أشد بكثير من عواقبها على لومبورج نفسه على الأرجح. أُدرِك هذا لأنني بعد مرور عدة سنوات قدمت له اعتذارًا مُتأخرًا. كان رده مهذبًا وملطفًا للأجواء على حد سواء؛ إذ أخبرني بألَّا أبالي بالأمر مطلقًا. لقد علمتني هذه الواقعة على نحو خاص — أثناء نضالي لحشد حُجة قوية ضد كتاب لومبورج المثير للجدل والمدجَّج بالمراجع — أن أُولِي اهتمامًا دقيقًا للأدلة الداعمة. أدركت أنه لم يكُن يكفي أن أرفض وجهة نظره بِناءً على اعتراضاتي الأيديولوجية أو حتى الأخلاقية، مهما كانت قوة تمسُّكك وإيمانك بها. ويجب أن تتحدد صحةُ موقفه من عدمه بخصوص أي أفكار أو مزاعم واقعية استنادًا إلى الأدلة التي يسوقها لدعم ادعاءاته، وليس استنادًا إلى آراء المرء القاطعة حيالها. إن ما منحني الثقة لأقذفه بكعكةٍ في وجهه ليس أن مزاعمه أثارت سخط علماء البيئة، ولكن لأن معظم الأوساط العلمية انتقدته بشدة. أردت أن «أدافع عن العلم» من خلال دحض آرائه؛ لذا بذلت وقتي وجهدي في قراءة التقارير العلمية الضخمة المُقدمة من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ. وفي خِضم هذا، وجدت عالمًا كاملًا جديدًا ينفتح بآفاقه أمامي. اكتشفت أعدادًا ضخمة من الدوريات الأكاديمية، لا يبدو أن أحدًا قد ألقى نظرةً عليها، تحمل عناوين غامضة، ولكنها تحتوي على أحدث الأبحاث المذهلة في مجال تغيُّر المناخ. وشعرت أنني وجدت مهنتي الجديدة.
في الحقيقة، كان من السهل بالنسبة إليَّ الانتقال من خانة المُحتَج إلى خانة الكاتب عن موضوعات تغير المناخ؛ نظرًا لوجود توافق شديد بين الأوساط البيئية والعلمية بشأن هذه القضية. كان هناك من التوافق ما يكفي للشعور بالأُلفة الشديدة عندما شرعت في حضور المؤتمرات العلمية وسعيت إلى الاطلاع على المؤلفات الأكاديمية الأوسع نطاقًا. وعندما نُشر كتابي «ذروة المد» في عام ٢٠٠٤، كنت أخشى احتمالية أن ينتقدني أحدهم لتأليفي كتاب رحلات، وربما الإشارة إلى أن الأدلة السَّردية المتداولة بين الأشخاص العاديين ليست كافية لإثبات أي شيء أو إثبات أي حقيقة بديهية أخرى. ولقد حاولت بالفعل أن أحتاط من ذلك من خلال التأكيد على هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب، فكتبت أقول: «على الرغم من أن معظم المعلومات الواردة في هذا الكتاب تستند إلى روايات أشخاص عاديين وإلى تجاربي الشخصية، فإن التزامها بالدقة والحقيقة قائم على أعمال المئات من علماء المناخ والأرصاد الجوية وفيزياء الغلاف الجوي وغيرهم من الخُبراء العِلميين …» وحرصت كذلك على أن تكون جميع المصادر العلمية القائمة على مراجعة الأقران والواردة في نهاية الكتاب، والتي بلغت ٢٥٠ مرجعًا، مكتوبة بأسلوب الاستشهاد الأكاديمي الدقيق.
لا يكترث علماء البيئة كثيرًا بالمؤهلات الأكاديمية، وهذا أمر منطقي. فالمشاركون في أي حركة قائمة بقوة على الجدارة والعطاء يتدرجون عبر مناصب التسلسل الهرمي غير الرسمي بِناءً على القدرات الإبداعية والجاذبية الشخصية ومدى الالتزام أكثر من الشهادات الجامعية. وبعض النشطاء الذين عمِلت معهم — الذين كانوا في بعض الأحيان أذكى وأكفأ منظمي الحملات على الإطلاق — لم يكملوا تعليمهم؛ بل وكانوا عاطلين عن العمل رسميًّا، أو يعيشون في الشوارع. وسرعان ما اكتشفت أن العلم شيء مختلف إلى حد ما. أحيانًا أثناء إجراء الأبحاث أتلقى رسالة بريد إلكتروني موجهة إلى «دكتور لايناس» وأضطر إلى الاعتراف نادمًا بأن هذا اللقب لا يمكن أن يشير إلى أحد سوى والدي، الذي كان يعمل جيولوجيًّا محترفًا وحاصلًا على درجة الدكتوراه، وليس أنا. فأنا لا أحمل درجة الدكتوراه؛ بل إنني لا أملك أي مؤهلات علمية رسمية من أي نوع تتعَّدى ما درسته في المرحلة الثانوية. ورغم أننا كنشطاء راديكاليين عادة ما تُساوِرنا الشكوك، على نحوٍ مبرر، حيال هياكل السلطة الرسمية، فقد رأيت أن من المنطقي في مجالات العلوم احترام الخبرات الحقيقية المرتكزة على المطبوعات المرموقة في الدوريات العلمية رفيعة المستوى، أو الأبحاث الميدانية الرائدة، أو غيرها من المصادر ذات المكانة المهنية. كنت أعلم أنني لن أنتمي أبدًا إلى هذه المراتب العلمية العالية، ولكن على الأقل أردت من أعضائها أن يحترموا عملي. وعلى أي حال، فقد منحني كل هذا حافزًا قويًّا لبذل جهدٍ إضافي لفَهم العلم فهمًا صحيحًا.
لقد حصلتُ بالفعل على درجة أكاديمية، ولكنها ليست علمية. فأنا حاصل على درجة الماجستير في السياسة والتاريخ الحديث من جامعة إدنبرة. كانت المناهج الدراسية لمادة التاريخ رائعة، ولكن لنا أن نقول بثقة إنها لا تركز كثيرًا على الفلسفة التجريبية (الإمبريقية). وقد تعلَّمنا أن نؤمن بأن أي فكرة موضوعية هي، بشكل أو آخر، عبارة عن بِناء وضعه المجتمع، وأن أي منظور أيديولوجي أو سياسي لا يقِل في صحته عن أي مفهوم عن «الحقائق» العامة. والآن، وبعد مرور عقدٍ من الزمن، بينما أجلس في الطابق الأرضي ذي الإضاءة الخافتة بمكتبة رادكليف للعلوم بأكسفورد، بدت قراءة الاستنتاجات العلمية القائمة على بيانات فعلية من العالم الواقعي أشبه باستنشاق الهواء النقي. كان الأمر شبيهًا بإزاحة عدة ستائر حاجبة للضوء ورؤية العالم على حقيقته لأول مرة. ففي الجامعة، درستُ عصر التنوير الأوروبي باعتباره ظاهرة تاريخية؛ والآن أشعر كما لو أنني لأول مرة أستوعب ما كان يعنيه استيعابًا صحيحًا. فعندما كنت أقود دراجتي إلى المكتبة كل صباح كان يساورني ذلك الشعور المُبهِج بأنني أعيش عصري التنويري الشخصي.
لا أريد أن أبدو ساذجًا — أو حتى عاطفيًّا — أكثر مما ينبغي بخصوص العلم. فسرعان ما اكتشفت، أثناء تأليف كتابَيَّ الاثنين عن المناخ، أن العلم يتسم بالتعقيد. فعادةً ما يختلف العلماء فيما بينهم، لدرجة أنهم أحيانًا يُفَندون بكتاباتهم، التي تنضح بانتقادات لاذعة، أبحاثًا أجراها علماءُ آخرون. وعادةً ما يبدو العلماء، الذين يُعبرون بكل وضوح عن رأي ما بورقة بحثية مرموقة، عازفين تمامًا عن إحداث أي تعديل في آرائهم إذا ما هاجمهم الزملاء. وأحيانًا ما يُفَنَّد أحد الأبحاث التي تتصدر عناوين الأخبار وتحظى بتغطية كبيرة في الدوريات العلمية المرموقة، مثل «نيتشر» أو «ساينس»، من قِبل الباحث أو الناشر؛ بل وفي أحيان كثيرة قد يتراجعان عن البحث بعد عام أو عامين من نشره. كنت أعلم أن تَنَاتُجِية الدراسات — أي القدرة على إعادة إجراء دراسة ما للتثبت من نتائجها — هو شيء أساسي من الناحية النظرية، إلا أنني رأيت أيضًا أن قِلةً من الدراسات هي ما يُعاد إجراؤها مرة أخرى، وأن النقاشات الطويلة بشأن النتائج المختلفة استندت إلى تحليل البيانات التي تطلبت تدريبًا لسنواتٍ في مجال الإحصاء المتقدم من أجل البدء في فهمها. علاوة على ذلك، كان كل هذا مخفيًّا في المجلات العلمية المودَعة في قاعات مكتبة بودلي المهيبة (التي كان لي الشرف أن سُمح لي بدخولها) أو خلف تقييد الوصول إلى المواقع الإلكترونية الخاصة بالناشرين والتي تفرض رسومًا باهظة تصل إلى ٥٠ دولارًا أو أكثر للتحميل مرة واحدة فقط.
تعلمت، عند التمحيص في مواد متناقضة، أن أثق في حدسي بقدر ما أثق في أي شيء آخر، وأن أدرك أنه لا ينبغي تقبُّل الأبحاث الفردية التي تعرض استنتاجات مستبعَدَة وحدها على عواهنها دون تمحيص. بدأت أتفهم أن المعرفة العلمية هي معرفة تراكمية؛ تنشأ بالتدريج كبيت يُبنى بالطوب. أحيانًا يقتضي الحال وضع قوالب بعينها من الطوب في مكان آخر، أو انتزاعها، أو استبدالها كُليةً، إلا أن الجدار في المجمل يستمر في الارتفاع بوجه عام. ونادرًا ما يُهدم بالكامل ويُعاد بناؤه مرة أخرى بفضل اكتشافات ثورية غيَّرت وجه المُسلَّمات العلمية؛ مثل الصفائح التكتونية أو التطور عبر الانتخاب الطبيعي. ومن ثَم، فإن الغالبية العظمى ممن ادعوا الإطاحة بجيل كامل من الأبحاث العلمية، على طريقة جاليليو، كانوا مجرد أشخاص غريبي الأطوار على الأغلب.
كان هناك عدد وافر من الأبحاث الغريبة والمتناقضة المتاحة لمن أرادوا اتخاذ مواقف مناقضة. في الواقع اتَّهَمتُ، أنا وكثيرون غيري، بيورن لومبورج ﺑ «الانتقائية في اختيار الأدلة» أثناء حملاتنا الانتقادية لكتابِه. ولكي أتجنب الوقوع في هذا الفخ، حاولت التمسك بالإجماع العلمي على تغيُّر المناخ، وعند مجادلة المُشَككين في تغيُّر المناخ، في المناقشات العامة أو على وسائل الإعلام، أشعر، كوني غير متخصص، بأنني مُلزَم بمحاولة تمثيل هذا الإجماع العلمي بأمانة بقدر استطاعتي. ومن ثَم، كنت من أشد المعجَبين بذلك الكيان الضخم المُعقد؛ وأقصد هنا الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، التي كان تضم أكثر من ألف عالِم ينشرون تقارير مهمة كل سبع سنوات لتقييم موقف العلم من تغيُّر المناخ. وقد كانت هذه الهيئة كمنارة وسط العاصفة المناخية، وإن كان ضوءُها لا ينبعث إلا كل سبع سنوات.
تسلمت جائزة الجمعية المَلَكية عن كتاب «ست درجات» في السادس عشر من يونيو عام ٢٠٠٨. وطوال مراسم الاحتفالية كنت أشعر بأنني إما سأستيقظ من الحلم أو سيُخبرني أحدهم بأن ثمة خطأً قد وقع، وأن كتابًا آخر قد فاز بالجائزة في النهاية (يقال لي إن هذا شعور مألوف للغاية). ولكن بعد مرور ثلاثة أيام فقط على نيل الجائزة، بينما كان من المفترض أن أنعم بنشوة الاستحسان الذي نِلتُه من أرقى مؤسسة علمية في المملكة المتحدة، وجدت نفسي في مرمى الانتقادات وأني أُوصف بأنني منافق.
«إذا وقع خطأ ما في كائن متحوِّر جِينيًّا، سيتسبب هذا في ظهور فئة جديدة بالكامل من المخاطر. ستمتزج أشكال التلوُّث التقليدي — سواء تلك الخاصة بسموم؛ مثل مبيد الحشرات «دي دي تي» أو النفايات المُشِعَّة — وفي النهاية تنتشر أو تتحلَّل في البيئة. ومن ناحية أخرى، فإن التلوث الجيني ذاتي التضاعُف؛ لأنه موجود بداخل الكائنات الحية؛ وبمجرد أن يتحرر، لا يمكن استرجاعه أبدًا، وربما لا يمكن السيطرة عليه أبدًا مع تفشِّي وتكاثر الحشائش المقاومة للمبيدات، أو البكتيريا أو الفيروسات المعدلة وراثيًّا. أنا هنا لا أؤلف قصصًا مرعبة؛ فهناك الآن حالات لا حصر لها مسجلة دوليًّا؛ حيث بدأت المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا تكتسح الحقول التي يُفترض أنها عُضوية أو خالية من التعديل الوراثي.»
«يشارك لايناس، بقصد أو دون قصد، في إشاعة الخوف من تقنية التعديل الوراثي التي نجحت في جعل الحركة الأوروبية المناهضة للتعديل الوراثي مثارَ سخرية العلماء في مختلف أنحاء العالم. يرفض لايناس الاعتراف بأن الجِين (والبروتين الذي يُشفره) هو ببساطة كما هو ويؤدي الوظيفة المنوط بها. ولا توجد هالة خبيثة تحيط به كما لو أنه اكتُشِف بمحض الصدفة في البداية داخل فيروس ما ثم انْدَسَّ في جينوم البطاطس. الشيء الوحيد المهم هو الكيمياء الحيوية المُعدلة للبطاطس، التي قد تكون حميدة تمامًا (وهي كذلك في الحياة الواقعية عادةً). والإشارة ضمنيًّا إلى غير ذلك ما هو إلا أوهام باطنية رخيصة وخرافة محضة.»
لذا قرَّرت أن أسلك الطريق الآمن والموثوق المتمثِّل في العودة إلى الإجماع العلمي السائد، من خلال الاستشهاد بالتصريحات الصادرة عن هيئاتٍ؛ مثل الجمعية الملكية أو الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، بهدف دعم حُجتي. ولكن مرة أخرى، لم أجد في هذه المصادر أي شيء يقول إن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا ذات ضرر خاص. في الواقع، بدت جميع المؤسسات الأكاديمية المرموقة التي بحثت خلالها حريصة على قول العكس؛ أي إن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا آمنة على الأرجح. ووجدت هذا مُربِكًا. أتذكر أنني جلست في مقعدي وشعرت بسخونة مزعجة تجتاحني فجأة. بدا الأمر كما لو أن رؤيتي عن العالم قد أصابها صَدعًا، ولم أكن أعلم ماذا سأجد على الجانب الآخر من هذا الصدع. بالتأكيد كان الأمر مُقلِقًا للغاية أن أجد أن العلماء الحقيقيين — فضلًا عن المجتمع العلمي بوجه عام — على الجانب المضاد لي في هذه القضية. ولكن حتى وإن كان الأمر كذلك، فقد أثار ذلك المزيد من الأسئلة الصعبة. هل من الممكن حقًّا ألا تكون منظمة السلام الأخضر وحدها، بل والحركة المعنية بالبيئة بأكملها وبالتأكيد صفوة المجتمع الليبرالي التقدُّمي أيضًا، قد أخطئوا تمامًا في فهم قضية الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا؟ أدركت أن مجرد التفكير في احتمالية ذلك يعني المخاطرة بأن أصبح منبوذًا داخل الحركة البيئية، وكان هذا من شأنه أن يؤثر بالتأكيد على صداقاتي أيضًا. على الجانب الآخر، إذا واصلت التعبير عن معارضتي للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا التي لا يدعمها المجتمع العلمي، فلا يمكن أن أظل أعتبر نفسي مُدافعًا عن العلم. وهكذا أصبحت بين خيارين: إما أن أخون أصدقائي، أو أن أخون ضميري. أيُّهما سيقع عليه الاختيار؟
قررت أن ألتزم الصمت في الوقت الراهن. ولكن بعد مرور عام أو نحو ذلك أُرسل لي كتاب ألفه الأمريكي ستيوارت براند، الخبير البيئي المخضرم. حقق براند شهرة واسعة في أواخر الستينيات باعتباره مؤسس مجلة «هول إيرث كتالوج» (وتعني «الدليل الكامل للأرض»)، التي كانت قراءتُها آنذاك إلزامًا لأي شخص ينتمي إلى جماعات الهيبيز المؤيدة لفكرة العودة إلى الأرض. كان عنوان كتابه يعتمد على اللعب على اسم المجلة نفسها؛ إذ حمل عنوان: «النظام الكامل للأرض». زعم الكتاب أن المدافعين عن قضايا البيئة من أمثالنا ارتكبوا عدة أخطاء جوهرية على مدى السنين، من بينها معارضة الهندسة الوراثية. ويبدأ الفصل الخامس، بعنوان «الجينات الخضراء»، بهذه العبارة الصادمة: «أستطيع القول إن الحركة البيئية قد ألحقت ضررًا بمعارضتها للهندسة الوراثية أكثر من أي شيء آخر كنا مخطئين بشأنه.» كان تأثير قراءة هذه العبارة مُدمرًا على نحو مثير، لا سيما أنها صادرة من شخص أمضى حياته كلها قائدًا للفكر المعنِي بالبيئة. ونظرًا لجرأة كتابه الشديدة التي لا يمكن إنكارها، قررت أن أغامر بإظهار بعض الدعم والتشجيع في أحد مقالاتي.
لا أعرف ماذا كنت أتوقع، ولكن جاء الصمت كرد فعل مطَمْئن. قضيت العامين التاليين في المكتبة أنقب في المطبوعات العلمية لإتمام البحث اللازم لتأليف كتابي التالي، بعنوان «سلالة الرب»، الذي نُشر بعد عام. وعلى الرغم من أن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا لم تشغل إلا جزءًا صغيرًا مما كتبت في النهاية، اكتشفت أن العلماء يتحدثون في الغالب عن فوائد الهندسة الوراثية، لا أضرارها. وتبين لي أن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا كانت تحد من استخدام المواد الكيميائية، بدلًا من أن تزيدها، على عكس ما كنت أظن في السابق. وبدا أيضًا أن ثمة طُرُقًا قد تستطيع من خلالها الهندسة الوراثية الحد من استخدام الأسمدة الصناعية؛ بل والمساعدة في التعامل مع تغيُّر المناخ. كتبت بضع صفحات عن هذه القضية، ولكن ظلت لُغتي متشككة بعض الشيء.
في النهاية، كانت مسألة الإجماع العلمي هي التي أجبرتني على اتخاذ موقف واضح وصريح. ففي عام ٢٠٠٦، نشر مجلس إدارة الجمعية الأمريكية لتقدُّم العلوم بيانًا شديد اللهجة بشأن تغير المناخ. وجاء فيه: «الدليل العلمي واضح؛ المناخ العالمي يتغير الآن بسبب الأنشطة البشرية، وهو ما يمثل تهديدًا متزايدًا للمجتمع». لم يكن هناك مجال للغموض هنا؛ فاللغة العلمية المستخدمة كانت أوضح ما يكون. وفي أكتوبر من عام ٢٠١٢، أصدر مجلس إدارة الجمعية الأمريكية بيانًا صيغ بنفس القدر من الحِدَّة على شاكلة البيان السابق، ولكن هذه المرة كان بشأن سلامة الأغذية المُعدَّلة جِينيًّا. كان البيان بلغة مماثلة وبحدة مساوية للبيان السابق بشأن تغيُّر المناخ، وجاء فيه: «القول الفصل للعلم: تحسين جودة المحاصيل الزراعية من خلال التقنيات الجُزيئية الحديثة آمن». كما أشارت الجمعية الأمريكية إلى الإجماع العلمي الأوسع نطاقًا بين المؤسسات المتخصصة الأخرى. «لقد توصَّلَت منظمة الصحة العالمية، والجمعية الطبية الأمريكية، والأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، والجمعية الملكية البريطانية، وجميع المنظمات المرموقة الأخرى التي عاينت الأدلة إلى النتيجة نفسها: استهلاك الأغذية التي تحتوي على مكونات مُشتَقة من المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا لا يشكل خطورة أكبر من خطورة استهلاك الأطعمة نفسها التي تحتوي على مكونات من نباتات المحاصيل المُعدَّلة بالتقنيات التقليدية لتحسين جودة النباتات.»
وهكذا بات الأمر واضحًا وضوح الشمس. لم أستطع إنكار الإجماع العلمي بشأن الكائنات الحية المعدَّلة وراثيًّا والإصرار في الوقت نفسه على التأييد التام للإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، ومع ذلك ما زلت أعتبر نفسي كاتبًا علميًّا. فبعد قراءة رأي الجمعية الأمريكية لتقدُّم العلوم شعرت بضرورة إصدار بيان أقوى، حتى ولو على سبيل إراحة ضميري. وواتَتْني الفرصة للقيام بذلك بعد مرور بضعة أشهر فقط. وعلى الرغم من أنني لم أتوقع أن يكون له تأثير كبير، فقد انتهى به الأمر ليشكل نقطة تحوُّل حاسمة في حياتي.
•••
كان ذلك في الثالث من يناير عام ٢٠١٣، حين اعتليت منصة المتحدثين في مؤتمر أُكسفورد للزراعة استعدادًا لإلقاء خطبة أمام عدة مئات من المزارعين والساسة ومراسلي وسائل الإعلام. كان المؤتمر منعقدًا في قاعات المؤتمرات الخاصة بجامعة أُكسفورد، وهي تحفة فنية قُوطية الطراز شُيِّدت في أواخر العصر الفيكتوري، ذات أسقف عالية منقوشة وتصميمات داخلية مُذَهبة. كنت أرتدي بذلة وربطة عُنُق، وأمسك نسخة مطبوعة من خطبتي المكتوبة في خمسة آلاف كلمة. كنت متوترًا أكثر من المعتاد؛ إذ ساورني شعور فطري بأن هذه اللحظة هي لحظة اتخاذ قرار شخصي حاسم لا رجعة فيه، شيء لا يمكن التراجع عنه تنامى بداخلي على مدى السنين ولن أتمَكَّن من النكوص عنه. كتبت الخطبة كلمة بكلمة، وجزء من السبب في ذلك يعود إلى أنني كنت قلقًا من أنني لن أملك الشجاعة للمُضي قُدمًا فيها إلا على هذا النحو. لم أكن بالطبع أهم المتحدثين في هذا المؤتمر؛ فهناك كبار الوزراء والأمير تشارلز (الذي تحدث عبر خطاب مُسجل فيديو) على رأس قائمة المتحدثين، ومن أجلِهم جاءت وسائل الإعلام، لا من أجلي أنا.
لو كنتُ أعلم أن الخطبة ستحقق مشاهدة على نطاق واسع كما تبيَّن بعد ذلك، لأوليتها اهتمامًا أكبر من ذلك. فقد كتبتها في عجالة، وكانت تحوي بعض العبارات المبالغ فيها والتصريحات المستفِزَّة بغير داعٍ. ومن حسن الحظ أن أغلب هذه الأشياء قد أُغفلت وتُغوضِي عنه. كان أبرز جزء في الخطبة هو بدايتها بالنسبة إلى أغلب الناس.
«السيدات والسادة والحضور الكرام. أودُّ أن أبدأ كلمتي ببعض الاعتذارات. وعلى سبيل التوثيق، حاليًّا ومستقبلًا، أَعتذرُ عن قضاء سنوات عدة في اقتلاع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. كما أعتذر عن مساهمتي في تدشين الحركة المناهضة للتعديل الوراثي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومن ثَم مساهمتي في تشويه سُمعة خيارٍ تقني مهم يمكن أن يعود بالنفع على البيئة. وباعتباري من أنصار البيئة، وشخصًا يؤمن بأن كل فرد في هذا العالم له الحق في اتباع نظام غذائي صحي ومغذٍّ من اختياره، ما كان لي أن أختار مسارًا ذا نتائج عكسية أكثر من ذلك. وأنا الآن نادمٌ تمامًا على ذلك.»
قضيت بقية المحاضرة أحاول تفسير كيف تغير رأيي، وأسرد بعض الأسباب المفسرة لفهمي الخاطئ تمامًا للموضوع. في النهاية، استقبلت الأسئلة وعُدْت إلى مقعدي. ثم رفعت نص خطبتي على مدونتي من حاسوبي المحمول، ونشرت بضع تغريدات، وتابعت بقية المؤتمر، وشعرت بالارتياح حين انتهى.
غير أنه بحلول المساء، أدركت أن ثمة شيئًا استثنائيًّا يحدث. لقد بدأت خطبتي تنتشر على نطاق واسع. وصارت زيارات الموقع الإلكتروني لمدونتي في تزايد جنوني. وبحلول اليوم التالي، حدث عطل في خادم الشبكة وانقطع اتصال المدونة بشبكة الإنترنت بسبب تجاوز الحد المسموح للنطاق الترددي الخاص بي؛ لقد صارت نسبة زوار الموقع ساحقة. وبدأ الفيديو الخاص بالخطبة، الذي نشره مؤتمر أُكسفورد للزراعة على موقع فيميو يحصد عشرات الآلاف من المشاهدات. وعندما عاد اتصال موقعي الإلكتروني بشبكة الإنترنت مرة أخرى، وصلَتْ عدد مرات تنزيل نص الخطبة إلى أكثر من نصف مليون مرة. وعندما عدت إلى المنزل، راقبت في ذهول انتشاره على شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم على اختلاف المناطق الزمنية. كما رأيت أيضًا تزايد تغطية وسائل الإعلام الرئيسية.
وخلال الأيام القليلة التالية، توالت أيضًا ردود أفعال سلبية. وجاء أحد المقالات الذي انتشر على نطاق واسع يحمل عنوانًا مشئومًا: «فضح القصة الحقيقية وراء تحوُّل مارك لايناس من صحفي مَعنِي بتغيُّر المناخ إلى مناصر للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا.» ومن المثير للاهتمام أن كاتبَي هذا المقال — كلاهما ينتمي إلى رابطة مستهلكي الأغذية العضوية ومقرها بالولايات المتحدة الأمريكية — ظنَّا، فيما يبدو، أن خُطبتي هذه كانت لحظة فارقة. فقد كتبا في تذمُّر يقولان: «تدافع مراسلو وسائل الإعلام الرئيسية ليفضحوا القصة». «فجأة صارت «خطبة تحول» مارك لايناس خبرًا رئيسيًّا في وسائل الإعلام. فقد كتبت مجلة «نيويوركر»: «تحول مناصر قضايا البيئة». وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز»: «تحول صادم لخَصمٍ سابق للمحاصيل المُعدَّلة بالهندسة الوراثية» … الصحافة تحتفي بتراجع لايناس عن موقفه».
وهنا يأتي السؤال المهم. ما الذي كنت أسعى للقيام به بحق الجحيم؟ «كيف صار صحفي، مشهور بكتاباته عن تغير المناخ، مناصرًا شغوفًا ومتحدثًا رسميًّا باسم صناعة التكنولوجيا الحيوية؟ بل صار نجمًا إعلاميًّا صاعدًا في خضم كل هذا؟ هل لايناس مجرد مروج بارع لنفسه على استعداد لقول أي شيء لجذب الأنظار؟ أم باع نفسه إلى صناعة التكنولوجيا الحيوية؟» أيهما أصح؟
على الرغم من أنه ليس من السهل تذكُّر رسائل البريد الإلكتروني، لسبب ما، أتذكر أنه كان ثمة الكثير من الرسائل الداعمة أيضًا: شعرت بالامتنان لأن أناسًا من مختلف أنحاء العالم عرضوا ترجمة خطبتي إلى لغاتهم. وفي النهاية ترجمها هؤلاء المتطوعون، الذين لم ألتقِ بأي منهم، إلى اللغات الصينية والإيطالية والألمانية والإسبانية والفرنسية والفيتنامية والسلوفاكية والبرتغالية.
•••
سارت بقية المقابلة على المنوال نفسه إلى حد كبير. فحين كنت أحاول تدبر ردود عقلانية، كان ساكر يغتنم الفرصة ليُحوِّل كل رد منها إلى اعتراف. وعند نقطة معينة قال ببراءة مصطنعة وهو يعبث بقلمه بالأسلوب الترهيبي للمُدَّعين العموميين: «إذن من الإنصاف أن نقول إن هذا الأمر قد دمَّر مصداقيتك الشخصية تمامًا.» ودفعني هذا إلى الاعتراف بأنني «لست فخورًا» بأنني كنت جزءًا من حملة «أحدثَتْ ضرارًا حقيقيًّا». رد بإصرار: «أنت تشعر بالخجل حيال النهج الذي اتبعته برُمَّته، وافتقارك التام إلى دقة التفكير.» قلت مكررًا مرة أخرى: إنني قد اعتذرت بالفعل عن إتلاف المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا وعن «المساهمة في إنشاء هذه الحركة»، متخيرًا كلماتي بحرص بالغ هذه المرة. واصل ساكر هجومه ليوجه لي الضربة القاضية. «وإذا كنت في الماضي قد أخطأت إلى هذا الحد، وكنت منعَدِمَ الكفاءة وضحل التفكير على هذا النحو، فلماذا ينبغي أن نصدق أنك صرت مختلفًا الآن؟» لم يسَعْني سوى التفكير في رد واحد على ذلك. قلت بغير اكتراث: «هذا سبب أدعى لتغيير رأيي.»
•••
إذا بدا لك كل هذا ضربًا من الخيال الحالم بالنسبة إلى العلم، فدعني أضرب مثالًا مستمدًّا من تجربة شخصية؛ حيث حدث هذا فعلًا على أرض الواقع، في تجربة أحاطت بها مخاطر عالية بخصوص موضوع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا تحديدًا، وتخللتها مخاطرة كبيرة بالنسبة إلى سُمعة الأطراف المشاركة فيها؛ سواء العلماء أو المؤسسة العلمية. اعتبرت هذه التجربة مُهمَّة؛ كون القائمين عليها علماء من مركز أبحاث روتمستد، وهو مركز لعلوم النباتات مُمَوَّل من القطاع العام، ومَقرُّه بلدة هاربندن في جنوب إنجلترا. ففي أوائل عام ٢٠١٢، أجرى المركز تجربة ميدانية في الهواء الطلق على قمح مُعدَّل وراثيًّا (كانت الأولى من نوعها في المملكة المتحدة لسنوات)، حيث بُذِرت بذوره خلف سور عالٍ، وخضعت للحراسة على مدار الأربع والعشرين ساعة لحمايتها. كان الهدف من البحث هو اختبار فرضية أن القمح المزوَّد بجينٍ إضافي للتعبير عن فيرمون مقاومة حشرة المَنِّ من شأنه أن يتصدى لهذه الحشرات، مما يقلل الحاجة إلى المبيدات الكيميائية. كانت المخاطر عالية؛ لأن مجموعة من المتظاهرين المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا تعهدوا بتدمير موقع التجربة قبل أن تُسفِر التجربة عن أي نتائج. وردًّا على هذا، أصدر العلماء دعوةً حماسية عبر فيديو على موقع اليوتيوب، وتوجهوا إلى وسائل الإعلام للدفاع عن قضيتهم المتمثِّلة في السماح بالمُضي قُدمًا في إجراء تجربة القمح الذي من المحتمل أن يُقلِّل استخدام الكيماويات. وقد لعبت دورًا صغيرًا في مساعدة فريق الباحثين في مركز روتمستد، من خلف الكواليس، بتشجيعهم على التحلِّي بالثقة وترك المختبر والتحدث إلى الجمهور بصدق عن تجربتهم.
«لقد طوَّرنا هذه السلالة الجديدة من القمح التي لا تتطلب المعالجة بمُبيد للحشرات، وتستعين بمادة طبيعية طاردة للمَنِّ توجد بالفعل في الطبيعة على نطاق واسع، وينتجها أكثر من ٤٠٠ نوع مختلف من أنواع النباتات. لقد صمَّمنا هذا في جينوم القمح بحيث يستطيع القمح أن يقوم بالشيء نفسه ويحمي نفسه. هل أنتم حقًّا ضد هذا؟ لأن هذا من شأنه أن يعود بنفع كبير على البيئة. أم أنكم تعارضونه لمجرد أنه معدَّل وراثيًّا؟»
أظن أن المفارقة الأطرف في القصة كلها أن تجربة روتمستيد على القمح آلت إلى إثبات أن النشطاء على حق والعلماء مخطئون. ولكن لم يحدث هذا من خلال الادعاءات الأيديولوجية؛ وإنما من خلال الأدلة التجريبية الدقيقة. ولا يمكن تخيُّل مثال أدقَّ من هذا على أولوية اتباع المنهج العلمي.