الأصوات
حين بدأَتْ أمي تدخل مرحلةَ النضوج، كانت تذهب هي وأفراد عائلتها جميعًا إلى حفلات الرقص، وكانت تلك الحفلات تُقام في المدرسة وأحيانًا في أحد المنازل الريفية الذي كان يحوي حجرةً أماميةً كبيرة بما يكفي للوفاء بهذا الغرض. وكان الصغار والكبار على حدٍّ سواء يذهبون لتلك الحفلات، وكان أحدهم يعزف على البيانو — البيانو الخاص بالمنزل المستضيف للحفل أو الخاص بالمدرسة — وكان آخَر يُحضِر آلةَ كَمان. وكانت أنماط أو خطوات الرقص الرباعي معقَّدةً، وكان يحدِّدها للراقصين شخصٌ معروفٌ بموهبته الخاصة في الرقص، وذلك بأعلى صوته (فهو دائمًا ما يكون رجلًا) وبسرعة غريبة للغاية لن تكون ذات جدوى على الإطلاق، إلا إذا كنتَ تعرف تفاصيلَ هذا الرقص بالأساس، وهو الأمر الذي كان الجميع يتعلَّمونه حينما كانوا يبلغون العاشرة أو الثانية عشرة من العمر.
كانت أمي، المتزوِّجة الآن ولديها ثلاثة أطفال، لا تزال في عُمْرٍ وفي مزاجٍ يجعلانها تستمتع بتلك الرقصات إنْ كانت تعيش في البيئة الريفية الحقيقية التي لا تزال تُمارَس فيها تلك الرقصات. كانت ستستمتع أيضًا بالرقص الدائري الذي يؤدِّيه أزواجٌ من الراقصين، والذي حلَّ إلى حدٍّ ما محلَّ أسلوبِ الرقص القديم. لكنها كانت في موقف غريب، كنا جميعًا هكذا؛ كانت عائلتنا تقيم خارجَ المدينة، لكنها لم تكن فعليًّا تقطن في الريف.
أما أبي، الذي كان محبوبًا أكثر من أمي، فكان يؤمن بضرورة التكيُّف مع كل الظروف. لم تكن أمي كذلك؛ فقد نشأَتْ في إحدى المزارع لتصبح معلمةً، لكن ذلك لم يكن كافيًا؛ حيث لم يمنحها ذلك الوضعَ الذي كانت تتمنَّاه، أو الأصدقاءَ الذين كانت تودُّ أن تحظى بهم في المدينة. كانت تعيش في المكان الخطأ، ولم يكن لديها ما يكفي من النقود، لكنها لم تكن مهيَّأةً لذلك على أية حال. كان بإمكانها لعب اليوكر وليس البريدج، وكانت تشعر بالضيق لمرأى امرأة تدخِّن. أعتقد أن الناس كانوا يرونها عدوانيةً وتستعرض في استخدام قواعد النحو؛ كانت تقول عبارات من قبيل «عن طيب خاطر» و«وهو حقًّا كذلك»؛ كانت تبدو وكأنها نشأت في عائلةٍ غريبةٍ تتحدَّث دومًا بهذا الأسلوب. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إليها، وكذا بالنسبة إلى عائلتها؛ كان أخوالي وخالاتي في مزارعهم يتحدَّثون بنفس الأسلوب الذي كان يتحدَّث به أي شخص آخَر، كما أنهم أيضًا لم يكونوا يحبون أمي كثيرًا.
لا أعني أنها كانت تمضي كلَّ وقتها وهي تتمنَّى لو كانت الأمور مختلفةً عمَّا هي عليه الآن؛ فشأنها شأن أي امرأة أخرى كانت لديها أوعيةُ غسيل تحملها إلى المطبخ، وليست لديها مياهٌ جاريةٌ، وكانت في حاجةٍ إلى أنْ تمضي معظم أوقات الصيف وهي تُعِدُّ الطعامَ الذي سيتم تناوله في الشتاء. كانت مشغولة دومًا، حتى إنه لم يكن بمقدورها أنْ تخصِّص وقتًا أكثر بخلاف ذلك الذي كانت تخصِّصه للشعور بخيبة الأمل تجاهي، متسائِلةً عن سبب عدم جَلْبي للأصدقاء الملائمين، أو أي أصدقاء على الإطلاق، إلى المنزل من مدرسة المدينة؛ أو سبب تجنُّبي المشارَكة في تلاوات الكتاب المقدس في مدرسة الأحد، وهو شيء اعتدتُ المداوَمةَ عليه؛ أو سبب عودتي إلى المنزل وقد فككتُ جدائلَ شعري، وهو خرْقٌ للنظام كنتُ أمارِسه حتى قبل أن أذهب إلى المدرسة لأنه ما من أحدٍ كان يصفِّف شعرَه على النحو الذي كانت تصفِّفه لي؛ أو في واقع الأمر سبب تعلُّمي التوقُّف عن استخدام قدرتي الهائلة على الحفظ في حفظ الشعر، حيث إنني كنتُ أرفض الآن أن أستخدمها من أجل التباهي بها.
•••
لكني لم أكن دومًا في حالات غضب وخلاف. ليس بعدُ؛ فها أنا ذا أتذكر حين كنت في حوالي العاشرة من عمري وكنتُ حريصةً على التأنُّق ومرافَقة أمي إلى إحدى حفلات الرقص.
كانت الحفلة مقامةً في منزل ذي مظهر لائق — إنْ لم يكن شديد الفخامة — كان يقع في طريقنا؛ كان منزلًا خشبيًّا ضخمًا يقطنه أشخاصٌ لم أكن أعرف أيَّ شيءٍ عنهم، فيما عدا أن صاحبه كان يعمل في المسبك بالرغم من أنه كان متقدِّمًا في العمر بدرجة كافية لأنْ يكون في عُمْر جدي. إن المرء لم يكن في ذلك الوقت ليترك عمله في المسبك؛ فقد كان يعمل ما دام العمل باستطاعته، ويحاول أن يدَّخِر النقود للوقت الذي لا يكون باستطاعته أن يعمل فيه؛ فقد كان من العار — حتى في أثناء ما تعلَّمْتُ أنْ أُطلِق عليه فيما بعدُ الكساد العظيم — أن تجد أنه يجب عليك أن تتقدَّم للحصول على معاش شيخوخة، وكان من العار على أبنائك البالغين أن يسمحوا بذلك، مهما كانت الضوائقُ المالية التي كانوا يمرون بها.
يقفز الآن إلى ذهني بعض الأسئلة التي لم تقفز إليه حينها.
هل كان الأشخاص الذين يعيشون في هذا المنزل يُقِيمون الحفلةَ لمجرد خلق مناخٍ من البهجة؟ أم أنهم طلبوا نقودًا مقابل ذلك؟ ربما وجدوا أنفسهم يمرون بمشاكل مالية، حتى لو كان الأب يعمل. إنها فواتير الأطباء؛ أعلم مدى العبء الذي يمكن أن تُلْقِيه هذه الفواتير على كاهل أيِّ عائلة. كانت صحة أختي الصغيرة ضعيفةً، كما كان الناس يقولون، وقد استأصلنا لها لوزتَيْها بالفعل. وكنتُ أعاني أنا وأخي من التهابٍ شعبيٍّ حادٍّ كلَّ شتاء ممَّا ينتج عنه قدومُ الطبيب لعلاجنا؛ يتكلَّف العلاجُ الكثيرَ من النقود.
السؤال الآخر الذي ربما يكون قد قفز لذهني هو: لماذا اخترتُ أنْ أصحب أمي بدلًا من أبي؟ لكن الأمر لم يكن لغزًا كبيرًا؛ فربما كان أبي لا يهوى الرقصَ بعكس أمي. أيضًا كان هناك طفلان آخَران يجب الاعتناء بهما في المنزل، ولم أكن كبيرةً وقتَها بدرجةٍ تكفي للقيام بذلك، ولا أستطيع أن أتذكَّر أن والديَّ قد استأجرَا يومًا جليسةَ أطفال، ولستُ واثقةً إنْ كان هذا المصطلح حتى مألوفًا في تلك الأيام أم لا؛ فحينما كنتُ في سنوات المراهَقة وجدتُ وظائفَ في هذا المجال، لكنَّ الوقت كان قد تغيَّر حينها.
تأنَّقْنا للذهاب. في رقصات الريف التي تذكَّرَتْها أمي، لم يكن هناك أيُّ ظهورٍ على الإطلاق لملابس الرقص الرباعي القديمة الطراز التي ستراها لاحقًا في التليفزيون؛ فقد كان كل شخصٍ يرتدي أفضل ما لديه، ويُعَدُّ عدم فعل ذلك — أيِ ارتداء أيِّ شيء من قبيل الملابس المكشكشة والمناديل التي كانت تُلَفُّ حول الرقبة، وهي الملابس المعروفة لدى أهل الريف — بمنزلة إهانة للمضيفين وللجميع. ارتديتُ ثوبًا صنعَتْه أمي من أجلي، من الصوف الشتوي الناعم؛ كانت التنورة قرنفليةَ اللون والجزءُ العلوي من الثوب أصفرَ، مع وجود قلبٍ من الصوف القرنفلي محاك في المكان الذي كان سيظهر فيه نهدي الأيسر في يومٍ من الأيام. وكان شعري مصفَّفًا ومبلَّلًا ويتخذ شكلَ جدائل عريضة طويلة شبيهة بالنقانق التي كنتُ أفكُّها كلَّ يوم وأنا في طريقي إلى المدرسة. وقد تذمَّرْتُ من تصفيف شعري على هذا النحو في حفلة الرقص بحجةِ أنه لا أحدَ يصفِّف شعره على هذا النحو؛ فردَّتْ أمي بأنه ليس هناك أحدٌ محظوظ جدًّا مثلي. كففتُ عن الشكوى لأني كنتُ أرغب في الذهاب بشدةٍ، أو ربما لأني اعتقدتُ أنه لن يتواجد أحدٌ من المدرسة في الحفلة؛ لذا لم يكن يهم ذلك الأمر، كانت سخريةُ أقراني مني هي دومًا الشيءَ الذي كنتُ أخشاه.
لم يكن ثوب أمي من صنع يدَيْها؛ كان أفضل ثوب لديها، وكان شديدَ الأناقة بحيث لا يمكن ارتداؤه عند الذهاب إلى الكنيسة، ومُبْهِجًا جدًّا بحيث لا يمكن ارتداؤه في أي جنازة؛ لذا نادرًا ما كانت ترتديه. كان مصنوعًا من القطيفة السوداء، بكُمَّيْن يصلان حتى مرفقَيْها، وتقويرة عالية، والشيءُ الرائع به هو انتشار حبَّات الخرز الصغيرة، ذات اللون الذهبي والفضي ومن كل الألوان، المحاكة جميعها في كل أنحاء الجزء العلوي من الثوب، والتي كانت تمتص الضوء، وتتلألأ متَّى تحرَّكَتْ أمي أو حتى تنفَّسَتْ. ضفَّرت شعرها، الذي كان لا يزال معظمه باللون الأسود، ثم ثبتَتْه بتاجٍ صغير بأعلى رأسها. لو كانت شخصًا آخَر غير أمي، لَكنتُ رأيتُ أنها جميلةٌ بدرجةٍ مثيرة. أعتقد أني كنتُ أراها هكذا، لكن بمجرد أنْ ولجنا هذا المنزل الغريب، لاحظْتُ أن أفضل ثوبٍ لديها لا يشبه ثوبَ أيِّ امرأةٍ أخرى، بالرغم من أنهن كنَّ يرتدين أفضلَ ما لديهن أيضًا.
والنساء الأخريات التي أتحدَّث عنهن كنَّ يتواجدن في المطبخ؛ حيث توقَّفْنا ورحنا ننظر إلى الأشياء المرصوصة على منضدة كبيرة؛ كان عليها كلُّ أنواع التارت والكوكيز والفطائر والكعك، وقد وضعَتْ أمي هي الأخرى نوعًا فاخرًا من الحلوى كانت قد أعَدَّتْه وراحَتْ ترتِّبه باهتمامٍ حتى تحسِّن من مظهره، وعقَّبَتْ بأن كل شيء كان يبدو مُسِيلًا لِلُّعاب.
هل أنا واثقة من أنها قالت ذلك؛ مُسِيلًا لِلُّعاب؟ أيًّا كان ما قالَتْه، فلم يكن يبدو صحيحًا تمامًا. تمنَّيْتُ حينَها أن يكون أبي موجودًا لأن كلامه دائمًا ما يكون ملائمًا بشدة للمناسبة، حتى لو كان يتحدَّث بأسلوب نحوي سليم. كان يفعل ذلك داخل المنزل ولكن ليس بسهولةٍ خارجَه. كان يندمج في أي حديثٍ بسهولة؛ كان يَعِي أن الشيء الذي ينبغي عمله هو عدم التفوُّه بكل ما هو غريب؛ أما أمي، فكانت على النقيض تمامًا؛ فبالنسبة إليها، كان كل شيء واضحًا، ورنَّانًا، ويهدف إلى جذب الانتباه.
كان ذلك يحدث الآن وسمعتُها تضحك في سعادة، كما لو أنها كانت تحاوِل تعويضَ عدم حديثِ أيِّ شخصٍ معها. كانت تتساءل عن المكان الذي يمكن أن نضع فيه معطفَيْنا.
اتضح أنَّ بإمكاننا أنْ نضعهما في أيِّ مكان، وقال أحدهم إنه بمقدورنا، إنْ رغبنا، أنْ نضعهما على الفراش بالطابق العلوي. إنك تستطيع الوصول إلى الطابق العلوي من خلال دَرَج تحيط به الجدران، ولم يكن هناك أي أضواء إلا بالأعلى. طلبَتْ مني أمي أن أصعد، وقالت لي إنها ستلحق بي في غضون دقيقة، وقد فعلتُ.
والسؤال الذي قد يطرح نفسه الآن: هل كان يُدفَع مقابلٌ نقديٌّ لحضور تلك الحفلة؟ كان من الممكن ألَّا تحضرها أمي وتنتظر حتى ترتِّب أخرى في منزلها. ومن ناحية أخرى، هل كان يُطلَب من الناس أن يدفعوا مقابلَ حضورِ الحفل، وفي نفس الوقت يُحضِرون كلَّ أنواع الحلوى هذه؟ وهل كانت تلك الحلوى كثيرةً حسبما أتذكَّر؟ والحاضرين كلهم من الفقراء؟ لكنهم ربما كانوا بالفعل لا يشعرون بأنهم فقراء جدًّا، مع وجود وظائف الحرب وما يرسله الجنود من نقود إلى منازلهم. إنْ كنتُ وقتَها حقًّا في العاشرة من عمري، وأعتقد أني كنتُ كذلك، فقد كانت تلك التغيُّرات إذن قد بدأت تحدث منذ عامين.
كان الدَّرَج الذي يبدأ عند المطبخ، وكذا الذي يبدأ عند الغرفة الأمامية، يلتقيان في شكلِ مجموعةٍ من الخطوات التي تؤدِّي إلى غُرَف النوم. وبعدما تحرَّرْتُ من المعطف ومن حذائي العالي الرقبة في غرفة النوم الأمامية المرتبة، كان لا يزال بإمكاني سماع صوت أمي يرنُّ في المطبخ، لكن كان بإمكاني أيضًا سماع صوت الموسيقى وهي تأتي من الحجرة الأمامية؛ لذا هبطت في اتجاهها.
أُخلِيت الحجرة من كل قِطَع الأثاث فيما عدا البيانو، وكانت تنسدل على النوافذ مجموعةٌ من الستائر القماشية ذات اللون الأخضر الداكن، من النوع الذي كنتُ أراه كئيبًا. لكنْ لم يكن هناك أيُّ جوٍّ من الكآبة داخل الحجرة؛ فقد كان يرقص هناك الكثير من الأشخاص، ويُمسِك كلٌّ منهم بالآخَر بوقارٍ، ويتحركون أو يتمايلون في دوائر صغيرة. كانت هناك فتاتان لا تزالان في المدرسة ترقصان بطريقةٍ أضحَتْ شائعةً حينَها منذ فترة قصيرة، حيث كانتا تتحرَّكان وكلٌّ منهما تواجِه الأخرى، مشبكتين أيديهما في بعض الأحيان. ابتسما بالفعل لتحيتي عندما رآني، وحينها غمرني شعورٌ بالسعادة، وهو الشعور الذي كان يعتريني عادةً عندما تُعِيرني اهتمامَها أيُّ فتاة تكبرني لديها ثقة في نفسها.
كان في الحجرة امرأةٌ لا يمكن ألَّا تلفت انتباهَ المرء، امرأةٌ ترتدي ثوبًا يفوق بالتأكيد ثوب أمي روعةً وأناقةً؛ لا بد أنها كانت تكبر أمي كثيرًا؛ كان شعرها شائبًا، ينسدل في نعومةٍ ورقيٍّ فيما كان يُطلَق عليه الشعر المموج الذي على طراز مصمِّم الشعر الفرنسي مارسيل جراتو، بالقرب من فروة رأسها. كانت امرأةً ضخمةً ذات كتفَيْن ممتلئتين ووركين عريضتين، وكانت ترتدي ثوبًا ذا لون برتقالي مائل إلى الذهبي من قماش التفتة، كان ذا رقبة مربعة الشكل ومكشوفَ الصدر، وتنورة تغطِّي ركبتَيْها فقط. وكان كماه القصيران ملتصقين بشدة بذراعَيْها، فبَدَا لحمهما مكتنزًا، وناعمًا، وأبيض مثل شحم الخنزير.
كان مظهرها يبعث على الدهشة؛ كنتُ أعتقد أنه لا يمكن أن يكون الشخص متقدِّمًا في العمر وفي نفس الوقت لافتًا للأنظار، ضخمًا ولكنه جميل، جريئًا لدرجةِ الوقاحة ومع ذلك شديد الرصانة. بمقدورك أن تصفها بأنها صفيقة، وربما كان هذا ما قالَتْه أمي عنها لاحقًا؛ فتلك كانت الكلمة التي تستخدمها دومًا. ربما يصفها أحدهم الأقل عدائيةً تجاهَها بأنها مهيبة. لم تكن في واقع الأمر تتباهى بذاتها، فيما عدا شكل فستانها ولونه. كانت هي والرجل الذي كان بصحبتها يرقصان معًا بوقارٍ وبذهنٍ شاردٍ بعضَ الشيء، تمامًا مثل الأزواج.
لم أكن أعرف اسمها؛ فأنا لم أَرَها من قبلُ، ولم أكن أعرف أنها كانت سيئةَ السمعة في مدينتا، وربما في أماكن أبعد من ذلك، بحسب علمي.
أعتقد أنني لو كنتُ أكتب عملًا أدبيًّا بدلًا من أن أتذكَّر حَدَثًا مررتُ بي، ما كنتُ لأجعلها أبدًا ترتدي ذلك الثوب؛ فهو نوع من الدعاية لنفسها ليسَتْ بحاجةٍ إليه.
بالطبع لو كنت أعيش في المدينة، بدلًا من أن أذهب إليها وأعود منها كلَّ يوم عند ذهابي للمدرسة، لربما كنتُ سأعلم أنها عاهرةٌ معروفة، ولكنتُ بالطبع رأيتُها يومًا ما، وإنْ كانت غير مرتدية هذا الثوب البرتقالي، ولَمَا كنتُ استخدمتُ كلمةَ عاهرة، كنت سأستخدم امرأةً سيئةً على الأرجح، ولَكنتُ سأعلم أن هناك شيئًا باعثًا على الاشمئزاز، وخطيرًا، ومثيرًا وجريئًا بشأنها، دون أن أعرف تحديدًا كُنْهَ هذا الشيء. وإذا ما حاوَلَ أحدُهم أن يُخبِرني به، أعتقد أنني لم أكن لأصدِّقه.
كان هناك العديد من الأشخاص في المدينة الذين كانوا يبدون غير عاديين، وربما كانت هي ستبدو بالنسبة إليَّ واحدةً منهم. كان هناك ذلك الرجل الأحدب الذي كان يُلمِّع أبوابَ مبنى مجلس المدينة كلَّ يوم، وعلى حدِّ علمي لم يكن يفعل أي شيء آخَر. وهناك أيضًا المرأة ذات المظهر الجيد التي لا تتوقَّف أبدًا عن الحديث لنفسها بصوتٍ مرتفع، مُوجِّهةً السبابَ لأشخاصٍ غير موجودين حولها.
وكنتُ سأعلم قبلًا اسمَها وأكتشف في النهاية أنها كانت حقًّا تفعل الأشياء التي لم أكن أصدِّق أنها يمكن أن تفعلها، وأن الرجل الذي رأيتُه يراقصها، والذي ربما لم أكن لأعرف اسمه على الإطلاق، هو مالك صالة البلياردو. في أحد الأيام حينما كنتُ في المدرسة الثانوية تحدَّتْني فتاتان من المدرسة أنْ أستطيع الدخولَ إلى صالة البلياردو حينما مرَرْنا بجوارها، وقد فعلتُ، وكان متواجِدًا بها، كان هو نفس الرجل الذي كان يراقِصها. هذا بالرغم من أن مساحةَ الصلع زادَتْ في رأسه الآن وزاد وزنه، وكان يرتدي ملابسَ أقلَّ أناقة، ولا أتذكَّر أنه قال شيئًا لي حينها، بل لم يكن عليه ذلك؛ فقد عدتُ أدراجي إلى صديقتيَّ، اللتين لم تكونا من صديقاتي القريبات في واقع الأمر، ولم أخبرهما بشيء.
حينما رأيتُ مالك صالة البلياردو، استرجعتُ مشهدَ الرقص بالكامل؛ البيانو الضخم، والموسيقى المعزوفة على الكمان، والثوب البرتقالي الذي كنتُ سأصفه حينها بالسخيف، وظهور أمي المفاجئ بمعطفها الذي من المحتمل أنها لم تخلعه هناك على الإطلاق.
ها هي هناك، تناديني باسمي وسط الموسيقى المعزوفة بنبرةِ صوتٍ كنتُ أبغضها على وجه الخصوص، النبرة التي بَدَا أنها كانت تذكرني بنحوٍ خاصٍّ بأنَّ لها الفضلَ في وجودي على تلك الأرض من الأساس.
قالت: «أين معطفك؟» قالت ذلك كما لو كنتُ قد فقدتُه في مكانٍ ما.
«بالطابق العلوي.»
«حسنًا، اذهبي وأحضريه.»
لو كانَتْ صعدت إلى الطابق العلوي، لَكانت رأَتْه؛ لا بد أنها لم تتخطَّ عتبةَ المطبخ، وأنها كانت ترتِّب الأطعمةَ وهي مرتديةٌ معطفها الذي حلَّتْ أزراره ولكنها لم تخلعه، وذلك حتى نظرت باتجاه الغرفة التي كان بها الرقص وعرفت مَن هي الراقصة ذات الثوب البرتقالي.
قالت: «لا تتأخري.»
لم أكن أنوي أن أتأخر. فتحتُ البابَ المؤدِّي إلى الدَّرَج وهرولتُ عبر الدرجات الأولى، ووجدتُ أنه عند المكان الذي ينعطف عنده الدَّرَج كان هناك أناسٌ يجلسون ويعترضون طريقي. لم يشاهدوني وأنا أقترب منهم؛ فقد بَدَا أنهم كانوا منشغلين بشيءٍ مهم؛ لم يكونوا منهمكين في نقاشٍ على وجه التحديد، وإنما كان نوعًا من الحوار العاجل.
كان هناك رجلان فقط من بين هؤلاء الأشخاص؛ شابان يرتديان زيَّ القوات الجوية؛ كان أحدهما يجلس على إحدى الدرجات، والآخَر يميل للأمام مستندًا إلى درجةٍ أسفل من تلك التي كان الشاب الآخَر يقف عليها، واضِعًا يده على ركبته. وكانت هناك فتاة تجلس على الدرجة التي تعلوهما، وكان الشاب الأقرب إليها منهما يربِّت على رجلها على نحوٍ مواسٍ. اعتقدتُ أنها لا بد وأن سقطت على تلك الدرجات الضيقة وجُرِحت، لأنها كانت تبكي.
بيجي. كان اسمها بيجي. «بيجي، بيجي»، هذا ما كان يقوله الشابان بنبرةِ صوتٍ متلهفة وحنونة أيضًا.
قالَتْ شيئًا لم أستطع تبيُّنَه؛ كانت تتحدَّث بنبرةِ صوتٍ طفولية. كانت تشتكي بنفس الأسلوب الذي يشتكي به المرء من شيء مجحف؛ فتجد نفسك تقول مرارًا وتكرارًا إنَّ شيئًا ما غير منصف، لكنْ بصوت يائس، كما لو أنك تتوقَّع أن هذا الشيء غير المنصف لا يمكن أن ينصلح أمره. «وضيع» هي كلمة أخرى يمكن أن تُستخدَم في ظل هذه الظروف. إنه وضيع للغاية؛ كان هناك شخصٌ وضيعٌ للغاية.
بإنصاتي إلى حديث أمي مع أبي حينما عدنا إلى المنزل، عرفتُ جانبًا ممَّا حدث، لكني لم أستطع أن أفهمه تمامًا. لقد ظهرت السيدة هتشيسون في حفلة الرقص، يصاحبها الرجل صاحب صالة البلياردو، الذي لم يكن معروفًا لديَّ وقتذاك بأنه صاحب صالة البلياردو، ولا أدري الاسمَ الذي نادَتْه به أمي، لكنها كانت مصدومةً بشدة من سلوكه. تردَّدَتْ بعضُ الأخبار عن حفلة الرقص وقرَّرَ بعض الشباب من بورت ألبرت — أيْ من قاعدة القوات الجوية — المجيء لحضوره. لم يكن هناك شيء يعيب هؤلاء الشباب، أما الخزي فقد تمثَّل في السيدة هتشيسون والفتاة.
لقد أحضرَتْ إحدى بناتها معها.
قال أبي: «ربما اعتقدَتْ أنها مجرد نزهة، ربما كانَتْ ترغب فقط في الرقص.»
بَدَا أن أمي حتى لم تسمع ذلك، وقالت إنه من العار أن يحدث هذا. إنك تتوقَّع أن تمضي وقتًا لطيفًا، رقصة هادئة رقيقة في منزل قريب منك، ثم بعدها يفسد كل شيء.
كانت لديَّ عادةُ تقييم شكل الفتيات الأكبر سنًّا مني. لم أعتقد أن بيجي فتاةٌ ذات جمال خاص؛ ربما فسد مكياجها بسبب بكائها، وقد تحرَّرَ شعرها الملفوف ذو اللون البني الفاتح من الدبابيس التي كانت تثبته، وكانت أظافرها مطليةً بطلاء أظافر، لكنها كانت لا تزال تبدو كما لو أنها قضمَتْها. لم تَبْدُ أنضج كثيرًا من أيٍّ من تلك الفتيات الأكبر سنًّا اللاتي كنتُ أعرفهن، المتذمِّرات، والمخادِعات، الدائمات الشكوى؛ ومع ذلك، عامَلَها الشابان كما لو كانت شخصًا لا يستحق مطلقًا أن يواجِه أيَّ لحظةٍ قاسية، شخصًا يستحق التدليلَ والإسعاد، شخصًا تنحني أمامه الرءوس.
عرض أحدهما عليها سيجارة جاهزة بالفعل، وقد رأيتُ أن ذلك متعةٌ في حدِّ ذاته؛ حيث إن أبي كان يلفُّ سجائره بنفسه، تمامًا مثلما كان يفعل أيُّ رجلٍ كنتُ أعرفه. لكن بيجي هزَّتْ رأسها تعبيرًا عن الرفض وتذمَّرَتْ بنبرةِ صوتها المتألمة بأنها لا تدخِّن. ثم عرض عليها الرجلُ الآخَر قطعةً من اللبان، فقَبِلَتْها.
ماذا كان يجري؟ ليس ثمة سبيلٌ لأنْ أعرف؛ فقد لاحَظَ وجودي الشابُّ الذي عرض عليها قطعةَ اللبان، بينما كان يفتِّش في جيبه، ثم قال: «بيجي، بيجي، هناك فتاة صغيرة أعتقد أنها تبغي الصعود لأعلى.»
أخفضَتْ رأسها، فلم أستطع النظر نحو وجهها، وشممتُ رائحةَ عطر وأنا أمرُّ من جانبها، وشممتُ رائحةَ سجائرهما أيضًا وزيِّهما الصوفي الرجالي، وأحذيتهما اللامعة العالية الرقبة.
حينما نزلتُ وأنا أحمل معطفي، كانوا لا يزالون في مكانهم، لكنْ في تلك المرة كانوا يتوقَّعون مجيئي؛ لذا لاذوا جميعًا بالصمت أثناء مروري، فيما عدا أن بيجي أطلقَتْ شهقةً عالية، بينما راح الشاب الأقرب إليها يربِّت على الجزء العلوي من رجلها. لقد رُفِعت تنورتها ورأيتُ الحمَّالةَ التي تثبت جوربها.
ظللتُ لفترة كبيرة أتذكَّر الأصوات، وأمعن النظر فيها. ليس صوت بيجي، وإنما صوت الرجلَيْن. أعلم الآن أن بعضًا من رجال القوات الجوية الذين يتمركزون في بورت ألبرت في وقتٍ مبكرٍ من الحرب كانوا قادمين من إنجلترا، وأنهم كانوا يتلقَّوْنَ التدريب هناك لمحارَبة الألمان؛ لذا، أتساءل إنْ كانت اللكنة الخاصة بجزءٍ معينٍ من بريطانيا هي التي وجدتها لطيفة وساحرة للغاية. من المؤكد أنني لم أسمع قطُّ في حياتي رجلًا يتكلَّم على هذا النحو، ويعامِل امرأةً كما لو أنها مخلوق رقيق ومُقدَّر للغاية أيًّا كان، ويرى أن أيًّا كانت القسوةُ التي تعرَّضت لها، فهي تُعَدُّ على نحوٍ ما خَرْقًا للقانون أو إحدى الخطايا.
ما الذي اعتقدتُ أنه قد حدث لبيجي وجعلها تبكي؟ لم يُثِرْ هذا السؤال اهتمامي كثيرًا في ذلك الوقت؛ فأنا نفسي لم أكن شخصيةً شجاعةً؛ فقد كنت أبكي حينما كان يطاردني البعض ويرمونني بالحصى وأنا في طريق عودتي إلى المنزل من مدرستي الأولى، وكنت أبكي حينما كانت تشير إليَّ المعلمةُ في مدرسة المدينة من بين كل طلاب الفصل لكي تجعلهم يرون عدمَ الترتيب الصادِم لمكتبي، وكذلك عندما هاتفت أمي من أجل نفس المشكلة، وبكَتْ أمي بعدما أنهَتِ المكالمة، متحمِّلةً المعاناة لأني لم أكن مفخرةً لها. بَدَا الأمر كما لو أن هناك أناسًا بطبيعتهم يتَّسِمون بالشجاعة، بينما لا يتسم بها البعضُ الآخَر. لا بد أن أحدهم قال شيئًا لبيجي، ولهذا كانت تشهق لأنها كانت مثلي؛ شخصيةً لا تتحمَّل المضايقات.
لكنْ لا بد أن السيدة ذات الثوب البرتقالي هي التي كانت الشخص الوضيع، على ما أعتقد، دون سببٍ محدَّد. كان يجب أن يكون امرأةً؛ لأنه لو كان رجلًا، لَعاقَبَه أحدُ هذين الشابين المنتميين للقوات الجوية المواسيَيْن لبيجي، ولَطلَبَا منه أن ينتبه لما يقول، بل لربما جذباه إلى الخارج وضرباه.
لذا لم تكن بيجي هي مَن أثار اهتمامي، ولا دموعها، ولا نظراتها المنهارة؛ لقد كانت تذكِّرني كثيرًا بنفسي. بل الشابَّان اللذان كانا يواسياها هما مَن أثار اهتمامي؛ أثارني كيف كانا ينحنيان ويعبِّران عن مشاعر الود أمامها.
ماذا كانا يقولان؟ لم يقولا شيئًا محدَّدًا على وجه الخصوص؛ قالا إن كل شيء على ما يرام. لا تقلقي يا بيجي. الآن، كل شيء على ما يرام، يا بيجي.
إنه ذلك الحنان؛ أن يحمل الشخص كلَّ هذا القدر من الحنان.
صحيح أن هؤلاء الشباب، الذين أتوا إلى بلادنا للتدريب على المهام الخاصة بالقصف الجوي، والتي يمكن أن يروح ضحيتها الكثير منهم، ربما كانوا يتحدثون باللكنة المعتادة لكورنوال، أو كِنت، أو هال، أو اسكتلندا. لكنهم بَدَوْا بالنسبة إليَّ غيرَ قادرين على الحديث دون ترديد بعض عبارات المباركة، المباركة في الوقت الحاضر. لم يَدُرْ بخلدي أن مستقبلهم جميعًا مرتبطٌ بكارثة، أو أن حياتهم العادية ذهبَتْ سدًى ودُمِّرَتْ؛ كلُّ ما فكرتُ فيه هو كلمات المباركة ومدى روعة أن يتلقَّاها المرء، وكيف أن بيجي كانت محظوظةً على نحوٍ غريب ولا تستحق المعامَلةَ التي كانت تتلقَّاها.
لا أدري كَمْ من الوقت ظللتُ أفكِّر فيهم؛ فقد كانوا يهدهدونني في ظلمات غرفة نومي الباردة حتى أغطَّ في النوم. كان بإمكاني استدعاؤهم، استرجاع وجوههم، وأصواتهم، لكن الأدهى من ذلك، أن أصواتهم كانت موجَّهةً نحوي وليس نحو طرف ثالث لا أهميةَ له. وكانت أيديهم تبارك فخذَيَّ النحيلين وأصواتهم تطمئنني أنني أيضًا أستحقُّ الحب.
•••
وبينما كانوا لا يزالون يسكنون خيالاتي التي لم تكن جنسيةً بشدةٍ حينَها، إذا بهم يختفون من ذهني. لقد اختفى بعضهم، بل العديد منهم، إلى الأبد.