أفريقيا: معضلة الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا والأغذية العضوية
كنَّا في أوائل شهر أغسطس من عام ٢٠١٣، بعد مرور بضعة أشهر فقط على خطبة الاعتذار عن موقفي المناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا التي ألقيتُها في مؤتمر أكسفورد. كنت أهتز وأرتَجُّ عبر طريق ساحلي مليء بالحفر داخل سيارة متربة بصحبة دكتور جوزيف اندونجورو، وهو عالم مُختَص في فيروسات النبات وواحد من أكثر العلماء احترامًا في تنزانيا. كان د. اندونجورو قد أراني في وقت سابق المختبرات والصوبات الزراعية التي يعمل فيها، الواقعة على أطراف مدينة دار السلام، أما الآن فأراد أن يوضح السياق الحقيقي لجهوده. أخبرني بأن تنزانيا كانت في بؤرة جائحة فيروسية مُدمِّرة، لا تَمَسُّ البشر مباشرةً، وإنما تدمر الغذاء الرئيسي للمواطنين في ريف تنزانيا؛ وهو محصول يُسمَّى كاسافا.
يتمتع نبات الكاسافا — ويُعرف أيضًا باسم تابيوكا أو منيهوت — بحَفنة من الدرنات الطويلة توجد على عمق تحت الأرض، بالإضافة إلى شُجيرة كثيفة فوق الأرض، وأوراق خضراء على شكل سبعة أصابع تنبثق من الجذوع الخشبية. يُعد نبات الكاسافا، بوصفه مصدرًا للكربوهيدرات، من أهم المحاصيل في مختلف البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. وهو نبات شديد التحمُّل ومقاوِم للجفاف، ينمو في أي مكان تقريبًا بالتربة الجدباء وبأقل قدر من السماد والماء. وفي فترات الجفاف، يمكن ترك الجذور في التربة، أو اقتلاعها وتجفيفها لاستخدامها في المستقبل. يُعَد نبات الكاسافا محصول كفافٍ حقيقي؛ إذ يمكن الاعتماد عليه ليعين الأُسر على اجتياز أوقات الشدة عندما تختفي المصادر الأخرى للغذاء. فإذا فشل محصول الكاسافا أيضًا، كما كان يحدث في ذلك الوقت، فلن يجد الكثير من التنزانيين، الذين يعيشون على الكفاف، شيئًا يسدُّون به جوعهم. وهذا ما أراد د. اندونجورو أن يريني إياه.
دعاني د. اندونجورو لأقترب. كان يتفحص مجموعة من شجيرات الكاسافا هزيلة الشكل إلى حدٍّ ما. وعندما قلب أوراقها، لاحظت أنها في طريقها للاصفرار وذابلة، مما يدل على أن النباتات تعاني حالة مرضية. أوضح اندونجورو أن الأعراض التي ظهرت على النبات هي أعراض الإصابة بفيروس تبرقش الكاسافا وفيروس تبقع الكاسافا بخطوط بنية، اللذين يميلان لمهاجمة النباتات معًا على نحو مميت. انتزع أحد النباتات وشق الجذر بمطواة. كانت مبرقشة بأجزاء بنية عفنة. من الواضح أنه سيتبقى القليل لحصاده من هذا المحصول. اقترب منَّا مزارع على وجهه كآبة، يرتدي صدارًا أحمر قذرًا وسروالًا بنيًّا ممزقًا. طلب منه اندونجورو أن يوضِّح مقدار الطعام المتبقي لأسرته. فدخل إلى كوخ قريب وعاد مرة أخرى ومعه طبق بلاستيكي أزرق وضع فيه بضع قطع من الكاسافا المجففة. كان هذا كل ما لديه من طعام.
كان هذا المزارع هو رمضان عيسى، البالغ من العمر ٣٥ عامًا، ولكني رأيته أكبر من سنه بكثير. كان لديه ثلاثة أطفال، هكذا أخبرني بلغته السواحلية التي ترجمها لي أحد زملائنا من العلماء. كان أكبرهم في التاسعة من عمره، وأوسطهم في السادسة من عمره وأصغرهم يبلغ عامين فقط. كان جميعهم يتناولون وجبة واحدة صغيرة في اليوم مكونة من الكاسافا فقط، وأحيانًا دقيق الذُّرة الذي يبتاعونه من السوق. سألته عن موقف محصول الكاسافا الذي يزرعه في أرضه التي تبلغ مساحتها فدانًا ونصف الفدان فقط. فأجاب قائلًا: «لا ننتظر حصاد الكثير.» لم يكُن متأكدًا ما إذا كان السبب هو الجفاف أم المرض؛ ولكن في كلتا الحالتين كان المحصول في طريقه للتَّلف. قال لي إنه إذا اقتلع المزرعة بأكملها، قد يتوقع جمع جوال واحد من نبات الكاسافا. وكان هذا يعادل نحو ١٠٠ كيلوجرام تكفي لإعاشة الأسرة لأشهر. وفي موسم حصاد طبيعي، ربما يتوقعون حصاد خمس أجولة، أو ما يعادل نصف طن. إذن، ماذا سيفعلون؟ رد قائلًا: «سننتظر سقوط الأمطار ونزرع من جديد.» كان هذا كل ما في وسعهم القيام به.
أخبرني عيسى كيف تبدو حياته أثناء تلك الفترات العصيبة. «تشعر بالجوع وتعجز عن العمل، وبذلك لا تستطيع كسب أي أموال لشراء طعام من السوق.» وقال إن الأسرة بأكملها تعاني الآن من مشاكل صحية متعلقة بسوء التغذية، لا سيما الأطفال ووالديه المسنَّين، اللذين يعيشان مع الأسرة أيضًا ويعتمدان كذلك على ما يستطيع عيسى أن يزرعه ويحصده. كان واضحًا أنه لا يوجد أي فرصة أمام أي فرد من الأسرة للحصول على غذاء متوازن في هذه الحالة. كان تركيزه ينصَبُّ فقط على اجتياز كل يوم بيومه. وأخبرني بأن حصة الإعاشة اليومية قد انخفضت إلى قطعتين صغيرتين من الكاسافا لكل فرد، ما يعادل نصف ثمرة بطاطس.
سرنا إلى المنزل التالي، حيث وقفت امرأة ترتدي قميصًا أبيض بلا أكمام مع أطفالها الثلاثة. أخبرتني بأنها تُدعى جريس رحيمة، أم لثلاثة أطفال تبلغ من العمر ٢٥ عامًا. جعلتهم يصطفون لألتقط لهم صورة فوتوغرافية، وهم يقفون أمام نباتات الكاسافا، المنكمِش المُصاب بالفيروس، الذي من المفترض أن يعتمدوا عليه. ما مقدار الطعام الذي كانوا يملكونه؟ لا يملكون الكثير؛ بقايا جوال من دقيق ذُرة. وأخبرتني أنها لا يوجد لديها كاسافا حتى. من أين ستأتي بالوجبة التالية بعد ذلك؟ لم تكن تعرف الإجابة.
تمثل مشروع د. اندونجورو في زراعة نبات الكاسافا المُعدَّل وراثيًّا بجينات مصمَّمة لجعلها مقاوِمة لهذا النوع من الفيروسات المدمرة. وقد رأيت بالفعل بعض التجارب الناجحة لمحصول الكاسافا المقاوم للفيروسات في دولة أوغندا المجاورة؛ فكانت النباتات هناك تبدو خضراء وسليمة، خصوصًا عند مقارنتها بالكاسافا الذابلة والمصابة بالفيروسات المزروعة في هذا الجزء من تنزانيا. ولكن، من الناحية الواقعية، حتى وإن أثبتت الكاسافا، التي يزرعها د. اندونجورو، نجاحًا في المختبر، كانت الفرصة محدودة أن يُسمح لمزارعين مثل رمضان عيسى وجريس رحيمة بزراعتها. فقد كان لدى تنزانيا — المتأثرة بشدة بالتوجُّهات الأوروبية — قوانين صارمة ضد الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا حظرت على علماء مثل د. اندونجورو تجربة محاصيلهم المقاوِمة للأمراض في الحقول، فضلًا عن مشاركتها مع المزارعين المُعدمين.
•••
في اليوم التالي، قضيتُ ثماني ساعات مرهقة على الطريق، متجهًا غرب البلاد إلى العاصمة دودوما، مركز الحكومة التنزانية. وعند كل محطة مكتظة بالذباب، حيث اعتادت الحافلات الصغيرة المحملة بالسكان المحليين الوقوف لتحميل الركاب، كان الأطفال الذين يعرضون الفول السوداني والموز يُروِّجون لبضاعتهم. وجلست النساء القرفصاء على جانب الطريق يَبِعْنَ ثمار البطيخ أو الخضراوات، إلا أنه في هذا الجزء القاحل من البلاد لم أرَ شيئًا من التنوع الغذائي كالذي رأيته في أوغندا وغيرها من المناطق الأكثر خصوبة في أفريقيا. كان الفقر مُتفشِّيًا؛ فبعد حلول الظلام لم يكن هناك أي أثر لضوء كهربائي منبعث من المنازل التي أعرف أنها تصطف على جانبي الطريق والمناطق المحيطة. وبين الحين والآخر، تسلِّط المصابيح الأمامية لسيارتنا أضواءها على أطفال يرتدون عادةً زي قبائل الماساي المُزدان بالألوان، حاجِبِين أعينهم بأيديهم لحمايتها من وهج أضواء السيارات المارة أثناء رعيهم للماعز والأغنام على جانبي الطريق.
خارج حدود إقليم دودوما، التي رغم أنها العاصمة الإدارية لتنزانيا، فإنها تحتفظ بطابع التخوم المغبرة، كانت توجد محطة أبحاث زراعية؛ حيث كان علماء النبات التابعون للحكومة يجهزون الأرض من أجل «تجربة ميدانية محدودة» لزراعة محاصيل مُعدلة وراثيًّا وكانوا متفائلين بالنتائج. زرتها في صباح اليوم التالي، وصافحت المدير وشاركت في الرسميات الأخرى قبل التقاط الصورة الجماعية الإجبارية على درجات السُّلَّم الخارجي تحت شمس أفريقيا اللافِحَة بلا هوادة. وخلال بضع دقائق معدودة، جلست على مقعد خشبي في إحدى غرف الاجتماعات مع د. جوزيف اندونجورو واثنين آخرَين من العلماء البارزين، هما د. ألويس كولايا ود. نيكولاس نيانج، في محاولة مني لفهم الوضع في البلاد على نحو أفضل.
حان دور د. اندونجورو ليتحدث. فأخبرني أن أداء نبات الكاسافا المقاوِم للآفات الذي زرعه في المعمل كان يُبلي بلاءً حسنًا بالفعل. إذن، كم من الوقت سيستغرق حتى يتسنَّى توفيره ليستفيد منه مزارعون مثل رمضان عيسى وجريس رحيمة؟ في غضون بضع سنين، هكذا أجاب اندونجورو. غير أنه كان يواجه المشكلة نفسها التي واجهت علماء الذُّرة أثناء محاولة تطوير ذُرة مقاوِمة للجفاف. فقد اشتكى من أن «بند المسئولية القانونية الصارمة يفرض قيودًا أيضًا على أبحاثنا؛ لأننا بحاجة إلى إخراج تلك التكنولوجيا من المعامل واختبارها في إطار تجربة ميدانية محدودة وتسويقها تجاريًّا في النهاية.» ولم يكن من الممكن أن يتحقق هذا أبدًا في ظل هذا النظام القانوني القائم على الحظر، الذي كان يتعامل مع المحاصيل الصحية الخالية من الفيروسات بوصفها تهديدًا يمَسُّ «السلامة الأحيائية» مثلما قد تتعامل مع برنامج الحرب الجرثومية. وشعر العلماء بالحيرة والارتباك نظرًا لعدم اعتيادهم خوض معاركَ سياسية.
في تلك الأثناء، قيل لي إن الجماعات المناهضة للكائنات المُعدلة وراثيًّا كانت تهيمن على الحوار الوطني. ففي اليوم السابق مباشرة، نشرت إحدى الصحف مقالًا باللغة السواحلية كتبه أحد المعارضين للهندسة الوراثية، محذرًا المزارعين من زراعة المحاصيل المعدلة وراثيًّا بسبب العواقب الوخيمة التي ستترتب عليها بالضرورة على حد قوله. تزخر مثل هذه المقالات عادةً بمعلومات خاطئة، على حد شكوى دكتور نيكولاس نيانج، وهو عالم يعمل لصالح لجنة العلوم والتكنولوجيا التابعة للحكومة التنزانية ومسئول عن تشجيع المشروعات العلمية على مستوى البلاد. كانت الأموال تتدفق إلى تنزانيا من الدول الغنية، ولكنها لم تكن موجهة لدعم المزارعين للحصول على المحاصيل المُعدَّلة. وإنما كانت موجهة للجماعات التي تدعم فقط الزراعة العضوية والزراعة «البديلة» القائمة على علم البيئة الزراعي من النوعية الرائجة الآن في أوروبا وبين الكثير من الجهات المتبرعة. كانت المنظمات غير الحكومية المتلقية لهذه الأموال، التي ذكر منها إدارة استغلال الأراضي البيئية التشاركية وحركة الزراعة العضوية بتنزانيا، «تتعاون مع المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة والمزارعين الفقراء، لتشجيعهم على استخدام البذور المخزنة والبذور التي يخزنها المزارعون والبذور التقليدية».
حسنًا، وما الخطأ في ذلك؟ كان هذا سؤالي له. يتفق الجميع بالتأكيد على أن فكرة قيام المزارعين بتخزين البذور هي فكرة سديدة، أليس كذلك؟ أجل، ثم استطرد دكتور نيانج قائلًا: «ولكن كيف يمكنك أن تدعمها إذا كانت بذورًا ذات إنتاجية هزيلة؟ كيف يمكنك أن تدعم البذور التقليدية في ظل علمك بتدني مستوى إنتاجيتها؟» إن البذور التقليدية القليلة الإنتاجية، بحسب ما قاله، تجعل المزارعين محاصرين داخل دائرة من الكفاف؛ إذ تنتج بالكاد محصولًا يكفي طوال العام. وعوضًا عن ذلك، على حد قوله: «كانت النتيجة إمدادات غذائية غير كافية، وانعدامًا للأمن الغذائي في البلاد. نريد من المزارعين أن يتغيروا بحيث يمكنهم أن يزرعوا بأنفسهم وأن يكون لديهم ما يكفي من الإنتاج لبيعه والحصول على دخل من ذلك. نحن نريد أن يكون النشاط الزراعي أكثر رِبحية بكثير لمزارعينا … بحيث يتوفر لديهم كمية كافية من الغذاء، ويتسنَّى لهم كذلك بيعه وكسب دخل يُمكِّنهم من إلحاق أبنائهم بالمدارس، ويوفر لهم خدمات صحية أفضل، ويمكنهم الحصول على كل ما نريده».
ولكن ما السبب؟ هل ربما لأن المزارعين كانوا يفضلون أنماط الحياة التقليدية، والمنظمات غير الحكومية كانت محقة في الدفاع عنهم؟ رد نيانج بحماس قائلًا: «لا يوجد مزارع يريد أن يظل فقيرًا!» وأكد أن بذور الذُّرة الهجينة التقليدية، لا البذور المُعدَّلة وراثيًّا المقاوِمة للجفاف قيد التطوير كجزء من مشروع الذُّرة الموفرة للمياه، يمكن أن تحقق تحسُّنًا تدريجيًّا في الإنتاجية. «نحن نريدهم أن يكون لديهم هذا البديل المتمثل في استخدام البذور المحسنة، وتحقيق محصول أكبر، وزيادة الإنتاجية. فلا ضير من أن يحصد المزارع ٢٠ جوالًا من الذُّرة من البذور المُعدَّلة، بدلًا من حصاد خمسة أجولة من الذُّرة من البذور التقليدية.» وطمأنني نيانج بأن أنواع النباتات الأصلية التقليدية ما كانت لتضيع؛ إذ كانت تُجمَع وتُحفظ في مركز الموارد الجينية للمحاصيل التابع للحكومة، لا سيما باعتباره مصدرًا مستقبليًّا للتنوع الجيني يمكن للمزارعين الاعتماد عليه.
توقف دكتور نيانج عن الحديث برهة. ثم أكد لي أن كل ما كان يطلبه هو أنه لا ينبغي أن يعاني بعضٌ من أفقر المزارعين في العالم من تراجع المحاصيل إلى أدنى مستوًى؛ لأنهم حُرموا من اختيار زراعة المحاصيل باستخدام بذور أفضل ذات إنتاجية عالية. ينبغي أن يُمنَح المزارعون الاختيار ليقرروا بأنفسهم على أقل تقدير. بدا الأمر لي غريبًا بعض الشيء أن المنظمات غير الحكومية، المعنية ظاهريًّا بالحد من الفقر، تعارض بشدة إجراءً أساسيًّا للحد من الفقر مثل توفير نوعية أفضل من البذور للمزارعين، حتى تلك البذور غير المُعدَّلة وراثيًّا. كان يبدو أن الجماعات الناشطة لم تكُن عازمة على مناهضة استخدام الهندسة الوراثية في أفريقيا وحسب؛ وإنما عازمة أيضًا على منع إدخال أساليب الزراعة الحديثة بوجه عام، بما فيها الضروريات الأساسية مثل السماد وتقنيات مكافحة الأعشاب والبذور المُعدَّلة. وأشار د. اندونجورو إلى أن الخسائر تتزايد. فقد كانت موجات الجفاف تزداد، سواءً بسبب تغيُّر المناخ. وكانت الآفات الحشرية تجتاح المحاصيل وتنشر الأمراض. فقد انتشرت حشرة الذبابة البيضاء — الناقل الأساسي لفيروس التبقُّع البُني للكاسافا وفيروس تبرقش الكاسافا — بأعداد غير مسبوقة من قبل. وعلق اندونجورو قائلًا: «فيما يخص التبقع البني للكاسافا، أنت تتحدث عن خسائر سنوية تتراوح بين ٣٥ و٧٠ مليون دولار. أما فيما يخص تبرقش الكاسافا، فأنت تتحدث عن أربعة ملايين طن مِتري سنويًّا على مستوى البلاد. إنها خسارة فادحة. ومثل هذه المحاصيل هي أهم السلع الغذائية للأمن الغذائي بالنسبة إلينا.»
ولكن هل من الممكن أن تساعد الزراعة التقليدية، كما تُصِر الجماعات المناهضة على أنها تساعد فعلًا دون الاستعانة بالهندسة والوراثية؟ أجاب قائلًا: «لطالما حاولنا معالجة هذه المشكلات باستخدام الطرق التقليدية، ولم نُفلِح. ولذا، نود أن نستخدم تكنولوجيا [التعديل الوراثي] هذه.»
قلت متسائلًا: «وماذا عمَّن يقولون إن أفريقيا ليست مستعدة لاستخدام هذه التكنولوجيا؟»
رد اندونجورو قائلًا: «هم ليسوا أفارقة. إذن، ما البديل؟ إذا سألت هؤلاء الذين يقولون إننا غير مستعدين لاستخدامها: «ما الحل البديل حين تحصد محصولًا هزيلًا للغاية؟» لن تجد لديهم بديلًا.»
ألحَحت عليه متسائلًا: «ألا يوجد حل قائم على علم البيئة الزراعي لفيروس التبقُّع البني للكاسافا؟»
أجاب قائلًا: «كلا. لا يوجد حل. لا يوجد حل للذبول البكتيري للموز. ولا يوجد حل لنخر الذُّرة الفتَّاك [وهو مرض آخر مستجد]. ولا يوجد حل لآفات القطن.»
أدهشني التضارُب التام في وجهات النظر العالمية بين العلماء الذين تحدثت إليهم ودعاة الحملات الذين قضيت معهم سنوات طويلة من عمري وما زلت أعتبرهم أصدقاء. كان الفريق الأول يرى آفات المحاصيل الزراعية وانخفاض الإنتاجية مشكلات يجب حلها من خلال إدخال بذور وأدوات أفضل، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم. أما النشطاء فلم يكن لديهم اهتمام بمثل هذه الحلول البراجماتية، التي من المحتمل رفضُها بوصفها «حلولًا تقنية». كان لديهم رؤية مختلفة عن الزراعة، تستند إلى رفض طرق الزراعة الحديثة؛ مثل البذور الهجينة والميكنة واستخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية. غير أن هذا الإذعان للعادات والتقاليد كان يبدو محل شبهة في أفريقيا؛ حيث كان يعني تشغيل الأطفال في الحقول، وقطع النساء والفتيات أميالًا لجمع الحطب وجلب الماء بدلًا من الالتحاق بالمدرسة. وعلى الرغم من أن العلماء كانوا حريصين على لفت انتباهي إلى أنهم يُكنُّون الاحترام إلى مبادئ الزراعة الإيكولوجية التي قدمَتْها المنظمات غير الحكومية، كان لديهم شكوك واضحة في فهم تلك المنظمات المروِّجة لهذه التقنيات للتحديات المرتبطة بالحد من الفقر. وأكد دكتور كولايا لي قائلًا: «ينبغي ألا يخدعوا المزارعين بشأن قدرتهم على الإنتاج المربح وتحقيق حياة أفضل من خلال الاستعانة بالزراعة الإيكولوجية. وأنت تعلم أنني أعتقد أن هؤلاء هم من لا يعرفون ما الذي يعنيه أن تأوي إلى الفراش جائعًا.»
سألته قائلًا: «هل يعمل أي من أولئك العاملين في المنظمات غير الحكومية في زراعة الكفاف بأنفسهم؟»
أجاب قائلًا: «لا أعرف حتى إن كانوا مزارعين من الأساس أم لا. أظن أنهم أشخاص يوظَّفون بأجر. وأيًّا كان من يدفع لهم رواتبهم، أشك إن كانوا يمارسون الزراعة بأنفسهم. ومن ثَم، أظن أنه لا يليق إيهام المزارعين بأنهم يمكنهم كسب العيش من الزراعة الإيكولوجية.»
قلت مقترحًا: «لا يليق؟ كنت سأستخدم كلمة أقوى من لا يليق. كنت سأقول مستنكرًا من الناحية الأخلاقية.»
رد دكتور كولايا وهو يفكر: «حسنًا، اللغة الإنجليزية ليست لغتي الأُم؛ ولكنك صغت الأمر على نحو صحيح. هؤلاء لا يعرفون ما الذي يعنيه أن تأوي إلى الفراش جائعًا. هناك أُناس، مزارعون حيث نعمل في دودوما، لا يحصدون شيئًا تقريبًا بسبب الجفاف، بسبب الآفات. نحن نعرف أن التكنولوجيا الحيوية ليست رصاصة فضية، ولكنها جزء من الحل لما يواجهه المزارعون.»
•••
في الواقع كانت لي تجربة مباشرة جعلتني أعرف إلى أي مدى يمكن أن يتصرف النشطاء المناهضون للتعديل الوراثي على نحو مستنكر أخلاقيًّا، وكان هذا أثناء رحلتي من مدينة دار السلام إلى دودوما في اليوم السابق. توقفنا في منتصف الطريق، في مدينة موروجورو، عند فندق على جانب الطريق على حافة حديقة وطنية صغيرة تُدعى ميكومي. تتمتع المنطقة بأنها مرتفعة؛ إذ يوجد بها جبل محاط بالغابات يقف كمَعلَم بارز جنوبَي المدينة الصغيرة. كانت المدينة أيضًا تستضيف معرضًا زراعيًّا مُهمًّا، وهو ما يعني وجود عدد كبير من النشطاء المؤيدين للزراعة العضوية في المدينة لعرض أفكارهم. حضر بعضهم محاضرة عامة دُعِيت لإلقائها في إحدى قاعات المؤتمرات بالفندق، وقد ارتدَوا قُمصانًا قطنية صفراء مميزة طُبع عليها من الأمام شعار إحدى المنظمات غير الحكومية باللون الأسود.
وبينما كنت أعرض آرائي، بما مرت به من تقلبات، بخصوص قضية الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، وأجيب عن الأسئلة، وقف أحد النشطاء المؤيدين للزراعة العضوية الذين يرتدون القمصان القطنية الصفراء وقال تعليقًا باللغة السواحلية. تجمد الجميع في أماكنهم، وسَرَت عبر الغرفة ضحكة مكتومة مرتبكة. لم أتمكَّن من سؤال أحد العلماء، وهو دكتور اندونجورو، عما قاله الناشط حتى انتهت المحاضرة. فرد قائلًا: «قال إنه توجد بعض الجينات مغروسة في هذه الذُّرة [المُعدَّلة وراثيًّا] حين يأكلها أطفالنا، سيصبحون شواذ. فبدلًا من أن يتصرفوا بوصفهم ذكورًا، سيتصرفون مثل الإناث. وسيسفر هذا عن شذوذ جنسي.» ثم تنحنح مستشعرًا الحرج.
قلت: «إذن، كان تعليقًا يعبر عن الخوف من المِثلية الجنسية.»
«أجل.»
أجبته قائلًا: «لا أفهم. من أين تنشأ هذه الأفكار؟»
هزَّ اندونجورو كتفَيه. وأردف يقول باستهجان: «الناس يقولون ذلك. كما تعلم هذه المعلومات المغلوطة تنتشر كالنار في الهشيم.»
أضاف عالِم آخر قائلًا: «يقولون إنه عند تناول هذه الذُّرة، سيعاني الجيل التالي من بعض التشوُّهات الجنسية، وستعاني ذريتهم من ميول مثلية نتيجة لتناول هذه الذُّرة. وهذا أمر غريب حقًّا.» بدا كلاهما عاجزًا عن الرد على هذه الادعاءات. من الواضح أن هذه لم تكُن هي نوعية النقاشات التي اعتادا خوضها باعتبارهما عالِمَين.
•••
في جمهورية أوغندا المجاورة، كانت الأمور أسوأ من ذلك. فقد اكتشفتُ أن بعض الجمعيات الخيرية ذات الأسماء اللامعة كانت تنشر خرافات ونظريات مؤامرة حول الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، مما أدى إلى إفساد النقاش السياسي وإعاقة العملية التشريعية لسنوات. فمنذ عام ٢٠١٢ ونواب البرلمان من جميع أطياف الأحزاب السياسية الكبرى في سعي دءوب نحو تمرير تشريعات متعلِّقة بالسلامة الأحيائية لضمان إمكانية توزيع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، بمجرد تطويرها، على المزارعين، مع إجراء التجارب واتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة. وخاض دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، المنتمين إلى جمعيات خيرية مُعترف بها دوليًّا وهيئات للتنمية، معركة ضارية لعدم تعديل أو تطوير مشروع القانون الوطني المقترح بشأن التكنولوجيا الحيوية والسلامة الأحيائية، بل منع تمريره من الأساس. فقد رأوا — وهي رؤية صحيحة كما تبيَّن لاحقًا — أن هذا سيؤدي إلى حالة من الشلل الدائم ستكون ذات فاعلية في حظر استخدام الهندسة الوراثية في الزراعة بأوغندا مثل أي وسيلة حظر رسمية.
عرفتُ قدر المشقة التي فرضها هذا النقاش من أحد كبار نواب البرلمان الذي كُلِّف بالمُضي قُدمًا بمشروع القانون المقترح بصفته نائب رئيس اللجنة البرلمانية للعلوم والتكنولوجيا. وفي غرفة جانبية بمبنى البرلمان الأوغندي في وسط العاصمة كامبالا، حكى لي نائب الحزب الحاكم روبرت كافيرو سيكيتوليكو كيف أن النشطاء المنتمين إلى منظماتٍ من المفترض أنها ذات سمعة طيبة كانوا يستهدفون ناخبيه مباشرة من أجل منعه من التصويت على مشروع قانون السلامة الأحيائية. وقال لي: «إنهم الآن يثيرون العديد من المخاوف غير الضرورية؛ يمكنهم مثلًا أن يقولوا: إذا أردتَ ثمرة موز طويلة، يمكنك أن تنتقي جينًا من ثعبان وتضعه في إصبع موز حتى يصير طول إصبع الموز بنفس طول الثعبان.»
لم يسَعْني سوى الضحك. هل يأخذ الناس هذا الهراء على محمل الجد حقًّا؟ أجابني كافيرو بقوله قطعًا؛ بل إن النشطاء المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، في إحدى المناسبات، استغلوا المشاعر الدينية لتحريض الناس، لدرجة كادت تصل إلى حد العنف. «توجه أحد العلماء، بدعم من بعض النشطاء بالطبع، إلى دائرتي الانتخابية. حشدوا المسلمين، وقالوا لهم: «احذروا، سيأخذون جينًا من خنزير ويضعونه في الذُّرة، ليجعلوا الذُّرة سمينة كالخنازير!» [والمفترض أن جينات الخنازير غير طاهرة في نظر المسلمين.] وانقلب جميع الناخبين عليَّ، وقالوا لي: «أنت تنشر هذا، انظر الآن ما تجلبه لنا»!»
سألته قائلًا: «وهل شعرت فعلًا بتهديد مادِّي؟»
أجاب قائلًا: «بالطبع. شكَّل الأمر خطورة على وضعي؛ لأنه كان سيجعلني أخسر أحد الانتخابات مستقبلًا. لذا ما كان مني سوى أن انتقيت فريقًا من العلماء الذين سعوا إلى دحض ذلك أيضًا. وهكذا اتخذنا المنحى العلمي في الرد. ويبدو أن المزارعين يتفهَّمون الأمر الآن.»
قلب كافيرو الموقف لصالحه كذلك من خلال دعوة المُروِّج الأساسي لخرافة جينات الخنازير ليكرر الادعاء بعد أداء القسم أمام البرلمان. وأردف قائلًا: «عندما مثل أمام لجنتي، أدى [القسم]. وبعد تأدية القسم، أنكر كل شيء. وغَيَّرَ القصة تمامًا. إذن إذا لم يستطِع قول ذلك أمام لجنتنا تحت القسم، فلماذا يقوله في أي مكان آخر؟»
ودون أن يتهيبوا شيئًا، غَيَّرَ النشطاء المناهضون للتكنولوجيا الحيوية مسارهم، لينشروا قصصًا مُلفَّقة عبر وسائل الإعلام تتهم كافيرو وزملاءه النواب في اللجنة البرلمانية للعلوم والتكنولوجيا بتَلقِّي رشاوى تقدر ﺑ ٣٠ مليون دولار (٢٢ مليون جنيه إسترليني) من شركة مونسانتو. كما اختلقوا نظريات مؤامرة جديدة مفادُها أن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا «جاءت لتُدمر شعبنا وتقلل متوسط العمر المتوقع لدينا». ولسوء الحظ، أن بعض الوزراء وجدوا هذه الفكرة الجديدة مقنعة. أخبرني كافيرو قائلًا: «كنت أجادل أحد الأشخاص بمجلس الوزراء أمس. كان لسان حالي يقول: حسنًا، فكِّر في الأمر من الناحية العلمية. إذا قال أحدهم إن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا تقلل متوسط العمر المتوقع لدينا، فالولايات المتحدة الأمريكية هي رائدة إنتاج الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، وهي المستهلك الأساسي لها، ولكن متوسط العمر المتوقع لديها يتجاوز ٧٠ عامًا. أما نحن في أوغندا فمتوسط العمر المتوقع لدينا ٤٧ عامًا للأسف. إذن، إذا كان هؤلاء الذين يتغذون على الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يعيشون مدة أطول، فلماذا تقول إنها تستهدف قتلنا هنا؟»
وعلى الرغم من أن ماما مابيرا قد جازفت بحياتها لإنقاذ إحدى غابات أوغندا من الدمار، فإنها تتعرَّض الآن للهجوم من قبل النشطاء البيئيين بسبب تصريحها بتأييد استخدام الهندسة الوراثية في الزراعة. قالت لي: «أعتقد أن الحل في حالة انعدام الأمن الغذائي هو التكنولوجيا الحيوية؛ لأننا بحاجة إلى زيادة إنتاجية محاصيلنا، وبحاجة إلى التخلُّص من الفقر. نحن بحاجة إلى الاستعانة بالتكنولوجيا الحيوية في أرضنا لنحصُل منها على أفضل ما يمكننا الحصول عليه.» وأكَّدت أنه نظرًا لأن أوغندا تعاني من ضغط سُكاني شديد وليس لديها سوى مساحة ضئيلة من الأراضي، فإن زيادة المحاصيل كانت ضرورة حتمية أيضًا لحماية المساحات المتبقية من الغابات المطيرة، مثل غابة مابيرا، من التحوُّل إلى الزراعة مستقبلًا.
كانت تجربة أنيوار مع الحراك المناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا مشابهة لتجربة زميلها النائب البرلماني كافيرو. وقد أخبرتني عن تجربتها مع حضور أحد الاجتماعات في مدينة جولو شمالَي البلاد؛ حيث عُرضت على المزارعين صورٌ مُعدَّلة ببرنامج فوتوشوب. وصرحت بتذَمُّر قائلة: «صنعوا صورًا مفبركة، قد يحسبها الأوغندي البسيط الذي لا يجيد الكمبيوتر حقيقيةً، وأخذوا يرددون أنك إذا تناولت المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، فستنجب أطفالًا برءوس تشبه رءوس الذُّرة.» حصلتُ في وقت لاحق على نسخة من الصورة المزعجة التي ذكرتها ماما مابيرا. كانت عبارة عن صورة مركبة غريبة تعرِض رءوسَ أطفال يبدو عليهم المرض، تبرز من عرانيس الذرة بينما يحلق فوقهم أسراب من الغربان السوداء على نحو مُنذِر بالسوء في سماء مظلمة.
عندما سألت كافيرو عن أسماء هذه المنظمات، ذكر منظمة أكشن إيد، وكذلك وكالة المعونة الكاثوليكية كاريتاس، ومنظمة غير حكومية تُسمَّى فود رايت أليانس، زاعمًا أنها جميعًا تشارك في الحراك المناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. وأخبرت كلًّا من كافيرو وأنيوار أن منظمة أكشن إيد منظمةٌ خيرية ذات سمعة طيبة في المملكة المتحدة، وأنني حتى كنتُ أتبرع لها بنفسي، وكذلك آخرون أعرفهم شخصيًّا؛ لأننا نؤيد رسالتها في الحد من الفقر. أجابت أنيوار قائلة: «وماذا تفعل في الوقت الحالي، الأموال التي تجمعها تستخدمها لشن حملات ضد الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا ولإثناء المزارعين عن اعتماد التكنولوجيا الحيوية.» كانت قلِقة من أن أوروبا ربما تهدف إلى إبقاء أفريقيا بلا أمن غذائي للحفاظ على علاقات التبعية الاستعمارية القديمة، «وهو أمر غير مقبول من وجهة نظري بصفتي مواطنة أفريقية … ومطلبي أن يتوقف كلُّ من يُموِّل منظمة أكشن إيد أو المنظمات غير الحكومية الدولية ذات الصلة عن ذلك حتمًا؛ لأننا نراهم أيضًا مسئولين عن هذه الحملة.»
اكتشفتُ أيضًا دليلًا قاطعًا على تواطؤ منظمة أكشن إيد في نشر معلومات مضللة في أوغندا. جاء هذا في صورة إعلان إذاعي مُسجَّل كان يُذاع محليًّا عبر أنحاء البلاد. أعلن الصوت بلهجة أوغندية واثقة: «هذه رسالة من منظمة أكشن إيد! هل تعلمون أن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يمكن أن تسبب السرطان والعقم؟» وعدتُ النائبَين البرلمانيين كافيرو وأنيوار بأنني سأفعل أقصى ما في وسعي لفضح سلوكيات منظمة أكشن إيد في بلدها الأصلي، أي المملكة المتحدة. وبعد مرور عام عندما كشفت هيئة الإذاعة البريطانية وصحيفة «ذي إندبندنت» النقاب عن إعلان تسبُّب الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في الإصابة بالسرطان، سرعان ما تبرأ المكتب الرئيسي لمنظمة أكشن إيد في لندن من الإعلان، واعتذر عنه وتعهَّد بعدم نشر أي خرافات مماثلة مناهضة للعلم مستقبلًا. ويسعدني أن أقول إنهم ملتزمون بهذا الوعد حتى الآن.
قال مُتذمِّرًا دون الإشارة في حديثه تحديدًا إلى الشبكة الأفريقية للتنوُّع الحيوي، وإنما كان يتحدث عن المنظمات غير الحكومية بوجه عام: «يمكنك أن تراهم يقودون سيارات فارهة ويدعون لعقد المؤتمرات. وهذه المؤتمرات لا يحضرها أبدًا المزارعون أو ممثلوهم.» وكان أكثر شيئًا رآه باموتير مثيرًا للحنق للغاية هو تشغيل الراديو والاستماع إلى تقارير إخبارية عن «أن المزارعين رفضوا [الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا]، ومع ذلك لم يسبق أن تشاور أحد مع المزارعين في هذا الأمر.» هؤلاء العاملون في المنظمات غير الحكومية «يدَّعون فقط أنهم ممثلون عن المزارعين»، على حدِّ ما أخبرني به، إلا أنهم يمكن أن يكونوا ذوي تأثير بالغ. وأردف قائلًا: «إنهم يتلقَّون الرعاية. إن لديهم المال ومن ثَم يمكنهم الذهاب إلى أي مكان، ويمكنهم الوصول إلى أي مكان.»
كان النائب البرلماني كافيرو قد أخبرني بالفعل بالقاعدة التي يقوم عليها أسلوب العمل الذي تتبعه هذه المنظمات غير الحكومية. «ما يفعلونه في الواقع هو تنظيم ندوات ووِرش عمل، وإحضار المزارعين والجماعات الزراعية، ويسهلون لهم الانتقالات وكل شيء، ويوفرون لهم الطعام. ويُبقونهم طوال اليوم ويُطلِعونهم على سلبيات الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا.» في مدينة تلو الأخرى، ومقاطعة تلو الأخرى، تضم هذه الفعاليات الموكب المعتاد من المتحدثين المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يحذرون من الإصابة بالسرطان والعقم وجينات الخنازير، بينما يقدمون أيضًا عروضًا تقديمية باستخدام صور مضلِّلة معدَّلة ببرنامج فوتوشوب.
أخبرني مُمثِّل الاتحاد الوطني للمزارعين في أوغندا أن ما يسعى إليه المزارعون لا يختلف، إلى حدٍّ كبير، عما سمعتُه في تنزانيا وكينيا وغيرهما من الدول الأفريقية. «ما يريده مزارعونا هي بذور مهجَّنة … نحن بحاجة إلى زيادة إنتاجيتنا»، للحد من الفقر والتكيُّف مع تغيُّر المناخ. ولا يريدون قطعًا غرباء يخبرونهم بأنهم ليسوا بحاجة إلى استخدام أساليب الزراعة الحديثة.
•••
أكد المزارعون في أوغندا أن محاصيلهم واجهت تفشِّيَ آفات جديدة، مثلما حدث في تنزانيا. وثمة تهديد كان موجهًا على نحو خاص للموز، الذي يُقطف قبل نضجه ويؤكل مهروسًا ومطهيًّا على البخار بوصفه غذاءً رئيسيًّا يُدعى «ماتوك». ويأتي نحو ثلث الإنتاج العالمي للموز من منطقة شرق أفريقيا، حيث يوفر محصول الموز ربع الاحتياجات الغذائية اليومية لسكان يزيد تعدادهم على ١٠٠ مليون نسمة في أوغندا وبوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا. وتُعد أوغندا ثاني أكبر دولة منتجة للموز في العالم بفضل «الماتوك»؛ إذ تُنتَج الغالبية العظمى من الموز على نطاق محدود للاستهلاك المنزلي والمحلي.
وفي عام ٢٠٠١، انتشر مرض بكتيري — لم يكُن معروفًا كثيرًا من قبل — عبر الحدود من إثيوبيا إلى أوغندا وبدأ يصيب مزارع الموز. ظهر الذبول البكتيري للموز، الذي ينتشر عن طريق الذباب والأدوات الملوَّثة بالبكتيريا، في صورة ذبول سريع للنبات وتسوُّس سباطة الفاكهة غير الناضجة. وعند شق جذع مصاب بالبكتيريا، تسيل منه مادة صفراء شبيهة بالصديد، في حين تتحوَّل الشجرة بأكملها إلى اللون الأسود وتموت. ولا يتبقى خيار أمام المزارعين الذين تُصاب مزارعهم بهذه الآفة سوى اجتثاث جميع الأشجار المصابة والأشجار القريبة منها ودفنها. وكما هو الحال مع محصول الكاسافا في تنزانيا، واجهت المنازل المعتمدة على ثمار الموز باعتباره الغذاء الرئيسي لها في وجبات أُسرها تهديدًا بتجدُّد انعدام الأمن الغذائي بسبب وباء الذبول البكتيري للموز. وكان العلماء العالميون الذين يتعاونون مع المؤسسات الأفريقية التي تديرها الحكومة يتسابقون لتطوير أصناف من الموز مقاوِمة لهذه البكتيريا باستخدام الهندسة الوراثية، كما حدث مع محصول الكاسافا.
أثناء زيارتي للعاصمة الأوغندية كامبالا، التقيت بإحدى العالِمات البارزات في هذا المسعى؛ ألا وهي لينا تريباثي، من المعهد الدولي للزراعة في المناطق المدارية. أخبرتني تريباثي أن الموز محصول أساسي للغاية في البلاد. وأضافت، بينما كنا نتناول الغداء المكون من «ماتوك» والفول معًا بجامعة ماكيريري في كامبالا قائلة: «إنه يُزرع على نطاق المنزل، ومن ثَم يقوم المزارع بزراعته في الحديقة. لا يدخل في نطاق الإنتاج التجاري سوى كمية ضئيلة للغاية منه، ولا تخرج سوى كمية محدودة جدًّا للتصدير. إنه محصول مخصَّص بالأساس لاستهلاكنا المحلي والسوق الصغيرة.» وكان هذا هو السبب وراء اعتبار التهديد المُوجَّه لمحصول الموز مصدر قلق مباشرًا فيما يخص سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في أوغندا والدول المجاورة لها. وحتى بعد الأبحاث المُضنية التي أجراها علماء النبات لم يتسنَّ لهم التوصل إلى أي جينات مقاوِمة في الموز أو المحاصيل المشابهة له؛ ومن ثَم استعانوا بتكنولوجيا الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا لجلب جِينٍ من الفلفل الحلو.
أخبرتني تريباثي بأن النتائج المبدئية كانت واعدة. فقد وجدت مقاوَمة بنسبة ١٠٠ في المائة في ١١ سلالة جديدة من الأصناف المُعدَّلة وراثيًّا. وفيما بعدُ تجولنا في الدفيئة الخاصة بها، حيث أرتني أُصُصًا متجاورة لنباتات الموز؛ كان أحدها للصنف الذي يحمل جين المقاومة الجديد، والآخر لعَيِّنة ضبط من دون الجين المقاوِم. كان الصنف المقاوِم سليمًا وقويًّا. في حين ذبلت عينةُ الضبط. سألتُ تريباثي: إذن متى سيتمكَّن المزارعون من الحصول على هذا النوع المقاوِم من الموز؟ ترددت قبل أن تجيب بتمهل قائلة: «قبل أن يحدث ذلك، يجب سَنُّ القانون قبل إتاحة هذه الأصناف تجاريًّا؛ لأن أوغندا في تلك اللحظة ليس لديها قانون السلامة الأحيائية.»
تُرك لديَّ انطباع بأن العمل المُختَبري هو الجزء السهل من العملية كلها. ومن دون قانون السلامة الأحيائية والتكنولوجيا الحيوية الذي طال انتظاره، ستظل ثمار الموز المقاوِمة للذبول البكتيري حبيسة المختبر إلى أجل غير مُسمًّى، حتى وإن كانت النتيجة استمرار انتشار المرض بخُطًى ثابتة عبر الريف الأوغندي ومواجهة ملايين الأسر الجوع من جديد.
•••
عندما كنت في أوغندا، اكتشفتُ منظَّمة غير حكومية مؤيدة للعلم بين المنظمات الكثيرة المخصَّصة للتصدِّي لاستخدام التكنولوجيا الحيوية في زراعة المحاصيل. تشاركت المؤسسة العلمية لسُبل العيش والتنمية أيضًا مبنًى واحدًا بكامبالا مع الاتحاد الوطني للمزارعين في أوغندا، وكان ذلك ملائمًا تمامًا. اصطحبني بيتر وامبوجا، مدير الاتصالات بالمؤسسة العلمية لسُبل العيش والتنمية في زيارة إلى المعهد القومي لأبحاث موارد المحاصيل، وهي محطة أبحاث حكومية في مدينة نامولونج الصغيرة. وهناك رأيت أصنافَ الكاسافا المقاوِمة للفيروسات تُزرع في حقول التجارب الميدانية. وبينما كنا نتجه شمالًا عبر طرقٍ وعرة، التفَّ وامبوجا في مقعده الأمامي وأمتعني برأيه في التعسُّف الذي يكتنف الوضع الراهن، بينما كان سائق سيارتنا يقود ببراعة، متفاديًا الحُفر وقطعان الماعز والناس.
قال بنبرة تذمُّر: «لا شك أن الأموال تأتي من أوروبا. ولكن لماذا لا يستطيع الأوروبيون إرسال الأموال إلى أفريقيا من أجل شراء الجرارات؟ لماذا لا يرسلون المال من أجل شراء الفُئُوس، وشراء الأدوات التي بوسعها أن تقلِّل العمل الشاق المبذول في الحصاد وتوصيل الغلَّة إلى المنازل؟ لماذا يرسل الأوروبيون الأموال لمحاربة النهوض بأفريقيا فيما يخصُّ التكنولوجيا؟»
أشرت قائلًا: «تقول المنظمات غير الحكومية إنها ترغب في تشجيع مُلاك المزارع الصغيرة على الزراعة التقليدية. ما العيب في ذلك؟»
رد وامبوجا بسرعة قائلًا: «دعهم يُشجعون الزراعة التقليدية في أوروبا. هل هذا ما يفعلونه؟ هل يزرعون المحاصيل التقليدية في أوروبا؟ إنهم يزرعون المحاصيل المُعدَّلة. ويقولون لأفريقيا: ازرعوا هذه المحاصيل التقليدية الصغيرة القديمة. إن أوروبا تُسهم إسهامًا كبيرًا في تخلُّف أفريقيا.»
سألته قائلًا: «ولكن ماذا عن الذين يقولون إن أفريقيا ليست مستعدة لهذه التقنيات الجديدة؟» (كانت هذه عبارة متكررة سمعتها مرات عديدة من النشطاء.)
«هذا محض هراء. ماذا يقصدون بعدم الاستعداد؟ أوروبا لا تريد لأفريقيا أن تحقق الأمن الغذائي لتستقل عنها. لطالما كانت أوروبا مستعمِرة لأفريقيا. إنها لا تريد لأفريقيا أن تحقق الاستقلال الكامل عنها. ما زالوا يريدون التحكم في قدرتنا على امتلاك الطعام أو عدم امتلاكه.»
أخبرته أنني أشك في أن المنظمات غير الحكومية الأشد معارضة للتكنولوجيا الحيوية ترى دورها شكلًا من أشكال الاستعمارية الجديدة. في الواقع إن هذه المنظمات قد زعمت أنها تحارب الاستعمار الذي تراه متأصلًا في استيراد المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، وما نتج عنه من تغلغُلِ شركات البذور المتعددة الجنسيات في الزراعة التقليدية.
استأنف حديثه وقد علا صوته نبرةُ غضب قائلًا: «من الذي يقول ذلك؟ هل أفريقيا من تقول ذلك، أم إنها تُردد ما يقوله الأوروبيون مثل الببغاء؟ لسنا دون البشر. نحن بشر كاملون ذَوو قدرات وإمكانيات بشرية فعَّالة، ويمكننا أن نقرر بأنفسنا.»
وبصفتي أوروبيًّا، بدأت أشعر بالانزعاج. إلا أن وامبوجا لم يكُن قد انتهى من حديثه. فاستطرد قائلًا: «إن العلم بمنزلة معرفةٍ وموردٍ عالَميَّين. ولا أحد يستطيع أن يدعي امتلاك وفهم ومعرفة ماهية العلم والتكنولوجيا على نحو أفضل من الآخرين. من الذي أمرنا باستخدام الهواتف المحمولة؟ لقد سجلت أفريقيا أعلى نسبة في انتشار الهواتف المحمولة على مستوى العالم. لم يخبرنا أحد بذلك. ولم يأمرنا الأوروبيون باستخدام الهواتف المحمولة أو عدم استخدامها. لماذا ينبغي حين يتعلق الأمر بالزارعة أن يقولوا: «تبنوا هذه التكنولوجيا، أو اتركوا تلك.» لماذا ينبغي أن يقرروا بالنيابة عنَّا؟ لماذا يُضلِّلون أفريقيا؟»
انقطع الحديث بوصولنا إلى المعهد القومي لأبحاث موارد المحاصيل، حيث اصطحبَنا باحثٌ أوغندي شابٌّ يرتدي قميصًا قُطنيًّا أحمر اللون إلى حقل على بُعد مسافةٍ من المباني غير المرتفعة التي تضم مختبرات المعهد وقاعات الاجتماعات. توقَّفنا أمام بوابة مخيفة المنظر يعلوها أعمدة مدببة شائكة، مثبت عليها لافتة كبيرة مكتوب عليها بحروف كبيرة بالأسود والأحمر: «موقع تجارب ميدانية للنباتات المُعدَّلة وراثيًّا.» وعبر هذه البوابة، وأسفل منحدر صغير، كان هناك سور شائك آخر متين وبوابة ثانية كانت مُوصَدة بإحكام بسلسلة وقفل صلب. وكانت هناك لافتة كبيرة أخرى كُتب عليها بأحرف كبيرة أيضًا، ولكن باللون الأخضر هذه المرة: «التعديل الوراثي. نباتات الكاسافا. للأغراض البحثية فقط.» وكتب أسفلها بحروف أصغر: «غير معتمدة كغذاء أو علف. الدخول للعاملين فقط.»
فتح باحث المعهد القومي القفل ودخلنا جميعًا الحقل المحظور وقد انتابنا شيء من الفزع. كان المشهد مثيرًا للإعجاب. امتدَّ أمامنا فدان من أكثر نباتات الكاسافا التي رأيتها على الإطلاق قوةً وصحة. كان الباحث ذو القميص القطني الأحمر يبتسم بفخر حين التقطتُ صورًا بهاتفي، وقطف ورقتَي نبات وأمسك بهما جنبًا إلى جنب. كانت إحداهما مصفرَّةً وذابلةً، مما يدُل على علامات إصابة بعدوى فيروسية. أخبرنا بأن هذه ورقة من نبات عيِّنة الضبط غير المُعدَّل وراثيًّا. أما الورقة الثانية فكانت ذات لون أخضر داكن وقوية وكانت لنبات تجريبي مُعدَّل وراثيًّا لمقاومة الفيروسات. لم يكن هناك أي علامة لإصابة هذا النوع بفيروس التبقُّع البُني للكاسافا وفيروس تبرقُش الكاسافا، هكذا أخبرنا. كانت الشُّجَيرات السليمة تتمايل من حولنا وسط الرياح الدافئة، وقد ثبتت بقوةٍ في تربة أوغندا الحمراء الداكنة بواسطة الدرنات المنتفخة المنتشرة على جذورها.
سألت العلماء بالمعهد القومي لأبحاث موارد المحاصيل كم سيستغرق الأمر لطرح أصناف الكاسافا المُعدَّلة وراثيًّا والمقاوِمة للفيروسات من الوقت للمزارعين. كانت لا تزال هناك بعض المشكلات التقنية في التعامل مع العلاقة المعقدة بين الفيروسَين المختلفَين، غير أن التحدي الأساسي الذي كان يواجههم لم يكن له علاقة بالعلم، كما قيل لي. وبدلًا من ذلك، سمعت من جديد أن العائق الأساسي هو موافقة البرلمان على تمرير قانون للسلامة الأحيائية، بحيث يتسنَّى توزيع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في إطار تنظيمي مناسب. وأوحى لي ذلك بفكرة. سألت مضيفَينا بهدوء ماذا لو سرق أحدهم جذور نبات الكاسافا المقاوم للفيروسات من الحقل المغلق بقفل، وأعطاه إلى مزارع محلي وبدأت سلسلة الأحداث تتوالى بتلك الطريقة؟ كانت الإجابة واضحة: غرامة كبيرة أو السجن عشر سنوات. الأمر لا يستحق المخاطرة.
•••
رأيت القصة نفسها تتكرر في كل مكان ذهبت إليه في أفريقيا. لم تكُن المنظمات غير الحكومية المموَّلة من الخارج، والمدعومة بالأساس من متبرعين في أوروبا، تؤخر تطوير التكنولوجيا الحيوية أو تعرقله وحسب؛ بل كانت أيضًا تؤخر الزراعة الحديثة بوجه عام عبر القارة وتعرقلها. فقد زرت كينيا في عام ٢٠١٣ وعاودت الزيارة في سنوات لاحقة لأجد أن الموقف يتدهور في كل مرة أذهب إلى العاصمة نيروبي. وفي عام ٢٠١٣، بدأت إحدى الوكالات المعنية بالسلامة الأحيائية المؤسَّسة حديثًا عملها، وتوقع العلماء في البداية الموافقة على زراعة ذُرة مقاوِمة للحشرات وبطاطا حلوة مقاوِمة للآفات في القريب العاجل. تحدثت مع مدير الوكالة وبعضٍ من أفراد فريق عمله، وفوجئت حين وجدتهم يُفرقِعون أصابعهم أثناء فترة انتظار طويلة لتقديم الطلبات الأولى.
لكل دولة أفريقية تجربتُها الفريدة مع إشاعة المخاوف المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. ففي غانا، التي زرتُها في أواخر عام ٢٠١٣، كانت ثمة تجارب ميدانية قيد التنفيذ آنذاك في المنطقة الشمالية من مدينة تامالي على صنف لوبياء ظفرية مُعدَّلة وراثيًّا بالبكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة أو لوبياء بي تي (التي تُعرف عالميًّا أكثر باسم اللوبياء ذات العين السوداء). اصطحبني العالِم الذي يتولى قيادة هذه التجارب في جولة، مُوضحًا لي كيف تُعد اللوبياء الظفرية أهم محصول بروتيني في غرب أفريقيا بأكملها، ويمثل أهمية خاصة نظرًا لأن الكثير من الأشخاص في المناطق الريفية نادرًا ما يستطيعون شراء اللحوم أو غيرها من البروتينات الحيوانية. كما أخبرني كيف أُجبِرَ المزارعون على رش مبيدات الآفات أو المخاطرة بفقد محاصيلهم بسبب تفشي آفةٍ حشرية تُسمى دودة قرون اللوبياء. من المقرر أن تكون اللوبياء الظفرية بي تي مقاوِمة للمرض؛ ومن ثَم حرص المزارعون على البدء في زراعتها. كانت هذه قصة مشابهة للقطن والذُّرة والباذنجان المُعدَّلة وراثيًّا بالبكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة. وجاءت التجارب الأولى واعدة، مع ارتفاع إنتاجية المحصول وعدم ظهور أي علامة على الإصابة بتلك الآفة المزعجة.
وحسبما جاء على موقعها الإلكتروني، فإن معارضة منظمة فود سوفرينتي غانا للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بسبب «زيادة حالات العيوب الخلقية، والاكتئاب الحاد، والبلوغ المبكر عند الفتيات، والتوحُّد، وسرطانات الأطفال، وجودة الحيوانات المنوية والعُقم لدى الذكور، ومرض باركنسون، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسُّكري، وأمراض الكلى المزمنة». وغنيٌّ عن القول إنه لا يوجد دليل علمي حقيقي واحد يدعم أيًّا من هذه المزاعم. وعلى الرغم من فشل الإجراءات القانونية التي اتخذتها منظمة فود سوفرينتي غانا، استمرت القضية في المحكمة لأشهُرٍ ووضعت مشروع اللوبياء الظفرية بي تي موضعَ الشبهات، مما أسفر عن العديد من المقالات الصحفية التي أطلق فيها النشطاء العِنانَ لأنفسهم للترويج للمخاطر الصحية التي يُزعَم تأصُّلها في المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا.
في زيارة إلى جامعة هراري، رأيت تأثيرَ سياسات موجابي المناهضة للعِلم مباشرة. فقد أُجبِر الشباب الجامعيون الذين يدرسون علمَ الوراثة على رفع مُعدَّات من مستودع النفايات في هراري ليتعلموا أساسيات التكنولوجيا الحيوية. ومع عدم توافر أطباق بِتْرِي أو هُلام الأجار، كانوا يستخدمون بَرْطَمانات المربَّى المغسولة والهلام المنزلي الصنع لتوفير مزارع الأنسجة النباتية. لم تتوافر في المعمل صنابير صالحة للعمل؛ ومن ثَم كانوا يضطرون إلى نقل المياه بواسطة دلو لدرجَي سُلَّم. واستطاع الطلاب المغامرون، على نحو مبهر، زراعة أجنة محاصيل بي تي؛ بل إحراز تقدم نحو تطوير بطاطا حلوة مقاومة للآفات، كل هذا رغم الانقطاع المتكرر للكهرباء والمضايقات العابرة من جانب الموظفين الحكوميين. أخبرني أستاذهم في أسف أنه كان بصدد فقد وظيفته؛ لأنه كان مؤيدًا لاستخدام التكنولوجيا الحيوية ولأنه رجل أبيض.
ويزعم بارلبرج أن حكومة زامبيا قد تأثرت دون مبرر بالضغط القوي الذي مارسته الجماعات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في البلدان الغنية، من بينها المنظمات البيئية مثل منظمة السلام الأخضر. ولا غرو أن واقعة المجاعة في زامبيا لا تزال تثير جدالًا شديدًا، بالوضع في الاعتبار عدد الأرواح المعرَّضة للخطر. ففي سبتمبر عام ٢٠٠٢، رفضَت منظمة السلام الأخضر اتهامها بالتواطؤ بشكل ما في حدوث مجاعة جماعية، مدافِعةً عن قرار الرئيس الزامبي برفض المعونة الغذائية المُعدَّلة وراثيًّا على أساس أن الرئيس مواناواسا «يعرف أن مستقبل الإنتاج الزراعي في بلاده على المحك.» ووفقًا لما صرحت به منظمة السلام الأخضر: «نحن نقول إنه ما دامت توجد إمدادات غذائية من الحبوب غير المُعدَّلة وراثيًّا، فلا ينبغي إجبار أي شخص على تناول هذه الحبوب المعدلة وراثيًّا رغمًا عنه. وإذا كان الاختيار ينحصر حقًّا بين الحبوب المُعدَّلة وراثيًّا والمجاعة، فلا شك أن أي طعام هو الخيار الأفضل؛ إلا أن الاختيار في هذا الموقف يتَّخذ صورة مغلوطة ومتشائمة.» ولكن على الرغم من خطورة الموقف وحساسيته، لم يكن تصريح منظمة السلام الأخضر دقيقًا للغاية. فقد وصف البيان المعونة الغذائية المُصنَّعة في أمريكا بأنها «مضافٌ إليها مكونات مُعدَّلة وراثيًّا»، وأكد أن «زامبيا اتخذت قرارًا شجاعًا للحفاظ على تراثها الزراعي ومستقبلها.» وأكد أيضًا، على عكس المعرفة العلمية السائدة آنذاك في عام ٢٠٠٢، أن «الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا لا تزال مجهولة الهوية فيما يخص الصحة والسلامة»، وأن «حالة الوهن التي تصيب السكان الذين يعانون من سوء التغذية» ربما تجعل الناس أكثر تعرُّضًا للآثار الصحية المجهولة الناجمة عن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا.
بالطبع لا تهدف المنظمات غير الحكومية الأجنبية، التي تناضل من أجل إبقاء الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بعيدًا عن أفريقيا، إلى تفاقم الفقر وانعدام الأمن الغذائي عن وعي منها بذلك. بل كانت تستهدف العكس في خيالها. ووسيلتها في تحقيق ذلك الهدف هي الدفاع عن أنماط الحياة التقليدية والمحاصيل المتوارثة، وتشجيع أهداف سياسية مثل «سيادة الغذاء»، الذي تعرفه منظمة فود سوفرينتي غانا بأنه «حق الشعوب في الحصول على غذاء صحي ومناسب من الناحية الثقافية يُنتج من خلال طرق سليمة ومستدامة على الصعيد البيئي، وحقها في تحديد أنظمتها الغذائية والزراعية.» يبدو هذا منطقيًّا بما يكفي للوهلة الأولى. إلا أن بارلبرج يشير إلى أن هذه المفاهيم ووجهات النظر السياسية نفسها واردة من أوروبا؛ إذ تعكس مجتمعات متقدمة تخطت مرحلة الزراعة التقليدية ولا تناسب دول أفريقيا. وكتب مُردِّدًا رأي المزارعين والعلماء الذين تحدثتُ معهم في أوغندا وتنزانيا قائلًا: «ضعف الإنتاجية في الزراعة هو الفخ الذي يجعل أغلب الأفارقة الآن فقراء. والأذواق الأوروبية بخصوص المحاصيل الزراعية المُعدَّلة وراثيًّا لا تتناسب مع احتياجات أفريقيا، بالوضع في الاعتبار أن ثلثَي إجمالي عدد الأفارقة هم مزارعون فقراء بحاجة ماسَّة إلى تقنيات جديدة لتعزيز إنتاجية محاصيلهم.»
ويدعم استنتاج بارلبرج، إلى حد كبير، ما وجدتُه في أفريقيا أيضًا. إذ كتب يقول: «إن رفض أفريقيا للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا اليوم هو نهج غربي أكثر من كونه أفريقيًّا. فلم تشرع الحكومات في أفريقيا في الإحجام عن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا إلى أن رأت النشطاء والمستهلكين في الدول الغنية — لا سيما في أوروبا — يرفضون هذه التكنولوجيا.»
•••
في منتصف شهر فبراير عام ٢٠١٧، أي بعد مرور نحو عشرين عامًا منذ وقفت وسط حقل الذُّرة المُعدَّلة وراثيًّا في إنجلترا وتأهبت لتدميرها، عدت إلى تنزانيا مرة أخرى. كان الموقع التجريبي الفارغ الذي زُرته لأول مرة في عام ٢٠١٣ يزخر الآن بمحصول مزدهر ومقاوم للآفات من الذُّرة المُعدَّلة وراثيًّا. شكلت هذه الذُّرة علامة فارقة للبلاد بوصفها أول تجربة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على الإطلاق تتم إجازتها؛ رأيت هذه النباتات التي دخلت التاريخ تُحدث حفيفًا وسط نسيم استوائي لطيف. بينما كنت أرتدي بزة عمل رسمية زرقاء اللون وأحترق تحت أشعة الشمس اللافحة، تطلعت إلى السور العالي وأخذت أتأمل كيف أنني عدت فيما يبدو إلى نقطة البداية. فقبل عقدين مضَيَا، دمرت ذُرة تشبه هذه تمامًا؛ لأنها كانت مُعدَّلة وراثيًّا أيضًا. هذه المرة لم آتِ لأُتلف المحصول؛ وإنما جئت لمساعدة العلماء الذين كانوا يناضلون من أجل الدفاع عنه.
قص عليَّ المزارعون الذين تحدثت معهم قصة كئيبة عن الأمطار التي لم تأتِ قط. أخبرتني ريجينا مواشليمو، إحدى هؤلاء المزارعات، قائلة: «في الواقع الطقس هذا العام ليس كأي طقس عايشته من قبل منذ جئت إلى دودوما؛ فهو الأشد قحطًا على الإطلاق.» كانت تعيش في قرية فيولا المجاورة، على بُعد بضعة أميال مغبرة من موقع التجربة الميدانية للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. كانت تَعُول خمسة أبناء وحفيدين على أرض لا تتعدَّى مساحتها بضعة أفدنة، متباهية بامتلاكها ثلاث بقرات عجاف ونحو عشر دجاجات وبضع عنزات. قالت بنبرة متذمرة: «لم تتساقط الأمطار منذ نوفمبر-ديسمبر. وها نحن الآن في شهر فبراير ولم تمطر حتى الآن على الإطلاق.» سمِعَت مواشليمو عن تجربة الذُّرة الموفرة للمياه القادمة في المستقبل. وترى أنه لا يمكن أن تتوافر البذور الجديدة المقاومة للجفاف في وقت قريب بالقدر الكافي. كانت قد تخلَّت بالفعل عن زراعة الذُّرة وعادت إلى زراعة السورغم الأكثر مقاوَمة للجفاف برغم انخفاض قيمته. وعلقت قائلة: «في الواقع، إذا استطعت الحصول على بذور الذُّرة الجيدة المقاومة للجفاف، فسأعود إلى زراعة الذُّرة مرة أخرى. أنا بحاجة إلى بذور الذُّرة الموفرة للمياه تلك، وإذا استطاعوا أن يمنحوني كمية كافية منها لزراعتها، فسأزرع الذُّرة مرة أخرى حتى يمكن أن تعيلني على نحو أفضل.»
كانت مواشليمو تُعَد من الطبقة الوسطى مقارنة بجارها القريب جوما شيزواه. كان شيزواه أبًا لخمسة أولاد، سرعان ما يتيبَّن لك حالة الفقر المُدقع التي تعيشها أسرته من كوخهم المتهالك وملابسهم الرثة. كان شيزواه نفسه هزيلًا جدًّا، وكذلك ابنه أوباما ذو السبع السنوات الذي سُمي بهذا الاسم تيمُّنًا بالرئيس الأمريكي السابق. أخبرني حين سألته عن كيفية تعامله مع الجفاف قائلًا: «الطقس سيئ بحق. الأوقات عصيبة فعلًا، الرب وحده سيغيثنا.» تجولنا عبر البقايا المتيبسة من مزرعته، التي بدا أنها لم يتبقَّ منها شيء سوى القليل من نبات الكاسافا تجاور ما تبقى من نهر جافٍّ بدا أشبه بصحراء قاحلة. سألتُ شيزواه ما إذا كان قد سمع عن البذور المقاوِمة للجفاف التي تجري تجربتها وراء السياج العالي القريب. قال لي: «سنطلب الحصول على هذه البذور إذا أمكن.» وإذا لم يصله الغوث؟ كانت إجابته: «لا أستطيع بصراحة أن أتنبأ بما ستئول إليه الأمور.»
ساهَمَت حقيقة احتياجِ بلادهم الماسِّ إلى نجاح عملهم في تسريع خُطى العلماء التنزانيين الذين كنت أزورهم. عندما قابلت دكتور ألويس كولايا ودكتور نيكولاس نيانج لأول مرة قبل أربع سنوات، كانا محبطَين وغاضبَين. أما هذه المرة فكان يشع منهما إحساس متجدد بالهدف وهما يتجوَّلان عبر موقع التجربة الميدانية ويفحصان برفقٍ العرانيس النامية لمحصول الذُّرة التجريبي. كان دكتور كولايا يضطر إلى تمالك نفسه بالكاد وهو يخبرني كيف سارت الأمور على خير ما يرام. قال بنبرة مبتهجة: «من المظهر العام، نرى أن السلالات الهجينة المُعدَّلة وراثيًّا والمقاوِمة للجفاف ستكون أفضل من السلالات غير المُعدَّلة. يمكننا أن نجزم بذلك يقينًا حين ننتهي من الحصاد وتخرج النتائج. ولكنها تبدو مقنعة جدًّا.» كان دكتور نيانج بالقدر نفسه من الحرص. قال وعلى شفتَيه ابتسامة عريضة: «حين أنظر إلى [هذه التجربة] أرى أن هناك أملًا كبيرًا في أننا سنتمكن من توفير هذا النوع المقاوم للجفاف الذي طال انتظاره ليستفيد منه مزارعونا ذوو الموارد الفقيرة في بلدنا.»
غير أن ثمة موقفًا مُسيئًا أخيرًا اضطُرِرت إلى خوضه. كانت التجربة الميدانية المحدودة لا تزال خاضعة أيضًا لقوانين «السلامة الأحيائية» غير المبررة. وكان هذا هو السبب وراء مطالبتي بارتداء بزة العمل الزرقاء المألوفة حتى في أكثر الأوقات سخونة من اليوم، والسبب وراء إلزام جميع من يدخلون إلى المكان بالسير عبر حوض من المطهرات، وأمام علامات تحذيرية مكتوبة بحروف كبيرة. كما يفسر أيضًا السور العالي، وحقيقة عدم السماح بخروج أي مادة نباتية مُعدَّلة وراثيًّا من هذا الموقع. وهكذا، وبعد الحصاد، الذي تم بعد أسبوعين من مغادرتي تنزانيا، اصطفَّ جميع الباحثين أمام خندق عميق وأشعلوا النيران في عدة أطنان من الأطعمة الصالحة للأكل تمامًا.
•••
قبل أن أغادر تنزانيا بعد رحلة عودتي إليها في عام ٢٠١٧، كان هناك شخص أردت زيارته مرة أخرى. عندما التقيت بجريس رحيمة لأول مرة في عام ٢٠١٣، كما ذكرت في موضع سابق من هذا الفصل، كانت تعاني هي وأسرتها من نقص حادٍّ في الغذاء. كان محصولهم من الكاسافا قد تلف بسبب تفشِّي الفيروسات، ولم تكن تعرف من أين ستأتي بالوجبة التالية. وبعد مرور أربع سنوات، أردت أن أعرف ماذا حدث لها. كنت أعرف أن جريس كانت لا تزال عاجزة عن الحصول على الكاسافا المُعدَّلة وراثيًّا والمقاومة للفيروسات. فقد حالت القوانين التقييدية دون ذلك، ولم يتقدم الباحثون في أوغندا المجاورة بطلبات للإفراج عن المحصول بعدُ. إذن، كيف ستعيش دون محصول كاسافا صحي؟ وبينما كنا نرتج على الطريق الرملي نفسه على أطراف بلدة باجامويو، شعرت ببعض الخوف.
وحتى مع الاستعانة بعالِم محلي يتحدث اللغة السواحلية، واجهنا بعض الصعوبة في العثور على جريس. وعينَّا مراهقًا من أهل البلدة يرتدي قميصًا قطنيًّا أحمر ليساعدنا، وأخرجت جهاز اللابتوب خاصتي لأريه الصور التي كنت قد التقطتها لجريس وأسرتها قبل أربع سنوات. فابتسم بعد أن تعرَّف عليها وقال: «من هنا!»
كانت هناك فعلًا. نظَرَت إلينا جريس رحيمة — التي كانت ترتدي تنورة برتقالية ملتفة حول الخصر وصَدْريَّة وردية اللون — في ارتياب من كوخ قريب. ولكن بمجرد أن عرضت عليها الصور الموجودة على جهاز اللابتوب، انفجرت ضاحكة في ابتهاج. تجمَّعنا حول الصور وأخذنا نقلب فيها، وكانت جريس تتعرف على كل صورة بصيحة ابتهاج. وأوضحت لي أيضًا كيف سارت الأمور خلال السنوات الفائتة. واندهشتُ كثيرًا حين رأيت كوخًا جديدًا في المكان. كان مبنيًّا من مواد محلية؛ فكانت الجدران عبارة عن طمي يملأ الفراغات بين فروع شجر، والسقف من قش النخيل. ولكنه كان جديدًا حتى وإن بدا رخيص البناء، كان يوحي بأن الحياة لم تكن كارثية بالنسبة إليها مثلما كنت أخشى أن تكون. فقد أخبرتني أنه على الرغم من أن محصولها الزهيد من الكاسافا ما زال يبدو في حالة سيئة، فقد استطاعت أن تُنَوع مصادر دخلها ببيع المانجو على جانب الطريق لكسب مبلغ من المال لشراء الطعام. سألتها: «ومن أين تأتي المانجو؟» أجابت بضحكة أخرى قائلة: «انظر إلى أعلى!» ورأيت فوق رأسي فروع شجرة ضخمة آخذة في الانتشار، وعليها مئات الثمار اليانعة من المانجو، تتدلى وسط الأوراق الخضراء الوارفة الظلال.
فوجئت وفرحت عندما تخيلت أنه في عام ٢٠١٣ لم يكن لدى جريس رحيمة سوى خيار واحد، وأنها من دون محصول الكاسافا كانت ستجلس مكانها ببساطة وتتضوَّر جوعًا. كان كل تفكيري منصبًّا على متابعة خط معين في قصتها تصادف أنه يتوافق مع مصالحي الشخصية آنذاك، ولم أضَع في الاعتبار أنه كان لديها عدة خيارات أخرى، وسبل كثيرة للصمود وتحمُّل الصعاب. كان من أكثر الشعارات التي سمعها العلماء أن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا «ليست رصاصة فضية»، وها أنا هنا أعيش تجربة مباشرة تبرر صحة هذا الشعار. فجأة رأيت جريس نموذجًا لامرأة تنزانية عادية، امرأة تمثل جميع شرائح المجتمع وموجودة في كل مكان. لم تكن مجرد شخص على الهامش ينتظر أن يصفه أو يعرفه غريب أجنبي مثلي يصُبُّ تركيزه على أجندة معينة. كانت زوجة وأمًّا وفلاحة ورائدة أعمال. أجل، كان محصول الكاسافا المقاوم للفيروسات من الممكن أن يساعدها على تحسين مستوى الأمن الغذائي لأُسرتها، لو ظلت جميع العوامل الأخرى كما هي. وبالتأكيد ليس من مصلحتها، ولا مصلحة من هم على شاكلتها، أن تُحرَم من خيارٍ قد يحسن مستوى معيشتها. إلا أن الحياة لا تسير على منوال واحد. لقد تكيَّفت بعدة طرق مختلفة وكان أولادها يكبرون بشكل جيد.
في الواقع، لم أعرف ابنة جريس الكبرى. كانت مجرد طفلة صغيرة حاسرة الرأس في صُوَري القديمة، وها هي الآن صارت شابة في الثالثة عشرة، ترتدي على رأسها حجابًا أصفر أنيقًا. أخبرتني والدتها بكل فخر أن ابنتها شيدا كانت تُبلي في المدرسة بلاءً حسنًا. وسألتُ شيدا، من خلال عالِم محلي كان يؤدي دور المترجم، ما إذا كانت تود الالتحاق بالجامعة، وربما تصير عالمة في الأحياء الجزيئية.
التفتت إليَّ، ونظرت في عينيَّ مباشرة، وأجابت باللغة الإنجليزية: «أجل.»