ما أصاب النشطاء المعارضون في فهمه
سارت عملية تأليف هذا الكتاب بسلاسة غير متوقعة. فعندما بدأت مشروع تأليف هذا الكتاب قصدت أن يكون كشفًا للحقائق من نوع ما، جدال مُحتدِم يسلط الضوء على التعسُّف المحض للحركة المناهضة للهندسة الوراثية ولاعقلانيتها والضرر الذي كنت أرى أنها ألحقته بالعالم. وعلى ذلك خططت؛ بل ألفت فصولًا كاملة تفضح مصادر تمويل الجماعات المناهضة للتعديل الوراثي، وتسخر من قادتها، وتدحض الأُسُس العلمية الزائفة لأغلب ادعاءاتها، وتُثْبت بصورة قاطعة كيف يمكن للهندسة الوراثية أن تكون في خدمة البيئة وتحسن حياة المزارعين في الدول الأكثر فقرًا في الوقت نفسه.
كنت قد أعددت هذا الكتاب للخروج إلى النور، بل أرسلت مسودة إلى الناشر الذي أتعامل معه. غير أن شيئًا بداخلي جعلني أتراجع عن هذه الخطوة أيضًا. كنت مُدرِكًا — وهو أمر ربما يكون طريفًا ومطمئنًا لأي شخص يتفق بالفعل مع تحوُّلي التام إلى التأييد المُعلَن للعِلم — بأنني لم أكن أخدم قضية الحقيقة كثيرًا؛ إذ كان تحليلي للأمر ضحلًا والكثير من أهدافي كانت تافهة يسهل دحضها، ولو أنني كنت أدافع عن أي قضية على الإطلاق، فهي قضية استقطاب للآراء، لا لتوضيح الحقيقة. وبالعودة إلى تشبيهي للموقف بالحرب العالمية الأولى، كنت أَشبَه بجنرال واهم مُضلَّل، يبذل قصارى جهده لتحريك الخنادق مِيلًا آخر إلى أرض محايدة، دون الالتفات إلى الخسائر. لم أفكر قط في وقف إطلاق النار، فضلًا عن التفاوض أو أي محاولات لفهم الطرف الآخر فهمًا صحيحًا. هكذا هي عقلية الحرب الدائمة. وكان الأمر أخطر في حالتي؛ لأنني كنت في وقت ما أقف بين الأشخاص الذين أراهم الآن «أعداء»، بينما ألقي نظرة خاطفة عبر الوحل ووسط الدخان المتصاعد من ساحة المعركة.
بالطبع كُتِب بعض هذه النوعيات من الكتب الغاضبة المتحيزة لجانب واحد بالفعل. وإذا أردت أن تقرأ واحدًا منها، فأنا أرشح لك كتاب هنري ميلر بعنوان: «أسطورة الغذاء المُعدَّل جينيًّا: كيف تهدد الاحتجاجات والسياسات ثورة التكنولوجيا الحيوية». لست بحاجة إلى قراءة شيء أكثر من العنوان فحسب؛ ولكن إذا فعلت، فستصادف توصيفات كثيرة للجماعات الناشطة، مثل أنها جماعات «لا عقلانية»، و«معادية للتكنولوجيا الحيوية»، تحاول عرقلة مسيرة التقدم؛ لأنها ببساطة لا تفهم الحقائق العلمية. لم تكن المسودة الأولي لكتابي بهذا القدر من التطرف؛ خاصة أنني لا أتفق مع سياسة ميلر المؤيدة لقطاع الأعمال التجارية. كنت لا أزال مُشتتًا في ولاءاتي. لم يكن في استطاعتي أن أستهين بأشخاص، بضمير مستريح، واصفًا إياهم ﺑ «اللاعقلانية» و«معاداة التكنولوجية الحيوية» بلا تَروٍّ، في حين أنهم ما زالوا أصدقاء لي وأحسبهم أشخاصًا يتمتعون بالذكاء والعقلانية وحسن الخلق. لذا أرسلت مسودة الكتاب إلى بعض الأشخاص ممن كنت أعرف أنهم سيكونون من أشد المنتقدين له، وطلبت منهم التعقيب بتعليقات. كما استجمعت شجاعتي لطلب إجراء مقابلات شخصية مع أولئك الذين خُضْتُ ضدهم صراعات في السنوات الأخيرة. وهكذا، وعلى الرغم من أنني قد ألَّفت الكتاب مُتَّبعًا هذا المنهج في البداية، فلم أكن راغبًا في قرارة نفسي في أن يئول الأمر في النهاية إلى نشر صور كاريكاتيرية ضيقة للواقع تقسمه إلى فريق أبطال وفريق أشرار وحسب؛ مجرد استعراض لوجهة النظر المضادة لما قد تقرؤه في المقالات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا التي تتحدث عن فساد شركة مونسانتو وشرها. لم أُحسِن استغلال الوقت؛ فقد حذفت فصولًا كاملة، لأرى أمام عيني عشرات الآلاف من الكلمات — تمثل شهورًا من العمل المتواصل — تختفي بضغطة زر واحدة، بعد أن توخَّيت الدقة في صياغتها وبحثت عنها بتأنٍّ.
بعض المواقف تكون مؤلمة أشد الألم عند تذكُّرها. ولعل أسوأ لحظة مررت بها على الإطلاق كانت عندما اضطررت أنا وستيوارت براند إلى خوض جدال داخل الاستوديو مع صديقيَّ جورج مونبيوه ودوجلاس بار من منظمة السلام الأخضر بأُكسفورد، بعد عرض فيلم وثائقي على القناة الرابعة البريطانية بعنوان «وات ذا جرينز جوت رونج» (ما أخطأ النشطاء البيئيون في فهمه) واستضاف كِلَينا. بالوضع في الاعتبار محتوى البرنامج، الذي اتَّهم الحركة البيئية بالإضرار بالبشرية بمعارضتها للهندسة الوراثية، والطاقة النووية، واستخدام مادة اﻟ «دي دي تي» للسيطرة على مرض الملاريا، ربما لا يكون من المستغرب أن المناقشة اللاحقة جاءت حادة وبغيضة. كنت في تلك اللحظة أقرب ما يكون، على مدى تجربتي برمتها، إلى مواجهة تهديدٍ جسدي حقيقي؛ إذ وقف أحد الأشخاص من الجمهور في مواجهتي مُتأهبًا للاشتباك معي حرفيًّا، وصرخ في وجهي خارج الاستوديو أثناء فترة الاستراحة. كان ثمة حشد عدائي آخر يشاهدون الشاشات خارج الاستوديو؛ كنت شبه أركض أمامهم، كما لو أنني متهم مُدان يغادر قاعة المحكمة واضعًا معطفًا فوق رأسي، في محاولة مستميتة للابتعاد عن جمهور غاضب. فيما بعد تناولت أنا وستيوارت الغداء مع صديق له؛ لم أستطع متابعة دوري في الحديث إلا بالكاد نظرًا لأنني ظللت أتلفَّت حولي، غير قادر على التركيز للحظة؛ إذ كنَّا على مسافة قصيرة من مكان الاستوديو في لندن. وبالكاد استطعت أن أنام في تلك الليلة أو في الليلة التالية. أتذكر شعوري بالوحدة، وبأنني محاصر بالمتاعب والتهديدات على حد سواء.
لا غرابة إذن في وقوع خلاف بيني وبين بول، بما أن رحلاتنا الفلسفية جعلتنا نسلك اتجاهات مختلفة اختلافًا صارخًا على مدى سنوات عديدة. فبينما كان بول يرفض العقلانية المُتعنِّتة ويتجه إلى البراري ليغمر نفسه من جديد في أحضان الطبيعة، كنت أنا على الساحل الغربي الأمريكي، أجلس مع ستيوارت براند ومركز بريكثرو إنستتيوت، مركز الأبحاث البيئية الثورية المنشق، بكل فخر، عن الحركات البيئية، لصياغة مسودة وجهة النظر المناقضة تمامًا، وهي «البيان الرسمي لدعاة الحداثة البيئية». أعلن هذا البيان، بقدر من الغرور: «نطلق على أنفسنا المدافعين البراجماتيين عن البيئة ودعاة الحداثة البيئية. ونقدم هذا البيان للتأكيد على آرائنا وتوضيحها ووصف رؤيتنا لاستخدام القدرات الاستثنائية للبشرية في خدمة خلق عصر أنثروبوسين جيد» (الأنثروبوسين هو الاسم الاصطلاحي للعصر الجيولوجي الحديث الذي يهيمن عليه الإنسان الآن). وفي حين كنا جميعًا نستهدف ظاهريًّا الأغراض البيئية نفسها، إلا أن بول كان يدعو إلى التواضع، بينما بدا في نظره نهج دعاة الحداثة البيئية الذي نمثله نحن نهجًا مُتَغطْرسًا؛ إذ إننا أردنا — كما أعلن بياننا الرسمي — أن «يستغل البشر قدراتهم الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية المتنامية لخلق حياة أفضل للناس، وتحقيق استقرار المناخ، وحماية العالم الطبيعي». كان المنظور الذي تبنَّاه بول في هذا الشأن يتمحور حول الانسحاب والقبول، وهو ما وجدته مُحيرًا بل يكاد يتخذ طابع العدمية. فهو يرى من وجهة نظره أن إحصاءاتنا الباردة وتنصيب أنفسنا آلهة جعلنا جزءًا من المشكلة، لا الحل.
«إن مذهب مناصرة البيئة الجديد هو منظور تقدُّمي صديق للمشروعات التجارية، يتخذ طابع ما بعد الحداثة للإشكالية البيئية. يرفض هذا المذهب الفكر البيئي التقليدي، وتركيزه على أوجه القصور وتغيُّر القيم المجتمعية، ناعتًا إياه بالسذاجة. فالتقنيات الجديدة، والرأسمالية العالمية والتطوير على النمط الغربي ليس المشكلة، بل الحل. وهكذا، يكمن المستقبل في الإقدام الحماسي على تبنِّي التكنولوجيا الحيوية، وعلم الأحياء التخليقي، والطاقة النووية، وتكنولوجيا النانو، وهندسة المناخ وأي شيء آخر جديد ومعقَّد من شأنه أن يزعج منظمة السلام الأخضر.»
إلا أنه أقر بأن «مذهب مناصرة البيئة الجديد بدأ يثير البلبلة في أوساط معينة. فها هو ستيوارت براند يلقي محاضرات في شتَّى أنحاء العالم يدافع فيها عن قضية المدن العملاقة والمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا؛ ويُسَخِّرُ الكاتب البريطاني مارك لايناس ظهوره الإعلامي في البرامج من أجل الترويج للطاقة النووية والهجوم على أصدقائه السابقين المناصرين للبيئة بصفتهم «مناهضين للتطور التكنولوجي.» وانتقد بول النهج التقليدي لمناصرة البيئة أيضًا؛ لأن «لغته وتركيزه ينصبَّان بوتيرة متزايدة على الجانب التقني والعلمي … وأي حملة تدعو إلى حماية العالم البري وتتجنب الاعتراف بعلاقتنا الفطرية والعاطفية به ستعرِّض نفسها إلى نوع من الهجوم الأيديولوجي القاسي الذي تتعرض له الآن من جانب أتباع مذهب مناصرة البيئة الجديد».»
انزعجت بعض الشيء من هذا الوصف لمساعينا، لا سيما وأن مصطلح «جديد» بدا في حد ذاته مهينًا؛ تأمل مصطلحات مثل الليبراليين الجدد، أو المحافظين الجدد، بل الأسوأ من ذلك، النازيين الجدد. ولكن المشكلة التي واجهتها أنني في غمرة كراهيتي لبول — في الواقع لقد نشأَتْ بيننا بغضاء وكراهية لمدة عقد تقريبًا — كنت أدرك في قرارة نفسي أنني أكره أيضًا شيئًا في نفسي، شيئًا كنت عليه في الماضي وربما أود أن أكون عليه مرة أخرى يومًا ما. وفي حين أن مذهب الحداثة البيئية كان منطقيًّا تمامًا من الناحية الفكرية بالنسبة إليَّ بينما كنا نجلس حول طاولة أحد المؤتمرات في سان فرانسيسكو، إلا أنني لم أرغب في قطع صلتي تمامًا بالماضي. ربما كان عقلي مع دعاة الحداثة البيئية، ولكن كان قلبي لا يزال مع بول، في مكان ما وسط الغابات والجبال بعيدًا عن الجداول البيانية والأبحاث العلمية.
ما زلت أعتقد أن النقاد، على شاكلة بول وجورج مونبيوه، قد أخطئوا في النظر إلى بياننا الرسمي بوصفه بيانًا معاديًا للبيئة؛ أجل كنا مهووسين بحماية الحياة البرية، ولكن رؤيتنا كانت قائمة على «الحَدِّ» من اعتماد البشر على الطبيعة من أجل السماح للأنظمة البيئية بالتعافي. لذا فالمدن ظاهرة حميدة؛ لأنها طريقة أكثر كفاءة لإدارة التجمعات السكانية ذات النطاق الواسع مقارنة بمشروعات الإعمار المنتشرة ذات الكثافة المنخفضة؛ كان الموقع الإلكتروني للبيان الرسمي مُزوَّدًا بصورة فوتوغرافية تظهر في خلفيتها مربعات سكنية حضرية شاهقة وفي صدارتها غابة خضراء (أظن أنها التقطت في هونج كونج). كان التناقض صارخًا، ولكنه أوحى بالانفصال بين البشر والطبيعة، بل الغربة. كان بياننا الرسمي مستندًا إلى أسس تجريبية قوية، ولكنه كان مُنَفِّرًا من الناحية العاطفية بالنسبة إلى الكثيرين. وليس من المستغرب أن معظم أنصار قضايا البيئة رأوا في رؤيتنا انعكاسًا لمستقبل مخيف بارد من ناطحات السحاب الشاهقة واللحوم المُخلَّقة معمليًّا، حيث قد تستطيع التكنولوجيا المهيمنة على كوكبنا حماية الحياة البرية التي ظلت وراء الزجاج، لكنها في خضم هذه العملية ستفصلنا عن شيء أعمق مرتبط بما يعنيه أن تكون إنسانًا على هذا الكوكب.
من الانتقادات التي طالما وجهها أنصار قضايا البيئة إلى المجتمع الحديث، أن هذا المجتمع يقطع الصلة بين البشر والطبيعة. وهذا شيء لطالما كان يزعجني أنا أيضًا. فلا مجال للمقارنة بين السباحة في مَسبَح والسباحة الحرة في النهر مثلًا. أنا أعيش بالقرب من نهر التايمز، وكثيرًا ما أقود الدراجة عبر منعطف عند النهر يمر على الجانب الغربي من منطقة بورت ميدو، وهي منطقة برية عتيقة يمتد عمرها إلى قرون ترعى فيها الأبقار والخيول. في حين أنك في المسبح تكون محاصرًا بخطوط مستقيمة — مربعات البلاط، والإطار المستطيل للمَسبَح نفسه، ونمط السباحة ذهابًا وإيابًا في المكان نفسه كما لو كنت على طاحونة دوس سائلة — فأنت في النهر لديك حرية حقيقية للتحرك والتفكير.
يوجد الكثير لتراه أيضًا في النهر. حين كنت أسبح مؤخرًا، كانت الرياح تهب عبر صفحة المياه، مثيرة أمواجًا صغيرة، بينما كنت أشق طريقي بصعوبة وسط الوحل والعشب نحو قناة النهر الرئيسية الأكثر عمقًا. كان هناك طائر من طيور الخرشنة القطبية حاد البصر ظل يحوم لفترة وجيزة فوق الأماكن الضحلة ثم غطس ناثرًا رذاذًا ضئيلًا من الماء ليصطاد سمكة. وتناثرت بخفة حشرات الرعاشة ذات اللون الأزرق القزحي فوق السطح، بينما أخذ أرنب أسود فاحم مُنزَوٍ يرعى تحت أشجار الزعرور على الضفة البعيدة. رأيت النعناع ينمو على طول خط الماء، بينما تتجمع بقع صفراء صغيرة من زنابق الماء على السطح. من منظور الحيوانات المختلفة، يبدو البشر أقل تهديدًا عندما يكونون مغمورين تحت سطح الماء وعند مستوى النظر؛ إذ انجرفت البجعات — التي عادةً ما ترفع أجنحتها وتصدر هسيسًا إذا اقتربت منها أكثر من اللازم — مع التيار بلا اكتراث على بُعد عدة أقدام مني. وأخذ طائر بلشون أبيض يختال في مشيته على اليابسة. وسبح أحد كلبيَّ المخلصين، كعهدهما دومًا، بجواري مجدفًا بأطرافه سريعًا، وهو يتنفس الهواء بصعوبة عبر أنفه. وأخذ الآخر يهرول هنا وهناك وسط الشجيرات. وقبل أن أعود إلى الضفة مباشرة، حط دبور وحيد على نحو طائش فوق سطح الماء. وصدر صوت ضرب للماء عندما خرجت سمكة من أعماق الماء، ثم غطست واختفت مرة أخرى.
أما المَسبَح فهو محكوم ويجري تنظيفه وتطهيره بالكلور، تمامًا ككوكب الأرض الخاضع لإدارة البشر الذي تروِّج له رؤيتنا الحداثية البيئية من وجهة نظر المنتقدين. وحتى إذا وُجِدت غابة متشابكة مزدهرة وراء السياج، فإنها ليست تجربة طبيعية خالصة. فالسباحة بالمَسبَح ذهابًا وإيابًا بين المسارات المقسمة بالحبال لا تحمل تجربة خارج الحدود الصارمة للحياة الحديثة، ولا يوجد وعي من جانب المرء بكونه مجرد كائن آخر يتشارك هذا الكوكب الجميل مع غيره من الكائنات. على الجانب الآخر، في كل مرة أذهب فيها للسباحة في النهر، أو للركض عند سلسلة الجبال السوداء — التي أشتاق إلى زيارتها في كل مرة أقضي فيها وقتًا طويلًا محاصرًا بين سهول أكسفورد المسطحة — أتذكر أنني لا أرغب في قطع اتصالي بالطبيعة. فأنا، مثل بول، لا أرغب في أن يكون اتصالي بالحياة غير مباشر عن طريق الحداثة أو التكنولوجيا. ما زال توجُّهي نحو البيئة أكثر منه نحو الحداثة. إن سمة الخلود التي يتسم بها النهر هو ما يجعله تجربة سُمُو روحاني. ففي كل مرة أعود بقدمين موحلتين، ولكن أعود أيضًا منتعشًا على الصعيد الروحاني.
•••
في عام ٢٠١١، كتب بول مقالًا لصالح مشروع «دارك ماونتين»، ربما كان الأدق في وصف السبب الأعمق للشقاق الذي وقع بيننا. جاء المقال بعنوان «الكَمِّيُّون والشعراء». أنا بوجه عام شخص كَمِّي (أي خبير بالأرقام). أما بول فهو شاعر بوجه عام (أي خبير بالكلام). هذا وصف حرفي ومجازي في آن واحد لشخصيَّتَينا المختلفتين. والواقع أن بول شاعر، وله عدة دواوين شعرية منشورة باسمه تثبت ذلك. أما أنا، فلم أكتب قصيدة واحدة منذ أن أُكرِهت على ذلك في المرحلة الابتدائية للتعبير عن نفسي بهذه الطريقة المُتَكَلَّفة. حتى أحزان المراهقة المُفجعة لم أُعبِّر عنها في صورة قصائد شعرية، ولله الحمد في ذلك، إلا إذا حسبت الساعات التي قضيتها وحيدًا في غرفتي أدندن أغاني فرقة ذا سميثس. في الوقت الراهن، يغمرني شعور أكبر بالسعادة عند مطالعة الأبحاث العلمية. وعلى الرغم من أنني لا أجيد الرياضيات كثيرًا، فإني أجد متعة في الأرقام. أشعر أنني لا يمكنني التوصل إلى فهم كامل للمشكلة حتى تُصاغ بصورة صحيحة في شكل أرقام. أحب أن أفهم العالم فهمًا عمليًّا، بدايةً من ارتفاعات الجبال الدقيقة وصولًا إلى أسماء السحب وارتفاعاتها وأعمار الصخور. ومن وجهة نظري، هذا لا ينتقص من رهبة الطبيعة وعظمتها. فإذا كنت أعلم أن التحزُّزات على نتوء صخري بالقرب من سنودون في شمال ويلز قد تكوَّنت بواسطة الأنهار الجليدية خلال الذروة الجليدية الأخيرة قبل ٢٠٠ قرن، وأن السحابة المتصاعدة التي تتكون قرب قمة بارتفاع ١٠٨٥ مترًا تُسمَّى سحابة ركامية، حينها يساورني شعور أكبر بالسعادة لأن المنظر الطبيعي ومنظر السحب التي أقدرها يحملان هذا البُعد الإضافي من المعنى بفضل العلم. وهذه الاختلافات في النهج — وهي مَدْعاةٌ لسخرية الكثيرين من كلا الجانبين — عمَّقت في البداية أواصر صداقتنا، ولم تفرقنا.
تناول مقال بول — الذي كتبه بعد وقوع حادث فوكوشيما في اليابان — في ظاهره قضية الطاقة النووية؛ ولكنه في الواقع كان يتناول مسألة أعمق من ذلك. كتب بول يقول: «يساورني شعور بأن الحركة البيئية قد دمرت نفسها بالأرقام. إن هوسها الحصري بتغيُّر المناخ وإصرارها على رؤية هذه المسألة باعتبارها تحديًا تقنيًّا يجب التغلب عليه بحلول تكنولوجية مستندة إلى النظرة المحايدة للعلم أجبرها على الدخول في متاهة لا يمكنها الإفلات منها أبدًا. فمعظم النشطاء البيئيين، المؤيدين للمنظور الفكري السائد الآن، يقضون وقتهم في الجدل حول ما إذا كانوا يفضلون محطات الرياح على ماكينات توليد الموج الصناعي، أو يفضلون الطاقة النووية على تقنية عزل الكربون. إنهم يقدمون توقعات واثقة إلى حد مذهل بشأن ما سيحدث إذا قمنا — أو لم نقم — بهذا أو ذاك، كل ذلك استنادًا إلى أرقام مملة قائمة على الانتقائية الشديدة من هذه «الدراسة» أو تلك، كما لو أن العالم جدول بيانات ضخم يحتاج فقط إلى موازنته على نحو صحيح.»
كان بول حريصًا على الاعتراف بأنه لا يوجد شخص كمِّي في المطلق ولا شاعر في المطلق، وأن الأمر في الواقع هو «صراع موجود داخل الجميع. لا يوجد بيننا من هو عقلاني وتحليلي بالكامل، أو حتى في المقام الأول، ولا أحد منا يخلو من العاطفة تمامًا، على الرغم من صعوبة تحديد ذلك في بعض الأحيان.» واختتم قائلًا: «لسنا بحاجة لمزيد من الحجج والمجادلات حول الأرقام والماكينات، ولكن لدينا نقص كبير في القصص العملية.» بعبارة أخرى، آن الأوان للكميِّين أن يتراجعوا ويتركوا للشعراء دفة القيادة.
إن إيجاد التوازن المناسب بين العاطفة والعقل هو أمر لطالما أربك المفكرين الثقال أمثال بول لوَقت طويل، وكان محور النقاشات الدائرة حول الدور الصحيح للعقل البشري خلال عصر التنوير. ومراعاة للشعراء، وبدلًا من محاولة توضيح الأمر بصورة نثرية، سأتحول، بدلًا من ذلك، إلى الشِّعر (الذي، بالمناسبة، أقدره أحيانًا).
إذن هل «الفلسفة الباردة» تفكك قوس قُزح فعلًا (حيث كانت الفلسفة في عصر كيتس تعني «العِلم»، لا المعنى الأوسع الذي نستخدمه اليوم)؟ هذا السؤال أربك العلماء أيضًا. أوضح ريتشارد دوكينز، في كتابٍ له بعنوان «حل لغز قوس قزح»، وهو عنوان مستوحًى من قصيدة كيتس، أن «كيتس كان مخطئًا تمامًا» في الاعتقاد بأن نيوتن «دمر الصفة الشعرية لقوس قُزَح من خلال اختزاله إلى ألوان المَنشُورِ الزجاجي». كان إسحاق نيوتن أول من اكتشف أن الضوء المرئي يمكن تحليله إلى ألوان قوس قُزَح كجزء من الطيف الكهرومغناطيسي الأوسع نطاقًا، وذلك باستخدام منشور زجاجي. وعن هذا كتب دوكينز يقول: «أسفر حل نيوتن للُغز قوس قُزح عن ظهور علم دراسة الأطياف، الذي أثبت أنه المفتاح لفهم الكثير مما نعرفه اليوم عن الكون. وأي شاعر يستحق حمل لقب شاعر رومانسي لن يتوَرَّع قلبه عن التراقص فرحًا حين يرى الكون من وجهة نظر أينشتاين وهابل وهوكينج.»
وفي حين يقدر دوكينز الشعر الجيِّد أيضًا، إلا أنه ينتابه القلق من أن الشعور بالدهشة والإعجاب الذي نستشعره جميعًا يمكن بكل سهولة أن يصبح أداةَ تضليل في أيدي من هم أقلُّ علمًا من الشعراء، ليَنحو بذلك نحو التصوُّف الرخيص والخرافة إذا لم يكن مقرونًا بالقدر الكافي من التعليم العلمي. لذا يحاول حل الصراع بين العقل والعاطفة من خلال الإصرار على أنهما قد يكونان شيئًا واحدًا إذا وُجِّهها توجيهًا صحيحًا. ويستشهد دوكينز بالأبيات الرُّباعيَّة الافتتاحية الشهيرة لقصيدة ويليام بليك بعنوان «نبوءات البراءة»:
كاد بعض النشطاء البيئيين أن يعتنقوا فكر ما بعد الحداثة، وذلك من خلال التشكيك فيما يعتبرونه تحيُّزات مُتأصِّلة وعلاقات سُلطَوية مُتغَلغِلة في العلم الحديث. ومن هؤلاء النشطاء فاندانا شيفا، الكاتبة والناشطة الهندية التي ذكرتُها في فصلٍ سابق من هذا الكتاب، والتي كتَبَت في أحد كتبها أن العلم الغربي هو مجرد «تقليد مَحلي انتشر عالميًّا من خلال الاستعمار الفكري.» تنهار «تقاليد المعرفة الأصلية» عادةً أمام الفكر العلمي، من وجهة نظر شيفا، لا لأنها تعجز عن تفسير الكون بفاعلية مثلما فسره نيوتن وداروين وأينشتاين؛ بل لأنها تُمحى بعنف بواسطة الاستعمار كما لو كانت تحت تهديد السلاح. وربما يكون لديها وجهة نظر هنا: يبدو أن الديانات الأكثر رسوخًا على الساحة السياسية، مثل المسيحية والإسلام، تُبلي بلاءً حسنًا على الرغم من تزامُن وجودها مع العلم الحديث. لذا ترى شيفا أن المنهج العِلمي الكلاسيكي الذي ابتُكر خلال عصر التنوير الأوروبي ليس نظامًا لتوليد المعرفة بقدر ما هو أداة للترويج للسلطة. فهو لا يحتكر الحقيقة الموضوعية بصورة خاصة؛ بل إن جميع الادعاءات العلمية الخاصة بالحقائق العالمية محل شك بطبيعتها؛ لأنها في الواقع أدوات للسلطة الاستعمارية الجديدة.
ربما تمادت شيفا في هذه النقطة إلى حدٍّ بعيد؛ إلا أنها ليست مخطئة تمامًا. فالمعرفة قوة قطعًا، لا سيما أن فَهم آلية عمل شيء ما في الطبيعة يمنح البشر، بطبيعة الحال، السلطة لتغييره وتعديله. هكذا، فإن فهم القوى النووية الموجودة في قلب النواة كانت بلا شك الخطوة الأولى على الطريق نحو الانشطار النووي، سواء داخل القنبلة أو في المُفاعِل النووي. والهندسة الوراثية مثال آخر على ذلك قطعًا. فعندما شقَّ فرانسيس كريك وجيمس واطسون الطريق أمام علم الأحياء الجُزَيئي من خلال اكتشاف تركيب الحمض النووي، بدآ عمليةً آلت — ربما بصورة حتمية — إلى نقل الجينات بين الأنواع لأغراض إنسانية، وما عُرف مؤخرًا على نحو أدق بتحرير الجينات. وكما تُبين وثائق من تلك الفترة، فقد فهم رواد علم الوراثة جميعهم هذا الأمر على أكمل وجه. وما إن اتَّضح أن الحمض النووي هو نفسه نظام التشفير في جميع الكائنات الحية، اتضح أيضًا أن التسلسلات المختلفة التي يُطلَق عليها «جينات» ينبغي أن تؤدي الوظيفة نفسها بغض النظر عن الكائن الذي توجد بداخله، سواء كان أرنبًا أم بكتيريا. وفي حين أن الكثير من رواد المجال ساورهم القلق في البداية من أن الحمض النووي المؤتلِف — لا سيما في حالة نقل المادة الجينية عبر الأنواع المختلفة — ربما يحمل في طيَّاته بعض الآثار السيئة غير المتوقَّعة، إلا أن مخاوف معظمهم تلاشت حين أثبتت المزيد من الأبحاث أنه من غير المرجح أن يكون الأمر كذلك.
وفي حين اتِّفاقي مع كونتز على أن رفض أنصار فكر ما بعد الحداثة للموضوعية هو أمر مرفوض في حد ذاته، لا يمكنني أن أرفض تمامًا فكرة أن التجارب العلمية قد تحمل «دلالات وأجندات سياسية»، على حد تعبيره. ومما لا جدال فيه بالتأكيد أن العلم والتكنولوجيا وجهان لعُملة واحدة، وأن أحدهما يشير إلى الآخر بطبيعة الحال. فإذا كانت المعرفة قوة، فإن بعض الناس، بحكم طبيعة مجتمعنا غير المتكافئ، سيكتسبون سلطة ونفوذًا من خلال المعرفة وتطبيقاتها العلمية الناتجة أكثر من غيرهم. وقد أوضح لي جورج مونبيوه هذه النقطة بأسلوب قاطع عندما جلست معه أخيرًا وأجريت معه حوارًا رسميًّا تحت شجرة التفاح الموجودة في حديقته بأُكسفورد في يوليو عام ٢٠١٧. كنا نتناقش بشأن ما إذا كان العلم مجردًا من القِيَم. أصر جورج، وهو يمضغ ثمار الكرز الناضجة التي اشتريتها له بدلًا من دفع مقابل نظير الحوار، قائلًا: «لا شيء يفعله البشر مجرد من القِيَم! نحن مشبعون بالقيم. والقرارات التي نتخذها مُستقاة دومًا من بيئتنا الاجتماعية، وبيئتنا السياسية، والقيم التي نعتنقها دون أن نكون بالضرورة مدركين لها، وتلك القرارات تشمل تلك المرتبطةَ بما ندرسه وطريقة دراستنا له.» ثم بصق بذرة ثمرة كرز. واختتم حديثه قائلًا: «إنها لا تغير المنهجية العلمية التي ربما تتبعها، ولكنها تغير مفهوم ما نطبق عليه المنهجية العلمية. لا يمكننا أن نترك العلم إلى العلماء وحدهم. هلا أخذت كرزًا؟»
ألمحت إليه أن هذا يضعه في معسكر النسبية مع أنصار فكر ما بعد الحداثة. لم يرَ جورج ذلك (فهو بالمناسبة عالم حقيقي أكثر مني؛ نظرًا لأنه درس علم الحيوان بالجامعة). وقد أخبرني قائلًا: «أنا أؤيد المنهج العلمي بشدة؛ إلا أنني أؤيد أيضًا التأكد من أن المسائل التي يبتُّ فيها المنهج العلمي عادة هي مسائل تتسم برؤية شاملة للعالم بقدر الإمكان. ومعظم العلماء الذين ألتقي بهم يميلون إلى تبنِّي وجهات نظر ضيقة جدًّا، وهذه مشكلة حقيقية عندما تضع إطارًا لمجالات البحث والاستقصاء، أما العلماء الاستثنائيون فيتبنَّون رؤية عالمية شاملة.» فتساءلت عما إذا كان هذا يقتضي ضِمنًا رفض المنهج العلمي برُمته؟ أجاب جورج قائلًا: «كلا، إن ما يسعى إليه المنهج العلمي هو فرض نظام يمكن اتباعه، وينبغي اتباعه عندما تحاول التوصل إلى إجابةٍ لسؤال علمي. بالطبع، يمكن وصف المنهج العلمي بأنه مجرد من القيم، وإن كان هذا أمرًا مثيرًا للجدل، إلا أن العلم نفسه مُشبع بالقيم؛ قيم عصر التنوير، والقيم الاقتصادية، وسلسلة كاملة من القيم التي يعجز العلماء عادة عن تحديدها لأنفسهم.»
ومن ثَم فإن اتهام المعارضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بأنهم «مناهضون للعلم» عمومًا ليس من المنطق في شيء من وجهة نظر جورج. وعن هذا يقول: «أظن أن هذا كان وصفًا سخيفًا … أشبه بقول: إن الأشخاص المعارضين للأسلحة الكيميائية هم أشخاص معارضون لعلم الكيمياء. أو: إن أولئك المعارضين للإبادة النووية هم أشخاص معارضون لعلم الفيزياء. فالتعديل الوراثي تقنية، مثله مثل الغسالات أو السيارات، وعلينا اتخاذ قرار سياسي — ومن شأنه أن يكون في عالم مثالي قرارًا ديمقراطيًّا — بخصوص «ما إذا» كنا نرغب في استخدامه أم لا و«مدى» رغبتنا في استخدامه أو عدم استخدامه، و«كيف» نرغب في استخدامه أو لا نرغب. ورفض كل هذا باعتباره مناهضًا للعلم كان أمرًا سخيفًا وسطحيًّا وأحمق. ولكنها كانت فكرة زرعتها الشركات نفسها في الغالب؛ لأنها كانت تعتبر طريقة سهلة لنبذ المعارضين بوصفهم غير عقلانيين.» تنَحْنحتُ على استحياء وأنا أتذكر جميع منشورات المدوَّنة والتغريدات الكثيرة التي كتبتها متَّهمًا فيها خصومي بأنهم «مناهضون للعلم».
إذن، هل يوجد حقًّا «مناهضون للعلم»؟ من المثير أن جورج كان يرى أن المصطلح ربما يسري على التشكيك في تغير المناخ في بعض الحالات. «أجل، أظن أن ثمة عناصر معينة في فكرة إنكار تغيُّر المناخ مناهضة للعلم فعلًا. فهي تهاجم بالأساس المؤسسة العلمية وفكرة مراجعة الأقران في حد ذاتها. أقصد أن هذا يبدو في نظري مناهضًا للعلم. ليس هذا ما كنا [نحن المعارضين الأوائل للهندسة الوراثية] نقوم به. وهم لا يهاجمون تقنية، وإنما يهاجمون النتائج. إنهم يقولون إنه لا وجود لتغيُّر المناخ، وكل الأشخاص الذين يقولون إن تغيُّر المناخ يحدث هم محتالون علميون تلاعبوا عن عمد بنتائجهم.» لذا عندما تعلق الأمر بعلم الهندسة الوراثية، «شعرت أن ثمة مشكلة قطعًا في الاتجاه الذي كان البحث العلمي يسلكه، لكن ليس الأمر أن البحث العلمي في حد ذاته مخطئ، أو أن أحدًا كان يزور النتائج؛ كل ما شعرت به أنهم كانوا يطرحون الأسئلة الخاطئة.»
وأكد جورج أن قضية السلطة السياسية تكمن في جوهر مخاوفه بخصوص تطوير المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، سواء في الماضي في تسعينيات القرن العشرين عندما تحدث وكتب بقوة ضدها، أو في الوقت الحالي. وأخبرني قائلًا إن قضية سلامة الأغذية المتأصلة في جوهر التعديل الوراثي «لم تكن أبدًا أحد مخاوفي». ولم تشغله أيضًا تلك الفكرة، التي روَّج لها الأمير تشارلز فيما وصفه جورج بازدراء «خطبة شديدة التضليل وضعيفة الحُجة ومربكة»، القائلة بأن البشر يُجازفون بلعب دور الإله من خلال التلاعب بالجينات. علاوة على ذلك، كان سعيدًا بالاعتراف بأن «وجود إجماع علمي على سلامة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا أمر صحيح تمامًا.» وعلى الرغم من أن هذا كان محورًا لتغيير رأيي بشأن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، لم تكن هذه النقطة الأساسية على الإطلاق بالنسبة إلى جورج. وبخصوص هذا يقول جورج: «من وجهة نظري، كان الأمر كله متعلقًا بنفوذ الشركات، وبراءات الاختراع، والسيطرة، والتوسع، ونزع الملكية.» كانت هذه القضايا مثيرة للقلق للغاية في ذلك الوقت؛ لأن بذور «راوند أب ريدي»، التي رأى أنها «تبيد زراعة الأرض، حيث يمكنك أن تطور مزرعة كاملة من فول الصُّويا، ومنع أي نبات آخر ينمو بسبب أن مبيد راوند آب سيُبيد أي شيء آخر»، وما نتج عنه من هيمنة شركة مونسانتو على نشر الهندسة الوراثية، بالإضافة إلى إلغاء سيطرة المزارعين على تخزين البذور بحكم القانون من خلال براءات الاختراع التجارية للجينات.
ذكرني هذا بتعليق للكاتب في مجال البيئة الأمريكي ناثانيل جونسون، في فيلم وثائقي يحمل اسم «تطور الغذاء»، بأن الهندسة الوراثية «مجرد تقنية … ولا تتمتع بأي تكافؤ أخلاقي.» أوضحت لجورج أن من الممكن أن تختلف استخدامات التقنيات باختلاف الأشخاص؛ وأنه حتى وإن استغلتها شركة خاصة في مكان ما يظل بالإمكان استخدامها في مكان آخر من أجل النهوض بالصالح العام. ولعل في الذُّرة المقاوِمة للجفاف أو الموز المقاوم للأمراض الذي طورته مشروعات القطاع العام بأفريقيا أمثلةً على استخدام الهندسة الوراثية. وبالنظر إلى التكنولوجيا اليوم، اعترف جون بأنه كان على استعداد تام «ليأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الأمر لم يبقَ كما كان حين بدأتُ شن حملات ضدها … وأرى أن هناك بعض المشروعات المموَّلة من القطاع العام كان يمكن أن تحقق منافع عامة». غير أنه استطرد قائلًا: «كنت سأظل أطرح بعض الأسئلة الاستقصائية حول هذا الموضوع، مثل: كيف يغيِّر هذا توازن القُوى بين صغار المنتجين وكبار المنتجين، بين الأغنياء والفقراء، بين الدول الغنية والدول الفقيرة، بين الشركات والأفراد، بين الهيئات العامة والأشخاص؟ إن ميزان القُوى قضية بالغة الأهمية كثيرًا ما يتم تجاهلها عندما يتعلق الأمر بالسياسة العامة؛ لأن السياسة العامة تعتقد أنها مدفوعة بالتقييم العقلاني للتكنولوجيا، والتقدم الاقتصادي كما تُسميه، والنمو الاقتصادي، ولكن كل هذه الأشياء مُشبعة بعلاقات القوة. وإذا تابعت قضايا من هذا القبيل وأنت غافل عن علاقات القوة، فأنت بذلك تُعزِّز السلطة المهيمنة وحسب.»
•••
سألني جيم توماس في أول مرة تحدثنا فيها منذ أكثر من عقد قائلًا: «هل سبق لك أن قرأت كتاب لانجدون وينر: «الحوت والمفاعل النووي»؟» اعترفت بأنني لم أقرأه. فأردف قائلًا: «في رأيي، إنه الحجة الكلاسيكية ضد الطاقة النووية، حيث يقول ببساطة إن المفاعل النووي لا يمكن أن يكون له وجود إلا في دولة مركزية ذات قدر كبير من السلطة المركزية؛ لأنه يجب عليك الذَّوْد عنها، وبذا تحتاج إلى بنية تحتية أمنية وكل هذه الأمور؛ ولا يمكن أن تكون التكنولوجيا تكنولوجيا ديمقراطية، بل تتطلب أنظمة مركزية. وأرى أن هذا ينطبق نوعًا ما على التكنولوجيا الحيوية أيضًا، وطبيعة التكنولوجيا تهيئ الفرصة أمام استغلالها على النحو الأمثل من جانب المؤسسات الممولة جيدًا.»
كان شعورًا غريبًا أن أتحدث مرة أخرى إلى الرجل الذي أصبح شبه عدُو لي بعد تغيُّر قناعاتي؛ نظرًا لأنه كان أول من أثر فيَّ ودفعني إلى مناهضة الهندسة الوراثية في منتصف تسعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من أنني بدأت حديثي بالاعتراف بأنني أشعر ببعض التوتر قبل مكالمتنا عبر برنامج سكايب (إذ يعيش جيم في مقاطعة كيبيك الكندية مع زوجته وطفليه)، سرعان ما انخرطنا في حوار مفعم بالحيوية كأننا صديقين حميمَين، ربما كما ينبغي أن نكون. كان جيم توماس من الأشخاص الذين أردت الحديث إليهم على وجه الخصوص؛ ليس لأنه لعب دورًا كبيرًا في رحلتي الشخصية؛ وإنما لأنه كان يتمتع بمسيرة مِهنية ثابتة على المبادئ ومثيرة للإعجاب بصفته ناشطًا في مجال العدالة الاجتماعية وناقدًا للتكنولوجيا. فبعد أن بدأ مسيرته في منظمة السلام الأخضر بعد تخرجه في الجامعة بوقت قصير (حيث درس التاريخ مثلي)، انتقل قبل نحو عشر سنوات إلى مجموعة «إي تي سي جروب»، التي يرمز اسمها إلى «الاختصار الغريب: الحماية من التآكل والتكنولوجيا وتركيز الشركات»، على حدِّ قوله. ووفقًا له، يركز عمل مجموعة «إي تي سي جروب» على «كيف أن المزج بين التقنيات الناشئة وتركيز الشركات يمكن أن يؤدي إلى عمليات تآكل مختلفة: تآكل التنوع الحيوي، تآكل حقوق الإنسان، تآكل الديمقراطية، وهذا هو نوع المسائل الوجودية التي نستكشفها. نحن نحاول أن نفهم كيف تتَّحد أنماط استراتيجية تركيز الشركات مع التقنيات الناشئة لتغيير موازين القُوى.»
بالطبع، يبدو من السخف الزعم بأن أداة مثل المِطرقة هي بالأساس «أداة سياسية»، إلا إذا كنت تنظر إلى الأمر من منظور المسمار. وكما يوضح وينر قائلًا: «إن البحث عن فضائل أو رذائل في ركام الفولاذ والبلاستيك والترانزستورات والدوائر المتكاملة والمواد الكيميائية وما شابه ذلك يبدو خطأً بَيِّنًا، طريقة للتستر على المكيدة البشرية وتفادي المصادر الحقيقية، المصادر البشرية للحرية، والقمع، والعدالة، والظلم. وإلقاء اللوم على الأجهزة يبدو أكثر حماقة من إلقاء اللوم على الضحايا أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالحكم على ظروف الحياة العامة.» ولكن على الرغم من أن وينر يعارض «الحتمية التِّقانية» المبسطة — أي فكرة أن أدوات معينة تقود بالضرورة إلى نتائج اجتماعية أو سياسية محددة ذات صلة — فإنه يخلص إلى أن «الأشياء الاصطناعية قد تحتوي على خصائص سياسية.» ويختتم الكتاب بهجوم على الطاقة النووية بوصفها المثال الكلاسيكي للتكنولوجيات ذات الخصائص السياسية المتأصلة، مثلما أخبرني جيم توماس أيضًا، وحاجتها إلى التحكم المركزي والحماية، ومخلفاتها المتمثلة في النفايات المُشِعة وإنتاجها من النظائر التي يمكن تحويل مسارها أيضًا لإنتاج الأسلحة.
ويتساءل وينر قائلًا: «أجل، ربما نتمكن من إدارة بعض «المخاطر» التي تفرضها الطاقة النووية على صحة العامة وسلامتهم. ولكن مع تكيُّف المجتمع مع سمات الطاقة النووية الأخطر التي لا يمكن محو أثرها فيما يبدو، ما الأضرار البعيدة المدى التي ستقع على حرية الإنسان؟» ويقتبس قول عالِم البيئة دينيس هايز، صاحب فكرة «اليوم العالمي للأرض» في عام ١٩٧٠، الذي زعم ذات يوم قائلًا: «إن الانتشار المتزايد لمنشآت الطاقة النووية سيقود المجتمع حتمًا نحو الحكم الاستبدادي. في الواقع ربما لا يكون الاعتماد الآمن على الطاقة النووية بوصفها مصدرًا رئيسيًّا للطاقة ممكنًا إلا في دولة شمولية.» وفيما بعد ثبت أن هايز كان مخطئًا، في الحقيقة؛ ففي خلال ثمانينيات القرن العشرين، تحولت فرنسا إلى الكهرباء النووية بالكامل تقريبًا دون التخلي عن طابعها الديمقراطي في خضم هذه العملية. ولكنني، على صعيد آخر، أتفهم وجهة نظره؛ فعلى عكس ما يُطلَق عليه «أشكال الطاقة الناعمة» مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لا يتناسب الانشطار النووي مع التطبيقات المحدودة النطاق ذات التقنية المنخفضة. فلا تُبنى المُفاعلات النووية، بحسب التعريف غالبًا، بواسطة الجمعيات التعاونية القروية. وإنصافًا للحق، لا تُصنَع الألواح الضوئية الشمسية أيضًا في الجمعيات التعاونية ذات الأبنية الريفية القائمة على عوارض خشبية؛ فهي تُنتَج على نطاق هائل داخل المصانع الكبرى، على الرغم من إمكانية تركيبها بعد ذلك في موقع أصغر كثيرًا.
استعان ماندر بتشبيه السيارة ليوضح قضيته. فكتب يقول إنك إذا قبِلت بوجود السيارات، فإن هذا يقتضي ضِمنًا أيضًا قبول البنية التحتية للطرق، وصناعة النفط، وكذلك قبول «نمط حياة متسارع وحركة البشر عبر التضاريس بسرعات يستحيل معها الانتباه إلى ما ينمو هناك.» وعلى المنوال نفسه، «يحدد التليفزيون، في حد ذاته، سلفًا من سيستخدمه، وكيف سيستخدمه، والآثار التي سيخلفها على حياة الأفراد»، وكذلك يحدد، على نحو مخيف «نوعيات الأشكال السياسية التي ستظهر حتمًا.» وخلص ماندر إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك حل وسط مع وجود التليفزيون. فإما أنه يجب «التخلُّص منه تمامًا» وإلا فستختفي الديمقراطية من وجه الأرض.
من المثير أن تقرأ هذا الجدل العنيف بعد مرور نحو ٤٠ عامًا، بعد أن صار التليفزيون لا يمثل التجربة الجماعية للسلبية المجتمعية التي أثارت لدى ماندر قلقًا شديدًا حيالها في عام ١٩٧٨. فاليوم، لا أكاد أعرف أي أشخاص يجلسون لمشاهدة التليفزيون، فضلًا عن المشاركة في ذلك معًا بالتأكيد. لقد صارت الشاشات الإلكترونية تهيمن على حياتنا مثلما كانت تفعل من قبل — بل ربما أكثر من ذي قبل — ولكن مع ظهور الإنترنت، يبدو أن وسائل الاتصال الجماهيري قد تأثَّرت أكثر بقُوى الطرد المركزي، لا القوى المركزية. وهذا يضيف بُعدًا آخر للجدال ككل، وهو بُعد الوقت، مع تحول التقنيات من شكل إلى آخر في خضم عملية إعادة الاختراع والتغيير. ولا شك أن ما كان يعنيه التليفزيون في عام ١٩٧٨ لم يعُد يعنيه في عام ٢٠١٧. وفي ذلك كَتب ماندر يقول: «الحديث عن التليفزيون بوصفه «حياديًّا»، وبالتالي عرضة للتغيير، هو أمر عبثي، كالحديث عن إصلاح تكنولوجيا مثل تكنولوجيا الأسلحة.» غير أن التليفزيون قد تغيَّر فعلًا — ولم يسفر عن «فرض الحكم الاستبدادي» على نحو تلقائي. وعلى الرغم من أنه قد استُغِل بالتأكيد كأداة من جانب المستبدين حول العالم في فترات زمنية مختلفة، فإنه ساعد على لفت الانتباه إلى الظلم والنهوض بقضايا الحرية في فترات زمنية أخرى. وحتى الأسلحة، تلك التكنولوجيا المرتبطة بالموت والهلاك، يمكن استغلالها؛ إما للحفاظ على دولة بوليسية أو للتخلص من ديكتاتور مكروه.
وهذا كله يطرح السؤال الخاص بما إذا كان بمقدور أحد على الإطلاق أن يحدد مسبقًا ما ستئول إليه تكنولوجيا ما. وثمة أمثلة كثيرة توضح كيف أدى البحث عن أداة ما إلى تطور أداة أخرى لاحقًا أو اختراعها من الأساس، وما لهذا من تداعيات مختلفة تمامًا عادةً. وكما كتب تيم هاردفورد في كتاب له بعنوان: «٥٠ شيئًا صنع الاقتصاد الحديث»، فقد طُوِّر الرادار لأول مرة من خلال بحث الجيش البريطاني (خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية) عن «أشعة للموت» بالاستفادة من موجات الراديو المركزة. ويعتمد جهاز الآيفون — الجهاز الحديث المنتشر حاليًّا، الذي، بالمناسبة، سجلت عليه مقابلاتي الشخصية مع كل من جيم توماس وجورج مونبيوه — على ما لا يقل عن ١٢ تقنية منفصلة ساهمت في اختراعه، وطُوِّرت لأول مرة في القطاع العام لأغراض مختلفة تمامًا، وكان أغلب الدعم من الحكومة الأمريكية، ومن وزارة الدفاع الأمريكية في بعض الأحيان. وتشمل هذه التقنيات النظام العالمي لتحديد المواقع (أو نظام جي بي إس)، كما كتب هاردفورد يقول: «تقنية عسكرية بحتة، طُوِّرت أثناء الحرب الباردة ولم يُتَح استخدامها مدنيًّا إلا في ثمانينيات القرن العشرين»؛ والشبكة العالمية، التي طوِّرت على يد مهندس البرمجيات تيم برنرز-لي أثناء عمله على أبحاث في فيزياء الجسيمات بالمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن)؛ وبالطبع الإنترنت في حد ذاته، الذي بدأت شهرته كشبكة وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة (أربانت)، وهي شبكة من أجهزة الكمبيوتر مُموَّلة من البنتاجون، صُمِّمت بالأساس كشبكة موزعة للقيادة والتحكم، ربما تصمد أمام أي حرب نووية حال نشوبها. والشيء نفسه ينطبق على مكونات أخرى مثل شاشات اللمس والخوارزميات وبروتوكول نقل النص الفائق (بروتوكول إتش تي تي بي) وسيري المساعد الشخصي.
وبوضع كل هذه التقنيات في الاعتبار، سألت جيم توماس أثناء مكالمتنا عبر سكايب — أي باستخدام تقنية كانت تبدو أشبه بخيال من عالم ستار تريك في الوقت الذي كتب فيه جيري ماندر انتقاداته الرثائية عن التليفزيون — عما إذا كان بإمكاننا حقًّا استنتاج أي شيء بخصوص الطبيعة السياسية المتأصلة للتقنيات المختلفة؟ ألا يستخدم المزارعون في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى الهاتف المحمول، في النهاية، كأداة تحريرية؟ أجاب جيم قائلًا: «لديَّ فعلًا مخاوف بشأن التوسع الضخم للبنية التحتية للإنترنت عبر أفريقيا، وشراء الجميع هواتف محمولة، وتشغيل أنظمة الطاقة والأنظمة الزراعية، وقدر السلطة التي يمنحها ذلك في البداية لشركات الاتصالات ثم لاحقًا لشركات البيانات الضخمة. ليس من المفيد دائمًا رؤية الأمور من منظور فرد واحد على المدى القصير، والوعود المقدمة لهم؛ بل من الأفضل غالبًا أن نبتعد عن المشهد ونتساءل: كيف لهذا أن يُحدث تغييرًا في الزراعة، وكيف لذاك أن يغير الأنظمة الزراعية على مدى فترة زمنية معينة؟ وأين يجد المرء نفسه وسط كل هذا؟»
أما بخصوص التكنولوجيا الحيوية في حد ذاتها، كان جيم سعيدًا بالاعتراف بأن ثمة جدالًا حقيقيًّا كان يجب أن يدور حول تطبيقات الهندسة الوراثية الشعبية — المفتوحة المصدر — المطوَّرة من جانب القطاع العام. علق جيم قائلًا: «أظن أن من المثير للاهتمام أن نتساءل: أي طرف سيُحسَم الجدال لصالحه. هل سيئول الأمر في النهاية إلى المركزية، أم هل سيكون دومًا لصالح طلب سلطة مركزية كبرى، أم سيئول إلى موضع يصير فيه شيئًا يمكن لأي شخص تطويره واستخدامه ومشاركته وتحسينه بطريقة مجانية؟ إنها مناقشة مثيرة للاهتمام ولكن بالنظر إلى الأعوام العشرين الأخيرة لم يحدث شيء من هذا القبيل. لقد بات المجال العلمي والمجال الصناعي خاضعَين لسيطرة شركات الأدوية وشركات الكيماويات الزراعية الكبرى.»
ولا شك أن هذا صحيح؛ فمشروعات القطاع العام التي عمِلتُ عليها، مثل باذنجان بي تي في بنجلاديش أو الذُّرة الموفِّرة للمياه والمقاومة للجفاف في شرق أفريقيا، هي مشروعات صغيرة مقارنة بالحجم الإجمالي لمحاصيل السلع الأساسية في الأسواق الكبرى، مثل الصُّويا والذُّرة والكانولا المُعدَّلة وراثيًّا. إذن، هل كان جيم على استعداد للتمييز بين هذين الشيئين، لنقل باذنجان بي تي في بنجلاديش وصويا «راوند أب ريدي» في البرازيل؟ رد قائلًا: «ربما، ربما. إنه سؤال مثير للاهتمام. لا أعرف ما يكفي عن الأمر. ولكن ما هو واضح أن الجيل الأول من المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا كان يركز على منتجات الزراعة الأُحادية الكبيرة في أمريكا الشمالية، التي صُدِّرت بعد ذلك إلى أماكن أخرى كفكرة.»
وجاء دور ابنتي لتقطع حديثنا. قالت: «أبي، ألا تعلم أن موعد حصة الرقص قد حان؟ هيا، أسرع!» لا تحب روزا أن تتأخر عن حصة الرقص؛ في الواقع، إنها تحب الذهاب مبكرًا قبل بدء الحصة بعشرين دقيقة على الأقل، فقط لتُبقينا على أطراف أصابعنا وعلى أهبة الاستعداد للانطلاق، إذا جاز التعبير. كان جيم مُتَفهِّمًا جدًّا بصفته هو نفسه أبًا لطفلين. افترقنا ونحن على وئام. لا أستطيع التعبير عما شعرت به، ولكن أتذكر شعوري بالارتياح والتفاؤل على نحو غريب. الرجل الذي كنت صديقًا له من قبل، ثم بعد ذلك حسبته عدوًّا بغيضًا … حسنًا، بدا فجأة أن بإمكاننا أن نعود صديقَين مرة أخرى. كان هناك الكثير الذي ربما لا نزال مختلفَين بشأنه، لكن كان في مقدوري أن أرى أنه كان مفكرًا محنَّكًا، وأن دوافعه نبيلة وشريفة، وأنه كان ينجز عملًا مُهمًّا وقيِّمًا. وعلى نحو مربك نوعًا ما، تذكرت أيضًا مدى إعجابي به.
•••
غير أن المشكلة أمام أي ناقد للتكنولوجيا تكمن في الموضع الذي يرسم عنده الحد الفاصل. فمن المُغري أن نرسمه في الماضي القريب، ربما في مرحلة طفولتنا؛ إذ تبدو الأمور دومًا ألطف وأبطأ وتيرةً وأكثر أُلفة، بفضل الشعور بالحنين إلى الماضي. ولكن هذا النوع من الأحكام هي أحكام شخصية بحتة، تعتمد دومًا على تجاربنا الشخصية. فحتى الآلة الكاتبة القديمة كانت ستبدو في وقت ما آلةَ تهديد مخيف من منظور خطاط يستخدم ريشة الكتابة.
«في رأيي، يبدو أن التكنولوجيا في حد ذاتها تتمتَّع بزَخم يتجاوز أي قرارات نتخذها. ففي النهاية، إذا كنا — نحن البشر — نستطيع القيام بشيء ويعود علينا هذا الشيء بالنفع، فسنضطلع بالقيام به. إن المنظومة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية بأكملها أُعِدت ليكون هذا هو الوضع القائم. وفي هذا السياق، يمثل النشطاء البيئيون مجموعة احتجاجية صغيرة تستطيع أحيانًا أن تَكبَح المدَّ، ولكن ليس لمدة طويلة. ولذا أرى كل شيء نضطلع به يعمل من منطلق هذه الحقيقة؛ حقيقة تجرُّنا جرًّا إلى الكارثة التي صارت بالفعل قاب قوسَين أو أدنى لأن تحدث. وعندما أتحدث عن الجانب الروحاني أو المقدَّس في هذا السياق، لا أفكر في الأمر باعتباره شيئًا يمكن أن يُغير هذا الزخم أو يعوقنا عن الارتطام بحائط. ولكن أعتقد أنه شيء يمكننا أن نتمسك به، مثل حمل شعلة صغيرة في مهب العاصفة ومحاولة منعها من الانطفاء. في النهاية، ستمر العاصفة، وإن لم يكن هذا على حياة عينِنا، وربما ستستمر الشعلة مشتعلةً من بعدنا. وهذا أفضل ما يمكنني فعله في رأيي!»
في الواقع، أنا لا أشارك بول التشكيك العام بالمجتمع الصناعي، بيد أن هذا يرجع إلى أسبابي الشخصية الخاصة. فأثناء ولادة ابننا توم في مارس عام ٢٠٠٥، اضطُرت زوجتي ماريا إلى الخضوع إلى عملية قيصرية طارئة في مستشفى بأُكسفورد مجهز على أعلى مستوى لحسن حظنا، وهو مستشفى جون رادكليف. وبدون هذا التدخل الطبي الحديث، كان هناك احتمال كبير أن تموت الأم والابن معًا أثناء الولادة، مثلما حدث في حالات كثيرة جدًّا في الماضي القريب. وهذا ينطبق أيضًا على ولادة ابنتنا روزا التي وُلدت بعده بعامين. كما أنني أُصِبْتُ بالتهاب رئوي في عام ٢٠١١، وتدهورت حالتي تدهورًا سريعًا ومُميتًا إلى أن تم إنقاذي بحقنة وريدية بجرعة هائلة من المضادات الحيوية، تفضل الأطباء بإعطائي إياها في أحد المستشفيات بمدينة هيرفورد الإنجليزية، حيث تصادف وجودنا هناك في ذلك الوقت. إذن، ففي مجتمع ما قبل الصناعة، كانت عائلة لايناس بأكملها ستندثر. سَمِّني مُتحيزًا، لكنني كنت سأعتبر هذه كارثة لا تضاهيها كارثة أخرى في تاريخ الكون، ولا يسعها إلا التأثير على منظوري لمناقب العالم الحديث ومساوئه. في رأيي، كان هذا التوتر واحدًا من الدوافع الكامنة وراء الحداثة البيئية، بوصفها محاولة للتوفيق بين فوائد المجتمع الصناعي التي لا يمكن إنكارها وسلبياته التي لا يمكن إنكارها أيضًا، من خلال الاستعانة بأدوات الحداثة ومعارفها لإنقاذ العالم الطبيعي.
لعلها كانت رسالة ساخرة إلى حد الفَظاظة إلا أنني أرى أن كاتبها كانت لديه وجهة نظر سديدة؛ فالمخاوف الاقتصادية السياسية تتطلب تحليلًا لآثارها الماضية والمستقبلية على حدٍّ سواء. لقد حرَّرت الأدوات الحديثة الكثير من الناس، لا سيما النساء، من مشقَّة الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر. من أحد فيديوهات اليوتيوب المفضلة لديَّ فيديو لإحدى محاضرات منصَّة «تيد» ألقاها المعلم السويدي الراحلُ هانز روسلينج بعنوان: «هانز روسلينج وغسَّالة الملابس السحرية». في هذه المحاضرة، يحكي بأسلوب مؤثر كيف أن القدرة على غسل الملابس في آلة قد حرَّر جدَّته لأول مرة وجعلها تبدأ في قراءة الكتب.