العين
حينما كنتُ في الخامسة من عمري، أنجَبَ والداي فجأةً ولدًا، وقالَتْ أمي عنه إنه الشيء الذي لطالما كنتُ أريده. لا أدري من أين أتَتْ بتلك الفكرة، وأدخلَتْ عليها بعضَ التفاصيل التي كانت كلُّها خياليةً، لكنْ كان من الصعب مخالفتها.
وبعدها بعامٍ أنجَبَا بنتًا، وكانت هناك ضجةٌ أخرى، لكنها كانت أقلَّ من المرة الأولى.
حتى مجيء الطفل الأول، لم أكن أدري بأنني يمكن أن أشعر بشيءٍ يختلف عن ذلك الذي تقول أمي إنني أشعر به. وحتى ذلك الوقت، كانت روح أمي تملأ المنزل بالكامل؛ بخطواتها وصوتها وحتى رائحة بودرة التجميل التي كانت تفوح منها، المُنذِرة بسوء، التي كانت تملأ كلَّ الغُرَف حتى لو لم تكن موجودةً بها.
لماذا أقول إنها كانت مُنذِرةً بسوءٍ؟ فأنا لم أكن أشعر بالخوف من أمي. الأمر لم يكن أن أمي كانت تُملِي عليَّ ما يجب أن أشعر به حيال الأشياء؛ فقد كانت لها سلطةٌ في ذلك دون أن أستطيع مناقشتها، ليس فقط في مسألة أخي، وإنما أيضًا في مسألة حبوب ريد ريفر التي رأَتْ أنها مفيدة لي وأن عليَّ أن أحبها. وكذلك فيما يتعلَّق برؤيتي للصورة المعلَّقة في الجزء السفلي من فراشي، التي تُظهِر المسيح وهو يسمح للأطفال الصغار بأن يأتوا إليه. ليست المشكلة هنا في مسألة دعوة المسيح لهم، وإنما في الطفلة الصغيرة التي كانت شبه منزوية في أحد الأركان؛ لأنها كانت ترغب في الذهاب إلى المسيح ولكن الخجل يعتريها. قالت أمي إنني تلك الطفلة، وافترضتُ أنا أن الأمر كذلك، بالرغم من أنني لم أكن لأكتشف هذا إنْ لم تخبرني هي به، وكنتُ آمل ألَّا يكون الأمرُ كذلك.
لكن الشيء الذي شعرتُ حقًّا بالحزن حيالَه هو أليس في بلاد العجائب، وكيف أنها حُشِرَتْ وهي كبيرةُ الحجم في جحر الأرنب، لكني ضحكتُ لأنَّ أمي بَدَتْ سعيدةً.
ولكنْ مع قدوم أخي للحياة ومع التأكيدات المستمرة من جانب أمي بأنه كان على نحوٍ ما هبةً بالنسبة إلي، بَدَأْتُ أدرك كيف أن أفكار أمي عني قد تختلف بقدرٍ هائلٍ عن أفكاري عن نفسي.
أعتقد أن كل هذا كان يعدُّني للقاءِ سادي التي جاءَتْ لتعمل لدينا. انشغلَتْ أمي قليلًا عني لتعتني بالطفلَيْن، ومع عدم تواجُدِها بقُرْبي كثيرًا، كنتُ أستطيع أن أحدِّد ما هو صوابٌ وما هو غير ذلك. وكنت واعيةً بما يكفي بحيث لا أتحدَّث عن ذلك لأيِّ شخصٍ.
كان الشيء غير المألوف فيما يتعلَّق بسادي — على الرغم من أنه لم يكن أمرًا مهمًّا في منزلنا — هو أنها كانت شخصيةً معروفةً؛ فبلدتنا كانت بها محطةُ إذاعةٍ كانت سادي تعزف فيها على الجيتار وتشدو بالأغنية الافتتاحية التي كانت من تأليفها.
«مرحبًا، مرحبًا، مرحبًا بالجميع …»
وبعد نصف ساعة، تصبح «وداعًا، وداعًا، وداعًا للجميع.» وبين هذا وذاك، كانت تشدو بالأغاني التي تُطلَب منها، وكذلك ببعض الأغاني التي تختارها هي بنفسها. وكان الناس الأكثر رقيًّا في البلدة ينزعون إلى التندُّر على أغانيها وعلى المحطة بأكملها التي يُقال عنها إنها أصغر محطة بكندا. كان هؤلاء الأشخاص يستمعون إلى محطة بتورونتو التي كانت تذيع الأغاني الشعبية الذائعة الصيت في ذلك الوقت — مثل «السمكات الثلاث الصغار والسمكة الأم أيضًا» — وجيم هانتر وهو يذيع الأخبار البائسة الخاصة بالحرب. لكن الأشخاص في المزارع أحبوا الإذاعةَ المحلية وأنواعَ الأغاني التي كانت تشدو بها سادي؛ كان صوتها قويًّا وحزينًا، وكانت تغني عن الوحدة والحزن.
كانت معظم المزارع في هذا الجزء من البلاد قد أُزِيلت منذ نحو ١٥٠ عامًا، وبمقدورك أن تنظر من أي بيت ريفي وسترى أن أقرب بيت ريفي آخَر يقع على بُعْد بضعة حقول. إلا أن الأغاني التي كان يريدها المزارعون كانت كلها عن رعاة البقر الذين يعانون الوحدة، وسِحْر ووَهْم الأماكن البعيدة، والجرائم الشنعاء التي أدَّتْ إلى موت المجرمين وشفاهُهم تنطق أسماءَ أمهاتهم أو تنطق اسم الرب.
كان هذا ما تغنيه سادي بأسًى وبأخفض طبقات الصوت النسائية، لكن في عملها معنا كانت تمتلئ بالحيوية والثقة، وكانت سعيدةً عندما تتحدَّث، وبالأخص عندما تتحدَّث عن نفسها، لكن في الأغلب لم يكن هناك أحدٌ تتحدَّث إليه سواي؛ فالمهامُ التي كانت تقوم بها وتلك الخاصة بأمي لم تكن تجمعهما معًا معظم الوقت، وإلى حدٍّ بعيد، أعتقد أنهما ما كانا ليستمتعا بالحديث معًا على أية حال. كانت أمي شخصيةً جادةً كما سبَقَ أنْ أشرتُ، شخصيةً اعتادت التدريس في المدارس قبل أن تُدرِّس لي، وربما أرادَتْ أن تكون سادي شخصًا يمكن أن تعاوِنه وتعلِّمه كيف ينطق الكلمات على نحوٍ سليم. لكن سادي لم تُعْطِ أيَّ إشارةٍ على أنها كانت تحتاج إلى مساعدةِ أحدٍ أو أن تتحدَّث بطريقةٍ تختلف عمَّا اعتادَتِ التحدُّثَ بها دائمًا.
بعد الغداء، وجبة الظهيرة، نكون أنا وسادي بمفردنا في المطبخ. وكانت أمي تقتطع بعض الوقت لكي تغفو قليلًا، وإنْ حالَفَها الحظُّ كان يغفو معها الصغيران أيضًا، وعندما تستيقظ ترتدي ثيابًا مختلفةً كما لو أنها تتوقَّع أنْ تكون فترةُ ما بعد الظهيرة هادئةً دون متاعب، بالرغم من أن ثمة المزيد من الحفاضات التي كان يجب بالتأكيد تغييرها، وأيضًا بعض ذلك العمل غير المألوف الذي حاولْتُ جاهدةً ألَّا أتطلَّع إليه مطلقًا، حينما كانت أختي الرضيعة تلتقم أحدَ ثديَيْها وتلتهم اللبن منه.
كان أبي يحصل على غفوة هو الآخر؛ ربما لخمس عشرة دقيقة في الرواق، واضعًا صحيفة «ساترداي إيفننج بوست» على وجهه قبل أن يعود إلى عمله في الحظائر.
كانت سادي تُسخِّن المياه على الموقد وتغسل الأطباق بمساعدتي، وكانت تغلق الستائرَ حتى تحتفظ بالحرارة. وحينما كنا ننتهي من ذلك كانت تمسح الأرضيةَ وكنتُ أجفِّفها بطريقتي التي ابتكرتُها؛ حيث كنتُ أتزلَّج في أنحاء المطبخ على خرق التنظيف. ثم كنا ننزع بعدها لفائفَ الورق الصائد للذباب اللَّزِج الأصفر التي وضعناها بعد الإفطار، والتي امتلأت عن آخِرها بالذباب الأسود الميت أو ذلك الذي يطنُّ وعلى وشك الموت، ونعلق اللفائف الجديدة التي ستضحى مليئةً بذباب ميت جديد بحلول وقت العشاء. طوال هذا الوقت، كانت سادي تخبرني عن حياتها.
لم أكن حينَها أستطيع بسهولةٍ أن أُصْدِر أحكامًا بشأن أعمار الناس؛ كان الناس بالنسبة إليَّ إما أطفالًا وإما كبارًا، وكنتُ أعتقد أنها كبيرة؛ ربما كانت في السادسة عشرة من عمرها، وربما في الثامنة عشرة أو العشرين. وأيًّا ما كان عمرها، فلطالما أعلنَتْ أنها لم تكن تتعجَّل الزواج.
كانت تذهب لحفلاتِ رقصٍ كلَّ عطلةِ نهايةِ أسبوعٍ، لكنها كانت تذهب بمفردها. كانت تذهب بمفردها ولأجل نفسها، بحسب قولها.
كانت تحدِّثني عن صالات الرقص. كانت هناك واحدة في البلدة على مقربة من الشارع الرئيسي حيث تُقام ساحةٌ لممارسة لعبة الكيرلنج في الشتاء؛ كانت تدفع عشرةَ سنتات من أجل الرقصة الواحدة، ثم تصعد وترقص على المنصة والناس حولها يحدِّقون فيها ببلاهةٍ، لكنها لم تكن تُعِيرهم اهتمامًا. كانت تفضِّل دائمًا أن تدفع ثمنَ الرقصة حتى لا تكون مَدِينةً بالفضل لأحدٍ، لكنْ في بعض الأحيان كان يأتي إليها أحدُ الأشخاص قبل أن تصعد لمنصة الرقص، ويسألها إنْ كانت ترغب في الرقص، وأول شيء كانت تقوله له بفظاظةٍ هو: هل تستطيع أنت الرقص؟ هل تستطيع الرقص؟ فكان ينظر هو إليها بسخريةٍ ويردُّ بالإيجاب، ولسان حاله يقول: هل هناك سببٌ آخَر لتواجُدي هنا؟ ويتضح في الغالب بعد ذلك أن ما كان يَعْنِيه بالرقص هو جرُّ قدمَيْه ببطءٍ وعشوائيةٍ مع وضْعِ يدَيْه البدينتَيْن المتعرِّقتَيْن حولها. وفي بعض الأحيان كانت تبتعد عنه وتتركه وحيدًا وترقص بمفردها؛ وهو الشيء الذي كانت تحب أن تفعله على أية حال. ثم كانت تُنهِي الرقصة التي دُفِع مقابلها، وإذا ما اعترَضَ جامِعُ النقود وأراد أن تدفع ثمنَ رقصتين، بينما هي رقصة واحدة فقط، كانت تقول إنَّ ذلك يكفي بالنسبة إليه. كان من الممكن أن يضحك الجميع عليها وهي ترقص بمفردها إنْ أرادوا ذلك.
أما صالة الرقص الأخرى، فكانت خارج البلدة على الطريق السريع، وهناك كان المرء يدفع مقابلَ الرقص عند الباب، ولكن ليس من أجل رقصة واحدة وإنما لليلة بمجملها؛ كان اسم هذا المكان هو رويال-تي، وكانت تدفع لنفسها هناك أيضًا. وبنحوٍ عام، كان مستوى الراقصين هناك أفضل، لكنها كانت تحاول أن تأخذ فكرةً عن طريقة رقصهم قبل أن تجعلهم يصطحبونها إلى ساحة الرقص. كانوا في الغالب من سكان البلدة، بينما كان الأشخاص في المكان الآخَر ريفيين. كانوا يرقصون — أيْ سكان البلدة — على نحوٍ جيد، لكنْ لم تكن طريقةُ الرقص ما كان يشغلها دائمًا، وإنما المكان الذي يرغبون أن يُمسِكوا بها منه. كان عليها أن توبِّخهم بشدةٍ في بعض الأحيان وتخبرهم بما ستفعله بهم إنْ لم يتوقفوا عن ذلك، وكانت تجعلهم يعرفون أنها أتَتْ لهذا المكان من أجل الرقص، وأنها دفعَتْ لنفسها من أجل هذا. إضافةً إلى ذلك، كانت تعرف أين تضربهم، وكان هذا كفيلًا بأن يجعلهم يُحسِّنون من سلوكهم. وفي بعض الأحيان يكون هناك راقصون جيدون، وكانت تستمتع حينَها بالرقص معهم. وعندما كانت تنتهي الرقصةُ الأخيرة، كانت تندفع بسرعةٍ إلى المنزل.
قالت إنها ليست كالبعض؛ فهي لم تكن تريد أن تقع في أَسْر أحدٍ.
الأَسْر. عندما قالت ذلك، تخيَّلْتُ شبكةً ضخمة من الأسلاك وهي تهبط، وبعض الكائنات الصغيرة الشريرة وهي تلفها حول شخصٍ ما وتُحكِم ربْطَها حتى تخنقه ولا يستطيع أبدًا الفكاك منها. لا بد أن سادي لمحَتْ شيئًا كهذا على وجهي لأنها طلبَتْ مني ألَّا أخاف.
«ليس ثمة شيءٌ في هذا العالَم يثير الخوف، فقط اهتمِّي بنفسك ولا تهتمي بشأن الآخَرين.»
•••
قالت أمي: «أنتِ وسادي تتحدَّثان كثيرًا معًا.»
كنتُ أدري أن هناك شيئًا آتيًا يجب عليَّ أن أنتبه إليه، لكني لم أكن أعلم ما هو.
«إنك تحبينها، أليس كذلك؟»
قلت نعم.
«بالطبع أنتِ تحبينها، وأنا أيضًا أحبها.»
تمنَّيْتُ أن يكون هذا كلَّ ما في الأمر، وللحظةٍ اعتقدتُ أنه كذلك.
ثم قالت: «أنا وأنت لا نجد الآن الوقتَ الكافي لنمضيه معًا بسبب الطفلين؛ إنهما لا يمنحاننا الكثير من الوقت لنكون معًا، أليس كذلك؟ لكننا نحبهما، أليس كذلك؟»
سريعًا قلتُ نعم.
قالت: «حقًّا؟»
ولم تكن لتكفَّ إلا إنْ قلتُ حقًّا إنني أحبهما، فقلت هذا.
•••
كانت أمي تحتاج إلى شيءٍ ما بشدة؛ هل كان صديقاتٍ لطيفاتٍ؟ نساءً يلعبْنَ البريدج ويذهب أزواجُهن إلى العمل مرتدين بذلات كاملة؟ لا، ليس تمامًا، وليس ثمة أملٌ في حدوث ذلك على أية حال. أم كان هذا الشيء هو أنا كما اعتدت أن أكون، بخصلات شعري التي تشبه النقانق التي لم تكن تعجبني، وتلاواتي القديرة للكتاب المقدَّس في مدرسة الأحد؟ لم يَعُدْ لديها وقتٌ لتهتم بذلك، كما أن هناك شيئًا بي كان يفقد ولاءَه لها، بالرغم من أنها لم تكن تدري سبب ذلك، وأنا كذلك. لم أكوِّن أيَّ صداقاتٍ بالبلدة في مدرسة الأحد، لكني بدلًا من ذلك كنتُ أحبُّ سادي بشدةٍ؛ سمعتُ أمي تقول ذلك لأبي: «إنها تحب سادي حبًّا يصل لدرجة التقديس.»
قال أبي إن سادي عطيةٌ من الرب. ماذا كان يعني بذلك؟ كان يبدو مبتهجًا؛ ربما كان يعني أنه ما كان ليأخذ جانبَ أحدٍ.
قالت أمي: «كنتُ أتمنى أنْ تكون لدينا أرصفةٌ ملائمةٌ لها أمام المنزل؛ فلو كانت لدينا الأرصفة الملائمة، فلربما كانت قد تعلَّمَتِ التزلجِ بأحذيةٍ ذات عجلات وتكوينِ صداقاتٍ.»
كنتُ أرغب بالفعل في الحصول على أحذية تزلُّج ذات عجلاتٍ، لكني الآن، ودون أدنى فكرةٍ عن السبب، أعلم أنني لم أكن لأقرَّ بذلك قطُّ.
ثم قالت أمي شيئًا عن الأمر، وأنه سيتحسَّن حينما تبدأ الدراسة؛ شيئًا يتعلَّق بي سيحسِّن من وضعي، أو شيئًا يتعلَّق بسادي سيكون أفضل بالنسبة إليها. لم أرغب في سماع ما كانت تقوله.
كانت سادي تعلِّمني بعض أغانيها، وكنت أعلم أنني لا أغني جيدًا، وتمنَّيْتُ ألَّا يكون ذلك هو الشيء الذي ينبغي أن يتحسَّن وإلا فسيتوقف. لكني لم أكن أرغب أنْ يتوقَّف في حقيقة الأمر.
لم يكن لدى أبي الكثير ليقوله؛ فقد كانت أمي المسئولة عني إلا لاحقًا حينما أصبحتُ أردُّ بوقاحةٍ وكان الأمر يستلزم العقاب. وكان ينتظر حتى يشبَّ أخي ويكون من اختصاصه هو؛ فالصبي لا يكون التعامُل معه بمثل هذا التعقيد.
وبالقطع لم يكن أخي صعبًا في التعامُل معه؛ فقد شبَّ ليصبح إنسانًا رائعًا.
•••
والآن بدأت الدراسة؛ بدأَتْ منذ أسابيع وذلك قبل أن تصطبغ أوراقُ الأشجار باللونَيْن الأحمر والأصفر. والآن قد تساقَطَ معظمها. في أحد الأيام، خرجتُ مع أمي، ولم أكن أرتدي معطفَ المدرسة، وإنما ارتديتُ معطفي الجميل الذي أساورُ كُمِّه وياقتُه ذوات لون مخملي داكن. كانت أمي ترتدي المعطف الذي تذهب به إلى الكنيسة وغطاءً للرأس يغطِّي معظم شعرها.
كانت أمي تقود السيارة إلى المكان الذي كنَّا متجهين إليه. في أغلب الأحيان لم تكن تقود، وقيادتها دائمًا كانت أكثر رويةً، ولكنْ أقل وثوقًا، من قيادة أبي. وكانت تطلق النفير عند كل منعطف.
قالت: «الآن.» لكنها استغرقَتْ بعضَ الوقت لكي تركن السيارة.
«ها قد وصلنا إذن.» بَدَا أن نبرة صوتها كان الهدف منها تشجيعي. لمسَتْ يدي كي تعطيني فرصةَ أنْ أُمْسِك بيدها، لكني تظاهرتُ بأني لم ألحظ ذلك، فأبعدَتْ هي يدها.
لم يكن للمنزل ممرٌّ خاصٌّ أو حتى رصيف. كان منزلًا جميلًا لكنه بسيط للغاية. رفعَتْ أمي يدها التي كان يغطِّيها قفاز لتطرق الباب، لكنِ اتَّضَح أننا لم نكن بحاجةٍ إلى ذلك؛ فقد انفتح الباب من أجلنا. شرعَتْ أمي في قول شيءٍ مشجِّع لي — شيء من قبيل أن الأمر سيمرُّ بأسرع مما أظن — لكنها لم تُكمِل حديثها. كانت النبرة التي تحدَّثَتْ بها تحمل بعضًا من الحَزْم، لكنها كانت أيضًا باعثةً على بعض الارتياح، إلا أنها تغيَّرَتْ حينما فُتِح الباب لتصبح خافتةً وناعمةً أكثرَ؛ تهيُّبًا للموقف.
فُتِح الباب لكي يخرج بعض الأشخاص وليس فقط لكي نلج نحن منه، وقالت إحدى السيدات المغادرات — وقد استدارَتْ برأسها — بصوتٍ لم تحاول أن تخفضه على الإطلاق:
«إنها السيدة التي كانت تعمل لديها، والطفلة الصغيرة التي كانت تعمل على رعايتها.»
ثم جاءَتِ امرأةٌ متأنِّقة بعض الشيء وتحدَّثَتْ إلى أمي وساعدَتْها في خلْعِ معطفها. وبعد انتهاء ذلك، خلعَتْ أمي معطفي عني وقالت للمرأة إنني كنتُ مغرَمةً بسادي بشدة، وإنها تأمل بألَّا يكون ثمة إزعاجٌ من إحضاري.
قالت المرأة: «أوه، أيتها الصغيرة العزيزة.» وربَّتَتْ أمي عليَّ برفقٍ كيْ أحيي المرأة.
قالت المرأة: «سادي تحب الأطفال. إنها كذلك بالفعل.»
لاحظتُ أنه كان يوجد طفلان هناك؛ صبيان. كنتُ أعرفهما من المدرسة، أحدهما كان معي في الصف الأول، والآخَر كان يكبرني. كانا يختلسان النظرَ إلينا من مكانٍ الأرجحُ أنه كان المطبخ. كان الصبي الأصغر يمتلئ فمه بقطعة كعك كاملة على نحوٍ مضحك، وكان الآخَر، الأكبر سنًّا، ترتسم على وجهه أماراتُ الاشمئزاز؛ ليس تجاهَ الطفل الذي كان فمه ممتلئًا بالطعام، وإنما تجاهي أنا. كانا يبغضانني بالطبع؛ فالأولاد إما يتجاهلونك إنْ صادفوك في مكانٍ آخَر بخلاف المدرسة (وهم يتجاهلونك هناك أيضًا)، وإما يرسمون تلك التعبيرات على وجوههم ويسبُّونك بألفاظٍ قبيحة. اعتقدتُ أنه إنْ حدَثَ أنِ اقتربتُ من أحدهما، فسأشعر بالتوتر ولا أدري ماذا أفعل. بالطبع يختلف الأمر إنْ كان هناك بعض البالغين في المكان. بقيا الولدان هادئين، لكني شعرتُ ببعض التعاسة حتى جاء شخصٌ وجذَبَهما إلى المطبخ. ثم انتبهتُ بعدها إلى صوت أمي الشديد الرقة والتعاطف، بل إنه كان أكثر تهذيبًا من تلك المرأة التي كانت تتحدَّث إليها، وأعتقد أن تعبيرَ وجْهِ الصبي كانت أمي هي المقصودة به؛ ففي بعض الأحيان كان الناس يقلِّدون صوتَها حينما كانت تنادي عليَّ في المدرسة لتصحبني إلى المنزل.
كانت المرأة التي تحادِثُها أمي، والتي بَدَا أنها الشخص المسئول في المكان، تقودنا إلى جزءٍ من الحجرة حيث كان يجلس رجل وامرأة على أريكةٍ، وقد بَدَا عليهما كما لو كانا لا يَدْرِيان تمامًا سببَ تواجُدِهما هناك. انحنَتْ أمي نحوَهما وحدَّثَتْهما باحترامٍ شديد وعرَّفَتْهما بي.
قالت: «إنها تحب سادي بشدة.» كنتُ أدرك أن عليَّ أن أتفوَّه بشيءٍ حينها، لكنْ قبل أن أفعل، أطلقَتِ المرأة الجالسة هناك صرخةً عاليةً. لم تكن تنظر إلى أيٍّ منا، وبَدَا الصوت الذي صدر عنها أشْبَهَ بالصوت الذي يُطلِقه المرء حينما يعضُّه حيوانٌ ما أو يضايقه. راحَتْ تضرب ذراعَيْها بيدَيْها كما لو أنها قد أرادَتِ التخلُّصَ من الشيء الذي كان عليها، لكنه لم يتركها. نظرتُ إلى أمي كما لو أن أمي هي الشخص الذي ينبغي أن يفعل شيئًا حيال ذلك.
طلب منها الرجل أن تصمت.
قالت المرأة التي كانت تقودنا: «إنها منزعجة من الأمر بشدة. إنها لا تدري ماذا تفعل.» ثم انحنَتْ أكثرَ وقالت: «اهدئي. ستفزعين البنت الصغيرة.»
قال الرجل بإذعانٍ: «ستفزعين الطفلة الصغيرة.»
بمجرد أن انتهى من قول هذا، كانت المرأة قد كفَّتْ عن صراخها، وراحَتْ تربِّتُ على ذراعَيْها اللذين خدشَتْهما بيدَيْها كما لو أنها لم تكن تعرف ما الذي ألَمَّ بهما.
قالت أمي: «يا لها من امرأة مسكينة!»
قالت المرأة التي كانت تقودنا: «هي مجرد طفلةٍ أيضًا.» ثم قالت لي: «لا تقلقي.»
كنت أشعر بالقلق، لكنْ ليس حيال الصراخ.
كنتُ أدري أن سادي في مكانٍ ما هنا، ولم أكن أرغب في رؤيتها. لم تقل أمي لي صراحةً إنه عليَّ أن أراها، كما أنها لم تقل أيضًا إنه لا يتعيَّن عليَّ أن أراها.
لقيَتْ سادي مصرعَها في طريقِ عودتها إلى المنزل مَشْيًا من قاعة رقص رويال-تي؛ لقد صدمَتْها سيارةٌ في ذلك الطريق الضيِّق المفروش بالحصى بين ساحة انتظار السيارات التابعة لصالة الرقص وبداية الرصيف الرسمي للبلدة. لا بد أن سادي كانت تسير مُسرِعةً متَّبعةً نفسَ المسار الذي اعتادَتْ دائمًا أن تسلكه، وهي تعتقد دون شكٍّ أن السيارات لا يمكن أن تراها، أو ربما كانت تسير في المسار الصحيح كما هو الحال بالنسبة إلى السيارات، وانحرفَتِ السيارة التي كانت تسير خلفها عن طريقها وصدمَتْها، أو ربما كانت تسير في مسارٍ غير المسار الذي كانت تعتقد أنه المناسب. لقد صدمَتْها السيارة من الخلف، والسيارة التي صدمَتْها كانت تفسح الطريق لسيارةٍ كانت تسير خلفها، وتلك السيارة الثانية كانت تريد أن تأخذ المنعطفَ الأول نحو أحد شوارع البلدة. كان هناك أناسٌ يحتسون الشراب في قاعة الرقص بالرغم من أنه لم يكن مسموحًا بشراء الخمور هناك، ودائمًا ما كان هناك بعضُ الصراخ وإطلاقٌ لنفير السيارات وتغييرُ السيارات اتجاهها بسرعةٍ كبيرة بعد انتهاء الرقص. ربما كانت سادي تنطلق مسرعةً حتى دون مصباح جيب وتتصرَّف كما لو أنه من واجب الآخَرين أن يبتعدوا عن طريقها.
قالت المرأة التي كانت تحاول مصادَقةَ أمي: «فتاة دون صديقٍ تذهب للرقص سَيْرًا على الأقدام.» كانت تتحدَّث بصوت منخفض جدًّا وغمغمَتْ أمي بشيءٍ ينمُّ عن الآسف.
أضافَتْ هذه المرأة — وإنْ كان بصوتٍ أكثر خفوتًا — أن هذا كان يعني أنها كانت تسعى وراء المشاكل.
كنتُ قد سمعتُ حديثًا في المنزل لم أفهم كُنْهَه. أرادَتْ أمي فِعْلَ شيءٍ ربما كانت له علاقةٌ بسادي والسيارة التي صدمَتْها، لكنَّ أبي طلَبَ منها أن تنسى الأمر، وقال إننا ليسَتْ لدينا مصالح بالبلدة. لم أحاول حتى أنْ أعرف ماهية هذا الأمر لأني كنتُ أحاول ألَّا أفكِّر في سادي على الإطلاق، فضلًا عن مسألة موتها. وحينما أدركتُ أننا ذاهبون إلى منزل سادي، تمنَّيْتُ ألَّا نذهب، لكني لم أجد أيَّ طريقةٍ للهروب إلا بالتصرُّف بطريقةٍ تنطوي على مهانةٍ شديدةٍ.
والآن وبعد نوبةِ صراخِ السيدة العجوز، بَدَا لي أنَّ علينا أنْ نغادر ونعود إلى المنزل. لم أكن لأعترف مطلقًا بالحقيقة، وهي أنني في واقع الأمر أشعر برعبٍ شديدٍ عند رؤية أيِّ شخصٍ ميت.
وبينما كنتُ أفكِّر في أن هذا قد يكون ممكنًا، سمعتُ أمي والمرأة التي بَدَا أنها كانت تتآمر معها يتحدَّثان عن أمرٍ أسوأ من أيِّ شيءٍ آخَر.
كان هذا الأمر هو رؤية سادي.
كانت أمي تقول: نعم. بالطبع، ينبغي أن نرى سادي.
جثة سادي.
كنتُ قد أبقيتُ بصري تقريبًا لأسفل، ولم أكن أرى تقريبًا سوى هذين الصبيَّيْن اللذين كانا يفوقانني طولًا بالكاد، والرجل والمرأة العجوزَيْن اللذين كانا يجلسان. لكنَّ أمي الآن أمسكَتْ بيدي وسارَتْ بي في اتجاهٍ آخَر.
اتَّضَح أنه كان ثمة تابوت في الحجرة طوال الوقت لكني ظننتُه شيئًا آخَر. وبسبب قلة خبرتي، لم أكن أعرف تحديدًا كيف يكون شكل ذلك الشيء؛ كنت أعتقد أن الشيء الذي كنَّا نقترب منه ربما يكون رفًّا تُوضَع فوقه الزهورُ، أو بيانو مغلَقًا.
ربما كان الناس الملتفون حولَه قد أَخْفَوْا إلى حدٍّ ما حجمَه الحقيقي وشكلَه والغرضَ منه، لكنَّ هؤلاء الأشخاص الآن أخذوا يُفسِحون الطريقَ باحترامٍ، وأخذَتْ أمي تتحدَّث بنبرةِ صوتٍ جديدة شديدةِ الهدوء.
قالت لي: «اقتربي الآن.» لكنَّ رقةَ صوتها بَدَتْ لي بغيضةً، تعكس انتصارها.
انحنَتْ لتنظر إلى وجهي، وكنتُ متأكدةً أنها فعلَتْ ذلك لكي تمنعني ممَّا خطر في ذهني أنْ أفعله حينَها؛ وهو أن أُطْبِقَ عينَيَّ بشدةٍ. ثم أبعدَتْ نظرَها عني لكنها كانت تقبض على يدي بشدةٍ بين يدها. نجحتُ في أنْ أُخْفِض جفنيَّ بمجرد أن أبعدَتْ عينَيْها عني، لكني لم أغلقهما تمامًا خشيةَ أن أتعثَّر أو أن يدفعني شخصٌ آخَر إلى حيث لا أريد. لم أستطع أن ألمح سوى طيفِ الزهور المتيبسة ولمعةِ الخشب المطلِيِّ.
ثم سمعتُ أمي وهي تشهق وشعرتُ بها تبتعد، وسمعتُ صوتَ حقيبتها وهي تُفتَح. كان عليها أن تدسَّ يدَها في داخلها، وهكذا تراخَتْ قبضةُ يدها عن يدي، واستطعتُ أن أحرِّر نفسي منها. كانت تبكي، وكانت شهقاتها ودموعها هي ما حرَّرني من قبضتها.
ونظرتُ مباشَرةً إلى التابوت ورأيتُ سادي.
لم يُصَبْ عنقُها ولا وجهُها بسوءٍ في الحادث، لكني لم أَرَ كلَّ هذا على الفور؛ فقط تكوَّنَ لديَّ انطباعٌ بأنْ ليس هناك أماكنُ متضرِّرةٌ بشدة بجسدها كما كنتُ أخشى. أغلقتُ عينيَّ بسرعةٍ، لكني لم أَقْوَ على منْعِ نفسي من النظر إليها ثانيةً. نظرتُ أولًا للوسادة الصفراء الصغيرة الموضوعة أسفل عنقها، التي أخفت حنجرتها وذقنها ووجنتها التي كان بمقدوري أن أراها بسهولة. كانت الحيلة التي اتخذْتُها تتمثَّل في أنْ أرى جزءًا منها سريعًا، ثم أعود للنظر إلى الوسادة، وفي المرة التالية أستطيع رؤيةَ المزيد من الأجزاء التي لستُ خائفةً من النظر إليها؛ وهكذا حتى نظرتُ لجسدِ سادي، كله أو على الأقل كل ما كان يمكنني رؤيته من الجانب المتاح لي.
لقد تحرَّك شيءٌ. لقد رأيتُه، تحرَّكَ جفْنُها الذي كان من ناحيتي. لم يكن مفتوحًا أو شبه مفتوح أو أي شيء من هذا القبيل، لكنه ارتفَعَ بمقدارٍ ضئيلٍ جدًّا بحيث يتيح لها، لو كنت مكانها، لو كنت بداخلها، أن ترى ما بالخارج من خلال الرموش؛ ربما فقط للتمييز بين النور والظلام بالخارج.
لم أندهش حينها أو أشعر بالخوف على الإطلاق؛ فعلى الفور، عبَّرَتْ هذه النظرةُ عن كلِّ ما عرفتُه عن سادي، وبطريقةٍ ما عبَّرَتْ عن هذه التجربة الشديدة الخصوصية بالنسبة إلي. ولم أَسْعَ قطُّ لِلَفْتِ نظر أحدٍ إلى ما كان هناك، لأنه لم يكن موجَّهًا لهم، وإنما كنتُ أنا المعنِيَّة به بالكامل.
أمسكَتْ أمي بيدي ثانيةً وقالت إن علينا الرحيل. كان هناك المزيد من الحوارات، لكن لم يمر وقتٌ طويل، أو هكذا خُيِّلَ إليَّ، حتى وجدنا أنفسنا بالخارج.
قالت لي أمي: «أحسنتِ صنعًا.» ثم أمسكَتْ يدي بقوةٍ وقالت: «والآن، انتهى الأمر.» كان عليها أن تتوقَّف وتتحدَّث إلى شخصٍ آخَر كان في طريقه إلى داخل المنزل، ثم ولجنا بعدها في السيارة وشرعنا في القيادة صوب المنزل. كنتُ أعتقد أنها تنتظر مني أن أقول شيئًا، أو ربما حتى أن أخبرها بشيءٍ، لكني لم أفعل.
لم يَرِد على ذهني مطلقًا أيُّ خاطرٍ بشأن هذا الأمر، بل في الواقع تلاشَتْ سادي من ذهني بسرعةٍ كبيرةٍ بسبب صدمة الذهاب إلى المدرسة؛ حيث تعلَّمْتُ إلى حدٍّ ما أنْ أواجِهَ الأمرَ بمزيجٍ غريبٍ من الشعور بالخوف الشديد والتظاهُر بالتماسُك. وفي حقيقة الأمر تلاشى بعضٌ من أهميتها لديَّ في الأسبوع الأول من ديسمبر، حينما قالت إنَّ عليها أن تمكث في المنزل لتعتني بأبيها وأمها، وهكذا لم تَعُدْ تعمل لدينا منذ ذلك الحين.
وبعدها اكتشفَتْ أمي أنها كانت تعمل في معمل الألبان.
ومع هذا ولفترة طويلة، حينما كنتُ أفكِّر فيها، لم أتشكَّك مطلقًا فيما كنتُ أعتقد أنه تكشَّفَ لي، وبعد ذلك بفترة طويلة جدًّا حينما كنتُ لا أهتمُّ على الإطلاق بأيِّ أشياء غير طبيعية، كنتُ لا أزال أعتقد أن الأمر قد وقع بالفعل. كنتُ أُومِن بحدوثه ببساطةٍ بنفس الأسلوب الذي قد تُؤمِن به، بل في الواقع بنفس الأسلوب الذي قد تتذكَّر من خلاله أنه كان لديك صفٌّ آخَر من الأسنان، وقد تلاشى من ذاكرتك لكنه أمرٌ حقيقي وقع على الرغم من ذلك. حتى جاء ذلك اليوم، اليوم الذي ربما كنتُ فيه في سنوات المراهَقة وأدركتُ مع وجود بقعة معتمة في داخلي أنني لم أَعُدْ أُومِن بذلك بعدَ الآن.