الكبرياء
هناك بعض الأشخاص الذين لا تسير أمورهم وفق أهوائهم. كيف لي أن أوضح ذلك؟ أعني أنهم هؤلاء الذين قد يكون كلُّ شيء ضدهم — يتعرَّضون لصدمةٍ تلو الأخرى — وبعدها يسير كلُّ شيء على ما يرام. إنهم هؤلاء الذين يرتكبون الأخطاء في وقت مبكر — على سبيل المثال، يوسخون بناطيلهم في الصف الثاني — وبعدها يستكملون حياتهم في بلدةٍ كبلدتنا حيث لا يُنسَى بها أيُّ شيء (أي بلدة، أعني أن أي بلدة تكون هكذا)، وينجحون في ذلك، ويظهرون بمظهر الأشخاص الودودين، المَرِحين الذين يزعمون أنهم لن يرضوا بالعيش في مكانٍ آخَر غير هذا، ويعنون ذلك حقًّا.
أما بالنسبة إلى بعض الأشخاص الآخَرين، فالأمر مختلف؛ إنهم لا ينتقلون لأي مكانٍ آخَر، لكنك تتمنَّى لو أنهم فعلوا ذلك، وبمقدورك أن تقول إن هذا من أجل مصلحتهم هم. ومهما كانت الأخطاء التي يقعون فيها حينما يكونون صغارًا — والتي لا تكون واضحةً بأي حال من الأحوال كخطأ توسيخ بناطيلهم — فإنهم يستمرون في ارتكابها، وباقتدارٍ، بل يبالغون أيضًا في ذلك ما دام ثمة احتمالٌ بألَّا يلاحظها أحد.
لقد تغيَّرَتِ الأمور بالطبع؛ فأضحى هناك مَن يقدِّمون الاستشارات النفسية، وهناك العطف والتفهُّم. يقال لنا إن الحياة قاسيةٌ أكثر بالنسبة إلى البعض. إنه ليس خطأهم، حتى لو كانت الصدمات التي يتعرَّضون لها وهميةً تمامًا. إن هذه الصدمات يستشعرها بشدةٍ مَن يتعرَّض لها ومَن لا يتعرَّض لها على حد سواء، وذلك وفقًا للحالة.
لكن يمكن تحقيق الاستفادة الجيدة من كل شيء، وذلك إذا ما رغب المرء في هذا.
•••
لم تذهب أونيدا للمدرسة مع بقيتنا، على أية حال؛ أعني أنه لم يكن بها ما يؤهِّلها جيدًا للحياة. لقد ذهبَتْ إلى مدرسةٍ للبنات، مدرسة خاصة، لا أستطيع تذكُّرَ اسمها، هذا إنْ كنتُ أعرفه بالأساس. حتى في أوقات الصيف لم تكن تتواجد هنا كثيرًا. أعتقد أن عائلتها كانت تمتلك منزلًا آخَر يطلُّ على بحيرة سيمكو؛ كانوا يمتلكون أموالًا كثيرة، بل كانت كثيرة جدًّا في واقع الأمر بدرجةٍ لا يمكن معها تصنيفهم مع أي شخصٍ آخَر في البلدة، حتى لو كانوا الأثرياء بها.
كان أونيدا اسمًا غير مألوف، ولا يزال كذلك، ولم يكن متداولًا حينها هنا. ولقد اكتشفتُ فيما بعدُ أنه اسم هندي، ومن الأرجح أنه كان اختيار أمها التي ماتَتْ حينما كانت أونيدا في فترة المراهَقة، وأعتقد أن والدها كان يناديها بإيدا.
تجمعت لديَّ كلُّ الأوراق؛ أكوام من الأوراق عن تاريخ البلدة الذي كنتُ أعكف على دراستها. لكن على الرغم من ذلك كانت هناك بعض الفجوات؛ فلم يكن ثمة تفسيرٌ مُرْضٍ عن كيفية اختفاء الأموال. ومع ذلك لم تكن هناك حاجة لذلك؛ فما يتناقله الأشخاص شفهيًّا كان كافيًا لإيضاح الأمر، لكن الغريب هو تلاشِي ما تناقَلَه الأشخاص بمرور الوقت.
كان والد إيدا يدير المصرف، وحتى في تلك الأيام، كان المصرفيون يُغيَّرون باستمرار، وكان يحدث ذلك في رأيي حتى لا تتوطد صلاتهم بالعملاء. لكن آل جانتزن كانوا قد أمضوا بالبلدة وقتًا طويلًا جعلهم لا يخضعون لأي لوائح أو قواعد، أو هكذا بدا الأمر. كان هوراس جانتزن بالقطع من الرجال الذين كان يبدو عليهم أنهم خُلِقوا ليكونوا ذوي نفوذ. كانت لديه لحية بيضاء كثيفة، بالرغم من أن اللحى، طبقًا للصور الفوتوغرافية، كانت تُعَدُّ نمطًا قديمًا، وذلك بحلول الحرب العالمية الأولى. كان ذا قامة متوسطة، وسمينًا، ويحمل وجهُه تعبيراتٍ تتَّسِم بالجدية.
في تلك الأوقات الصعبة التي اتسمت بها فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الناس لا يزالون يأتون بأفكار جديدة، وكانت السجون تأوي الرجال الذين كانوا يتسكعون بخطوط السكك الحديدية، ولكنْ حتى بعضهم، بالتأكيد، كانت لديهم فكرة كان من الممكن أن تجلب لهم الملايين من الدولارات.
والمليون دولار في ذلك الوقت كان بالفعل مبلغًا كبيرًا جدًّا.
ومع ذلك لم يكن أحد متسكعي السكك الحديدية هؤلاء هو مَن ذهَبَ إلى المصرف لكي يتحدَّث إلى هوراس جانتزن، ولا أحدَ يدري إن كان مَن ذهب إليه شخصًا واحدًا أم مجموعة من الأشخاص؛ ربما كان أحد الغرباء أو بعضًا من أصدقاء الأصدقاء. ومن المؤكد أنه كان متأنِّقًا وذا مظهر مقبول؛ إذ كان هوراس يهتم بالمظاهر، ولم يكن بالشخص الأحمق، لكنه لم يستشعر سريعًا — كما هو المفترض منه — أنه قد تكون هناك خدعة.
كانت الفكرة تدور حول تجديد السيارات التي تعمل بالبخار، وهو نوع من السيارات كان متواجدًا في مطلع القرن العشرين، وربما كان هوراس جانتزن نفسه يمتلك واحدةً وربما كان مولعًا بها كثيرًا. وبالطبع سيكون هذا الطراز الجديد نسخة محسنة، من مزاياه توفير الوقود وعدم إحداث جلبة كبيرة أثناء السير.
ليس لديَّ المزيد من التفاصيل عن هذا الأمر؛ إذ كنتُ في المدرسة الثانوية حينها، لكني أستطيع تخيُّلَ الكلامِ الذي تسرَّبَ، وكَمِّ السخرية والحماسة والأخبار التي كانت تتوارد عن استعداد بعض أصحاب الأعمال في تورونتو، أو وندسور، أو كتشنر للتصنيع المحلي لهذا الطراز، الذين قيل إن بعضهم لديه من الأموال ما يكفي للاستثمار في هذا المشروع، في حين أن البعض الآخَر تساءَلَ إن كان من الممكن أن يحصلوا على بعض الدعم من أجل القيام بذلك.
حصلوا بالفعل على هذا الدعم؛ لأن المصرف قدَّمَ قرضًا لهم من أجل تنفيذ المشروع، وكان هذا قرار جانتزن، وتضارَبَتِ الأقوال حول إنْ كان قد شارَكَ بأمواله فيه أم لا. ربما فعل هذا، لكنْ تبيَّنَ فيما بعدُ أنه أخذ من أموال المصرف على نحوٍ غير مسئول، معتقِدًا بالطبع أنه سيردُّ هذه الأموال دون أن يعلم أحد بشيء. ربما لم تكن القوانين صارمة جدًّا حينها. كان هناك بعض الرجال الذين تم تعيينهم بالفعل، وقد أُخْلِي الإسطبل القديم الخاص بتربية الخيول ليصبح مكان عملهم. وعند هذا الحد تخونني ذاكرتي لأني كنتُ قد تخرَّجْتُ في المدرسة الثانوية، وكان عليَّ أن أفكر في كسب عيشي، إنْ كان هذا ممكنًا؛ فإعاقتي في الكلام، حتى بعد خياطة الشفاه، جعلَتْني أستبعد أيَّ عملٍ يتضمَّن الكثير من الكلام؛ لذا فقد وقع اختياري على مسك الدفاتر الحسابية؛ ولذلك كان عليَّ أن أغادر البلدة كي أتدرَّب لدى إحدى الشركات في جودريتش. وبحلول الوقت الذي عدتُ فيه إلى البلدة، كان يتم الحديث بازدراءٍ عن مشروع السيارة التي تعمل بالبخار من قِبَل أولئك الأشخاص الذين كانوا ضد الفكرة، أما مَن روَّجوا لها، فلم يذكروا عنها شيئًا على الإطلاق، وقد اختفى زوَّار البلدة ممَّن كانوا يساندون تلك الفكرة تمامًا.
وخسر المصرف الكثير من الأموال.
وتردَّدَتْ أقاويل ليس عن الغش، بل عن سوء الإدارة. وكان لا بد من معاقبة أحدٍ، ولو كان المدير شخصًا عاديًّا لأُجبِر على ترك وظيفته، لكنْ لأن المدير هو هوراس جانتزن، لم يتم هذا. ما حدث له كان أسوأ؛ فقد نُقِل لوظيفة مدير مصرف في قرية هوكسبرج الصغيرة، التي تبعد حوالي ستة أميال عن الطريق السريع، ولم يكن لهذا المصرف مديرٌ قبلَ ذلك على الإطلاق؛ لأنه لم يكن بحاجةٍ إلى مدير؛ فلم يكن هناك سوى صراف وصراف أول، وكلاهما كان امرأة.
كان بمقدوره الرفض بالطبع، لكن كبرياءه، كما اعتقد البعض، اختار الذهابَ إلى هناك؛ ونتيجةً لهذا الاختيار كان يُصطحَب بالسيارة كلَّ صباح هذه الأميال الستة، كي يجلس خلف حاجز جزئي مصنوع من ألواح خشبية مطليَّة رخيصة، لم يكن مكتبًا لائقًا على الإطلاق. وكان يجلس هناك دون أن يفعل شيئًا حتى يأتي موعد اصطحابه بالسيارة إلى منزله.
والشخص الذي كان يصطحبه بالسيارة هو ابنته. في وقتٍ ما خلال سنوات القيادة هذه، جعلت الناس ينادونها بأونيدا بدلًا من إيدا، وها هي أخيرًا قد قامَتْ بشيءٍ ما. ومع هذا لم تَقُمْ بإدارة المنزل؛ لأنهم لم يستطيعوا الاستغناء عن السيدة بيرتش، وهذا هو أحد الاحتمالات. وهناك احتمال آخَر وهو أنهم لم يدفعوا مطلقًا للسيدة بيرتش قدرًا كافيًا من النقود بحيث لا تُضطر للذهاب إلى ملجأٍ لإيواء الفقراء، هذا إنْ كانوا قد فكَّروا من قبلُ في مسألة الاستغناء عنها.
إذا تخيَّلتُ أونيدا ووالدها في هذه الانتقالات من هوكسبرج وإليها، فإنني أراه يجلس في المقعد الخلفي، وهي في المقعد الأمامي كالسائق الخاص به. ربما كان مكتنزًا جدًّا بدرجةٍ يصعب معها الجلوس بجوارها، أو ربما كانت لحيته تحتاج إلى مساحة. لم أرَ أونيدا تشعر بالاضطهاد أو التعاسة إزاء هذه الترتيبات، ولم تَبْدُ أماراتُ التعاسة على والدها أيضًا؛ كل ما كان يمتلكه هو الكرامة، الكثير منها في الواقع. أما هي، فكان لديها شيء مختلف؛ فحينما كانت تذهب إلى أحد المتاجر أو حتى كانت تسير في الشارع، كانت تبدو وكأنَّ حولها مساحة صغيرة خالية مجهَّزة لتحقيقِ ما قد تريد، أو لتسع التحيات التي قد توزِّعها في طريقها. كان يبدو عليها قليل من الارتباك الممزوج بالكياسة، وكانت على استعدادٍ للسخرية قليلًا من نفسها أو من الموقف الذي كانت فيه. بالطبع، كانت ذات بنية قوية، ونظرات مشرقة، وبشرة بيضاء برَّاقة، وشعر أشقر لامع؛ لذا ربما كان من الغريب أن أشعر بالأسف حيالها؛ حيث كانت الطريقة التي تتعامل بها مع الأشياء في الظاهر تُوحِي بشعورها بالاطمئنان والثقة في النفس.
تخيَّلوا أنني كنتُ أشعر بالأسف حيالها.
•••
اشتعلت الحرب، وبَدَا الأمر وكأنَّ الأشياء تغيَّرَتْ بين عشية وضحاها، ولم يَعُدِ المحتالون يتسكعون بخطوط السكك الحديدية؛ فقد أُتيحت الوظائف، ولم يَعُدِ الشباب الصغار يبحثون عن وظيفةٍ أو يسافرون متطفِّلين على أصحاب السيارات، وإنما تراهم في كل مكان بزيِّهم العسكري ذي اللون الأزرق الباهت أو الكاكي. قالت أمي إن الوضع الذي كنتُ عليه لهو من حُسْن حظي، وأعتقد أنها كانت محقةً، لكني أخبرتها بألا تتحدَّث عن هذا عندما تكون خارج المنزل. فقد عدتُ إلى بلدتي من جودريتش بعدما أنهيتُ فترة تدريبي، وحصلتُ سريعًا على عملٍ حيث كنتُ مسئولة عن الدفاتر في متجر آل كريبس المتعدد الأقسام. بالطبع، ربما ردَّدَ البعض — وأعتقد أن هذا قد حدث بالفعل — أنني حصلتُ على الوظيفة بفضل أمي التي كانت تعمل هناك في قسم المنسوجات، لكنْ تصادَفَ أيضًا أنِ انضمَّ كيني كريبس، المدير الشاب للمتجر، إلى القوات الجوية وقد لَقِي مصرعه في أحد تدريبات الطيران.
كانت هناك صدمات من هذا القبيل، ومع هذا كانت هناك هالة من النشاط في كل مكان، وكان الناس يتنقَّلون وبجيوبهم نقود. شعرتُ بالانعزال عن الرجال ممَّن هم في مثل عمري، لكن هذا الانعزال لم يكن بالشيء الجديد بالنسبة إليَّ. وكان هناك آخَرون في نفس وضعي؛ فقد أُعفِي أبناء المزارعين من الخدمة العسكرية كي يعتنوا بالمحاصيل والحيوانات، وقد علمت أن البعض منهم قد حصل على الإعفاء بالرغم من وجود مَن يستأجرونه للقيام بأعمالهم الزراعية. أعلم أنه إذا حدث أنْ سألني أحدهم عن عدم التحاقي بالخدمة العسكرية، فإن الأمر كان سيبدو مزحة، ولكني كنت جاهزًا بالإجابة المناسبة، وهي أنه عليَّ أن أهتمَّ بالدفاتر الحسابية؛ دفاتر متجر آل كريبس ودفاتر أخرى لاحقًا. كان عليَّ أن أهتم بالحسابات، ولم يكن مقبولًا حينها أن تؤدِّي المرأة هذه المهمة، واستمرَّ ذلك الأمر حتى حلول نهاية الحرب عندما كنَّ يقمْنَ بجانبٍ منها لفترةٍ من الوقت؛ فقد كان الكثيرون لا يزالون يعتقدون أن الرجل هو خير مَن يقوم بهذا العمل.
وقد سألتُ نفسي في بعض الأحيان: لماذا تُعَدُّ الشفة الأرنبية — ذات المظهرِ المقبول إنْ لم يكن بالطبيعي تمامًا، والصوتِ الغريب بعض الشيء لكنْ يمكن فهمه — من الأشياء التي تجعل صاحبها يبقى في المنزل ولا ينضم للخدمة العسكرية؟ لا بد أنني قد تسلَّمْتُ إخطارًا بالالتحاق بالخدمة العسكرية، ولا بد أنني قد ذهبتُ للطبيب المعنيِّ كي أحصل على الإعفاء. إنني ببساطة لا أتذكَّر ما حدث حينها تمامًا؛ هل ذلك لأني اعتدتُ الحصولَ على الإعفاء من شيءٍ تِلْو الآخَر، حتى إنني نظرتُ إلى ذلك الأمر كشيءٍ مسلَّمٍ به، شأنه في ذلك شأن الأمور الأخرى؟
ربما أخبرتُ أمي ألَّا تتحدَّث بشأن بعض الأمور، لكنْ ما كانت تقوله لم يكن عادةً يمثِّل أهميةً كبيرة بالنسبة إليَّ. ومن الواضح أنها كانت تنظر للجانب المشرِق من الأمور. وقد علمتُ بعض الأشياء لكنْ ليس عن طريقها؛ فقد علمتُ أنه بسبب حالتي كانت تخشى أن تُنجِب أطفالًا آخَرين، وخسرَتْ رجلًا كان يحبها في إحدى المرات عندما أخبرَتْه بذلك. لكنْ لم يخطر ببالي أن أشعر بالأسف حيالَ أيٍّ منَّا؛ فأنا لم أفتقد أبًا قد تُوفِّي حتى قبل أن أراه، أو فتاةً كان يمكن أن أقيم معها علاقةً لو كان مظهري مختلفًا، كما أنني لم أفتقد ذلك الشعور الوجيز بالتيه الخاص بالذهاب للمشاركة في الحرب.
كنا أنا وأمي نفضِّل تناوُلَ أشياء بعينها على العشاء، وكنَّا نحب الاستماع إلى برامج إذاعية معينة، ودائمًا ما كانت الأخبار العالمية من قناة بي بي سي، وذلك قبل أن نأوي إلى الفراش. كانت عينا أمي تلمعان عندما يتحدَّث الملك أو وينستون تشرشل. وقد اصطحبتُها لمشاهدة فيلم «السيدة مينيفر»، وقد تأثَّرَتْ به أيضًا. لقد كانت الدراما تملأ حياتنا، سواء أكانت الخيالية أم الواقعية. الانسحاب من دانكرك، السلوك الذي اتسم بالشجاعة من جانب العائلة الملكية، انفجارات لندن المتتالية، وساعة بيج بن التي لا تزال تدق مُعلِنةً الأخبار الكئيبة. سفن فُقِدت في البحر، والأكثر فزعًا، غَرَق مركب مدني، زورق، ما بين كندا ونيوفوندلاند، بالقرب من شواطئنا.
لم أستطع النوم في تلك الليلة، وخرجت للمشي في شوارع البلدة. أخذتُ أفكِّر في أولئك الأشخاص الذين استقروا في قاع البحر؛ لا بد أنه كانت هناك سيدات عجائز، تقريبًا في مثل عمر أمي، وقد تشبَّثْنَ بما كنَّ يَحِكينه من أشياء، وطفل انزعَجَ من ألم أسنانه التي اصطكَّتْ من الخوف، وآخَرون أمضَوْا نصف الساعة الأخيرة قبل غرقهم وهم يعانون من دوار البحر. انتابني شعورٌ غريب جدًّا، وحسبما أستطيع وصفه: كان شعورًا يتقاسمه الفزع، والإثارة الممزوجة بالتبلُّد. لقد تبدَّدَ كلُّ شيء، وظهرَتْ فجأةً المساواةُ، عليَّ أن أقول ذلك؛ المساواة، بين أشخاصٍ مثلي ومن هم أسوأ حالًا مني وبين الآخرين.
لقد تلاشى ذلك الشعور بالطبع عندما اعتدتُ رؤيةَ أشياء أخرى أثناء الحرب فيما بعدُ. لقد رأيتُ أردافًا عارية ممتلئة بالصحة، وأخرى هزيلة، يُساق أصحابها كالقطيع إلى غرف الإعدام بالغاز.
وحتى لو لم يتلاشَ ذلك الشعور تمامًا، فقد تعلَّمْتُ أن أكتمه بداخلي.
•••
لا بد أنني قد التقيتُ مصادَفةً أونيدا خلال هذه السنوات، وتتبعتُ مسار حياتها. وكان عليَّ أن أفعل هذا؛ فلقد مات والدها مباشَرةً قبل اليوم الذي أُعلِن فيه انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وامتزجَتْ مراسمُ الجنازة الحزينة باحتفالات انتهاء الحرب بطريقةٍ غريبة. وقد تكرَّرَ ذلك مع أمي التي ماتت في الصيف التالي، وذلك بعدما سمع الجميع عن القنبلة الذرية. وقد ماتَتْ بطريقةٍ أكثر غرابةً وأمام الناس، وذلك في مكان عملها، بعدما قالت: «أريد أن أجلس.»
لم يَرَ أحد والد أونيدا أو يسمع عنه شيئًا خلال السنة الأخيرة من عمره. انتهت تمثيلية هوكسبرج الزائفة، لكنْ بَدَتْ أونيدا أكثر انشغالًا من ذي قبلُ. وربما كان سينتابك حينها ذلك الشعور بأنَّ كلَّ مَن تقابله منهمِكٌ في شيءٍ ما؛ إما في تتبُّع دفاتر الحصص التموينية، وإما في إرسال خطابات للجبهة، وإما في الحديث عن الخطابات التي تسلَّموها من هناك.
أما بالنسبة إلى أونيدا، فقد كانت منهمكةً في العناية بالمنزل الكبير الذي كانت تعيش فيه، والذي أصبح عليها الآن إدارة شئونه بمفردها.
أوقفتني ذات يوم في الشارع وقالَتْ لي إنها تريد مشورتي بشأن بيعه؛ أي المنزل. أخبرتها أنني لستُ الشخص المناسب الذي ينبغي أن تتحدَّث إليه في أمرٍ كهذا. قالت ربما كان الأمر كذلك، ولكنها تعرفني. بالقطع، هي كانت لا تعرف عني شيئًا يزيد عمَّا تعرفه عن أي شخصٍ آخَر في البلدة، ولكنها صمَّمَتْ على رأيها، وجاءت إلى منزلي لنتحدَّث أكثر عن الأمر. أبْدَتْ إعجابَها بأعمال الطلاء التي قمتُ بها، وإعادة ترتيب موضع الأثاث، وأشارَتْ إلى أن التغييرَ لا بد أنه ساعدني على التغلُّب على الشعور بفقد أمي.
هذا صحيح، لكن معظم الأشخاص كانوا سيتردَّدون كثيرًا قبل أن يقولوا ذلك على نحوٍ مباشِر.
لم أكن معتادًا على استقبالِ أحدٍ؛ لذا لم أقدِّم لها أيَّ مرطبات، وكل ما فعلتُه أنني أسديتُ إليها بعضَ النصائح التحذيرية والجادة بشأن البيع، ورحتُ أذكِّرها بأني لستُ بخبيرٍ في هذه الأمور.
لكنها استمرت قدمًا في عملية البيع، وضربَتْ بكلامي عرضَ الحائط، وباعته عند أول عرض تلقَّتْه، وقد فعلَتْ ذلك خاصة لأن المشتري حدَّثَها عن مدى حبه للمكان، وأنه يتطلَّع أن تنشأ عائلتُه به. وكان آخِر شخص بالبلدة يمكن أن أثق به، سواء أكان لديه أطفال أم لا، وكان السعر الذي اشترى به المنزل زهيدًا جدًّا، وكان عليَّ أن أخبرها بهذا. قلتُ لها إن الأطفال سيشيعون الفوضى في المكان، فردَّتْ أن هذا ما يفعلونه دائمًا؛ فهم يُحدِثون جلبةً شديدة وإزعاجًا كبيرًا لكلِّ مَن حولهم، وذلك على العكس تمامًا ممَّا كانَتْ عليه وهي طفلة. ولكن في الواقع، لم تكن لتُتاح لهم الفرصة لذلك؛ لأن المشتري شرع في هدم المنزل وأقام مكانه عمارة سكنية، تتكوَّن من أربعة طوابق، وبها مصعد كهربائي، وقد أحال الدورَ الأرضي إلى جراج للسيارات. وقد كان أولَ بناء حقيقي من نوعه تَشْهَده البلدة. جاءت إليَّ وهي مصدومة بشدة عندما بدأ كل هذا، وكانت تريد أن تعرف إنْ كان بمقدورها أن تفعل شيئًا حيالَ الأمر؛ كأنْ تعلن أن المبنى أثريٌّ، أو أنْ تُقاضِي المشتري لأنه أخلَّ بكلمته التي لم تُسجَّلْ في العقد، أو ما شابه. كانت مندهشةً من أن يُقدِم شخصٌ على شيء كهذا؛ شخصٌ يتردَّد باستمرارٍ على الكنيسة.
قالت: «لم أكن لأفعل شيئًا كهذا، بالرغم من أنني لا أذهب إلى هناك إلا في عيد الميلاد.»
ثم هزَّتْ رأسَها وانفجرت في الضحك.
قالت: «يا لحماقتي! كان ينبغي عليَّ أن أنصت لنصيحتك، أليس كذلك؟»
كانت تعيش في نصف منزل مستأجر مقبول في ذلك الوقت، لكنها كانت تشتكي من أن كل ما يمكنها رؤيته هو منزلها وهو يقف ممتدًّا عبر الشارع.
قالت هذا كما لو أن معظم الناس لا يرون هذا، لكني لم أقل لها ذلك.
وعندما تمَّ الانتهاء من بناء جميع الشقق بالعمارة، كان كل ما فعلَتْه أنها عادَتْ لتقطن في إحداها في الطابق العلوي، وكنتُ أعلم أنها لن تحصل على إيجار مخفض أو أنها لن تطلب حتى ذلك. لقد تخلَّصَتْ من مشاعرها السلبية نحو المالك، بل راحت أيضًا تُثنِي على المنظر الخارجي للمكان وحجرة تنظيف الملابس الموجودة في البدروم، حيث كانت تدفع عملةً معدنية في المكان المخصَّص للدفع في كل مرة تنظِّف فيها ملابسَها.
قالت: «إنني أتعلَّم أن أكون مدبِّرةً، بدلًا من منْحِ أشياء دونَ مقابلها الحقيقي حينما تَحْدُوني الرغبةُ في التخلُّص منها.»
ثم تحدَّثَتْ عن محاميها غير الشريف قائلةً: «على أية حال، إن أمثال هؤلاء هم مَن يُدِيرون هذا العالَمَ.» ثم دعتني للزيارة كي أرى المنظر من شقتها، لكني اعتذرت.
ومع هذا كانت تلك بداية فترةٍ عرَفَ فيها كلٌّ منَّا الكثيرَ عن الآخَر؛ فقد اعتادَتْ أن تزورني بمنزلي كي تتحدَّث عن مشكلات شقتها وقرارها بشأنها، واستمرت على هذا المنوال حتى بعد استقرار الأمور فيها بالنسبة إليها. كنتُ قد اشتريتُ تليفزيونًا، وهو شيء لم تفعله هي؛ لأنها قالت إنها تخشى أن تدمن مشاهدته.
أما أنا، فلم أَخْشَ من شيءٍ كهذا لأني أتواجد خارجَ المنزل معظم اليوم. وكان يوجد الكثير من البرامج الجيدة في تلك الأيام، وبوجهٍ عامٍّ، كانت ميولنا متوافِقةً؛ فقد كنَّا نهوى مشاهدة قنوات التليفزيون الحكومية، وبخاصة المسلسلات الكوميدية البريطانية التي شاهدنا بعضها مرارًا وتكرارًا، وكانت تستهوينا كوميديا الموقف وليس مجرد إطلاق النكات. وقد كنتُ في البداية أشعر بالخجل وأنا أرى مدى جرأة المسلسلات البريطانية، التي قد تصل إلى حد الإسفاف، لكن أونيدا كانت تستمتع بذلك أكثر من أي شيء آخَر. وكنا نتذمَّر عندما تبدأ إعادة أحد المسلسلات مرةً أخرى، لكننا سرعان ما ننجذب لمشاهدته ومتابعته مرةً أخرى؛ لقد كنا حتى نشاهد هذه المسلسلات حين كانت الألوان باهتةً فيها. وفي الوقت الحاضر، قد أصادِفُ في بعض الأحيان واحدًا من هذه المسلسلات القديمة وقد تم تلوينه وأصبح كالحديث تمامًا، ولكني أغيِّر القناة لأنه يجعلني أشعر بالحزن.
كنت قد تعلَّمْتُ منذ وقت مبكر أن أكون طاهيًا جيدًا، وحيث إن بعضًا من أفضل البرامج التليفزيونية كانت تُعرَض مباشَرةً بعد العشاء، فقد كنتُ أُعِدُّ لكلَيْنا وجبةَ العشاء، وكانت تأتي هي ببعض الحلوى من المخبز. واشتريتُ طاولتين من ذلك النوع الذي يمكن طيُّه، وكنا نتناول الطعام ونحن نشاهد الأخبار، وبعدها نتابع برامجنا المفضَّلة. كانت أمي تُصِرُّ دومًا على أن نتناول طعامَنا على المائدة؛ لأنها كانت تعتقد أنها الطريقة الوحيدة كي يكون المرء ذا مستوًى اجتماعي جيد، لكن يبدو أن أونيدا لم يكن لديها أيُّ محظورات في هذا الشأن.
ربما تجاوزَتِ الساعةُ العاشرةَ عندما كانت تغادر المنزل، ولم تكن تمانع في الذهاب إلى منزلها سَيْرًا على الأقدام، لكني لم أكن أحبذ الفكرة؛ لذا كنتُ أحضر سيارتي كي أصطحبها إلى المنزل. لم تشترِ هي مطلقًا أيَّ سيارة أخرى بعدما تخلَّصَتْ من تلك السيارة التي اعتادَتْ أن تقلَّ فيها أباها إلى عمله. لم تكن تَخْشَى على الإطلاق أن يراها أحدٌ وهي تتجوَّل في البلدة، بالرغم من أن الناس كانوا يسخرون من ذلك؛ وكان هذا قبل أن يصبح كلٌّ من المشي وممارسة التمرينات الرياضية شيئًا شائعًا.
لم نذهب مطلقًا لأيِّ مكان معًا، وكانت تمر أوقات دون أن أراها لأنها كانت تذهب خارج البلدة، أو ربما تظل بها لكنْ تستضيف بشقتها بعض الأشخاص الذين لا أعرفهم ولم أَسْعَ للقائهم.
لا، فذلك كان يُشعِرني بالتجاهل؛ لذا لم أفعل. إن مقابلة أناس جدد كانت تمثِّل مشكلةً لي، ولا بد أنها كانت تتفهَّم ذلك. أما اعتيادنا تناوُل الطعام معًا، وقضاء الأمسيات أمام شاشة التليفزيون، فذاك كان أمرًا مريحًا وهيِّنًا ولم تكن لديَّ أية صعوبة في التعامُل معه. ولا بد أن كثيرين كانوا يعلمون بهذا الأمر، لكنْ لأنها كانت تمضي الوقتَ معي أنا تحديدًا، لم يعيروا الأمر الكثيرَ من الاهتمام. وكان معروفًا أيضًا أنني أنا مَن يقوم بحساب ضريبة الدخل لها، ولِمَ لا؟ فهو شيءٌ أعرف كيف أفعله جيدًا بينما لا يتوقَّع أحدٌ منها أن تعرف كيف تقوم به.
ولا أدري إنْ كان أحد يعلم أنها لم تسدِّد لي أيَّ شيء مطلقًا مقابل ذلك. كنتُ سأطلب منها مبلغًا بسيطًا كي تسير الأمورُ بنحوٍ طبيعي، لكنها لم تُثِرِ الموضوع، ليس لأنها بخيلة، بل لأن الأمر لم يَرِد بخاطرها.
وإذا ما حدَثَ أنْ تفوَّهْتُ باسمها لأيِّ سبب من الأسباب، فكان يصدر عني في بعض الأحيان اسم إيدا بنحوٍ عفوي. وكانت تتعمَّد إغاظتي قليلًا إذا ما قلتُ ذلك أمامها، وكانت توضِّح لي كيف أنني أفضِّل دائمًا أن أنادي الأشخاصَ بألقابهم القديمة التي كانوا يُعرَفون بها أيامَ الدراسة، إنْ أُتِيحت لي الفرصة لذلك. ولكني لم أَلْحَظْ ذلك بنفسي.
قالت: «لا أحدَ يهتم بهذا، أنت فقط مَن يفعل هذا.»
كان ذلك يغضبني قليلًا، بالرغم من أنني كنتُ أحاول جاهدًا أن أُخفِي شعوري هذا؛ فأي حقٍّ تمتلكه هي كي تعلِّق على ما يشعر به الناس حيال الأشياء التي أفعلها أو التي لا أفعلها؟ قد يكون مغزى ما تقول أنني إلى حدٍّ ما أفضِّل الرجوعَ لأيام طفولتي؛ لذا كنتُ أرغب في البقاء في تلك المرحلة، وجعل الآخرين يبقون معي فيها.
كان هذا يجعل الأمور بسيطة للغاية؛ فلقد أمضيتُ كلَّ سنوات دراستي، كما تراءى لي، في الاعتياد على مظهري — أيْ مظهر وجهي — وعلى مظهر الأشخاص الآخَرين مقارَنةً به. كنتُ أعتقد أنه انتصار من نوعٍ ما أنْ أنجح في ذلك، وأن أعرف أنه بمقدوري التعايُش هنا وكسب قوت يومي، وألَّا يكون عليَّ باستمرارٍ أنْ أعتاد على أناسٍ جدد. ولكنْ أن نعود جميعنا للصف الرابع ونتوقَّف عند تلك المرحلة، لا، لم أكن أريد ذلك.
ومَن تكون أونيدا حتى تكون لها آراء سديدة؟ لم يَبْدُ لي أنها قد استقرَّتْ بعدُ؛ ففي الواقع، لقد ضاع منها المنزل الكبير، وضاع معه جزءٌ كبير منها. وكانت البلدة تتغَيَّر، ومكانُها بها كان يتغَيَّر هو الآخَر، وهي بالكاد كانت تعرف ذلك. بالطبع كانت هناك دائمًا تغَيُّرات تطرأ، لكنْ في الأوقات التي سبقت الحرب كان التغَيُّر يتمثَّل في ترْكِ أهل البلدة لها للبحث عن فُرَصٍ أفضل في مكان آخَر، أما في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فتبدَّلَتْ أحوالُ البلدة من خلال النوعيات الجديدة من الأشخاص الذين توافدوا إليها. قد تعتقد أن أونيدا كانت ستقرُّ بذلك عندما ذهبَتْ للعيش في العمارة السكنية، لكنها لم تُدرِك ذلك على الإطلاق؛ فما زال فيها ذلك التردُّد الغريب والطيش، كما لو أنها كانت تنتظر الحياةَ لتبدأ.
كانت تذهب بالطبع في رحلاتٍ خارج البلدة، وربما اعتقدَتْ أن الحياة كانت ستبدأ هناك، لكنَّ هذا لم يحدث.
•••
وخلال تلك الأعوام عندما شُيد مركز التسوق الجديد على الأطراف الجنوبية للبلدة، وأُغلِق متجر آل كريبس (لم يكن ذلك يمثِّل مشكلةً لي؛ فقد كان لديَّ الكثير من الأعمال التي كانت تمكِّنني من الاستغناء عن العمل به)، بدا أن هناك المزيد والمزيد من الأشخاص في البلدة الذين كانوا يذهبون في رحلاتٍ في فصل الشتاء، وكان هذا يعني الذهاب إلى المكسيك أو جزر الهند الغربية أو أي مكان لم نَعْتَدِ السماع عنه. وتكون النتيجة، في رأيي، العودة محمَّلين بأمراضٍ لم نَعْتَدِ السماع عنها أيضًا، وقد حدث ذلك لفترةٍ ما. ربما يتم الإعلان عن انتشار مرضٍ ما في كل عام، ويكون له اسم مميز خاص به، وربما لا تزال تلك الأمراض منتشرةً، لكن لم يَعُدْ أحدٌ يلاحظها كثيرًا الآن، أو أن الأشخاص ممَّن هم في مثل عمري الآن قد تخطَّوْا مرحلةَ الملاحظة. يمكن أن تثق في أنك لن تموت بسبب مرضٍ خطير؛ لأنه لو كان هناك مرضٌ خطير، لَكنتَ قد أُصِبْتَ به ومتَّ الآن.
وفي إحدى الأمسيات نهضتُ في نهاية أحد البرامج التليفزيونية كي أُعِدَّ لكلَيْنا قدحَيْن من الشاي، وذلك قبل أن تغادر أونيدا إلى منزلها. واتجهت نحو المطبخ وفجأةً شعرتُ بألم شديد، ترنَّحْتُ وسقطتُ على ركبتيَّ ثم على الأرض. جذبَتْني أونيدا وعاونَتْني على النهوض والجلوس فوق أحد المقاعد، واستعدتُ الوعي. أخبرتها بأن تلك النوبات كانت تنتابني في بعض الأحيان، وأنه لا داعيَ للقلق. وتلك كانت كذبة، ولا أدري لِمَ قلتُ هذا، لكنها لم تصدِّقني على أية حال. اصطحبَتْني إلى غرفتي الموجودة بالطابق السفلي حيث خلدتُ إلى النوم، وقد خلعَتْ عني حذائي، ثم ساعدتني — بعد قليل من الاعتراض من جانبي — في خلع ملابسي وارتداء ملابس النوم. كنتُ أدرك الأشياءَ من حولي بصعوبةٍ. طلبتُ منها أن تستقلَّ إحدى سيارات الأجرة وتعود إلى منزلها، لكنها لم تُعِرْ كلامي أي اهتمام.
نامَتْ في تلك الليلة على الأريكة المتواجدة في غرفة المعيشة، وبعد استكشاف بقية غُرَفِ المنزل في اليوم التالي أقامَتْ في غرفة نوم والدتي. لا بد أنها ذهبَتْ إلى شقتها خلال النهار كي تُحضِر بعض الأشياء التي تحتاجها، وربما ذهبت أيضًا إلى المركز التجاري من أجل شراء بعض البقالة كي تُكمِل بها ما ينقصني من أشياء. كما أنها تحدَّثَتْ أيضًا إلى الطبيب، وأحضرَتْ بعض الأدوية من الصيدلية، وقد كنتُ أتناولها عندما كانت تعطيني إياها.
انتابَتْني لبقية الأسبوع حالةٌ من فقدان الوعي واستعادته والإعياء والحمى. كنتُ بين الحين والآخَر أخبرها بأنني شُفِيتُ، وأنَّ باستطاعتي تصريفَ أموري بنفسي، لكنْ لم يكن هذا صحيحًا؛ فقد كنتُ معظم الوقت أُطِيع أوامرها وأعتمد عليها بنفس الأسلوب الذي يعتمد فيه المرءُ على إحدى الممرضات في المستشفى. لكنْ لم تكن لديها نفس مهارة الممرضة في التعامُل مع الجسم المحموم، وإذا ما توافَرَتْ لديَّ الطاقةُ في بعض الأحيان، كنتُ أتذمَّر كطفلٍ في السادسة من عمره، وكانت تعتذر حينها ولا تشعر بأي استياءٍ. وعندما كنتُ أخبرها بأني أصبحتُ أفضل، وأنَّ عليها أنْ تعود إلى منزلها، كنتُ أنانيًّا بدرجةٍ تجعلني أنادي عليها بلا سببٍ سوى أن أطمئن أنها كانت لا تزال متواجِدةً.
ثم أصبحتُ على نحوٍ أفضل، وشعرت بالقلق من أن تلتقط المرضَ الذي أصابني، أيًّا كان نوعه.
«ينبغي أن ترتدي كمامةً طبيةً.»
قالت: «لا تقلق. لو كنتُ قد التقطتُ أيَّ شيء، لَظهَرَ عليَّ الآن بالفعل.»
وعندما شعرتُ لأول مرة بأني قد أصبحتُ أفضلَ بالفعل، كنتُ أتوانى في الاعتراف بحقيقةِ أنني أشعر أحيانًا كما لو أنني طفل صغير مرةً أخرى.
لكنها ليسَتْ بالطبع أمي، وكنت سأستيقظ ذات صباح وأدرك ذلك. وكان عليَّ أن أفكِّر في كل الأشياء التي فعلَتْها من أجلي، وكان هذا يُشعِرني بحرجٍ شديد؛ وهذا هو الحال بالنسبة إلى أي رجل، وبخاصة أنا عندما أتذكَّر مظهري. كنتُ قد نسيتُ ذلك بنحوٍ أو بآخَر، وبَدَا لي الآن أنها لم تكن تشعر بالحرج، وأنها تفعل تلك الأشياء بصورةٍ تلقائية لأني كنتُ بالنسبة إليها مجرد شخص ناقص أو طفل بائس.
أصبحتُ لطيفًا الآن وامتزجَتْ كلماتي ما بين التعبير عن الامتنان، ورغبتي الصادقة في أن تعود إلى منزلها.
وفهمَتِ الرسالةَ التي أردتُ إيصالَها لها، ولم تشعر بأي ضيق. لا بد أن التعبَ قد ألَمَّ بها من فترات النوم المتقطعة والعناية التي لم تعتَدْها بشخصٍ آخَر. قامَتْ لآخِر مرة بالتسوُّق من أجل شراء الأشياء التي كنتُ أحتاجها، وراحت تقيس درجة حرارتي للمرة الأخيرة ثم رحلَتْ وهي تشعر، في اعتقادي، برضا شخصٍ أدَّى مهمتَه على الوجه الأكمل، وقبل أن تفعل ذلك مباشَرةً كانت قد انتظرَتْ في الغرفة الأمامية لترى إنْ كان بمقدوري ارتداء ملابسي دونما مساعدة، وشعرَتْ بالارتياح لقدرتي على ذلك. وبالكاد خرجتُ من المنزل عندما أحضرتُ بعض الحسابات وعكفتُ على استئناف العمل الذي كنتُ أؤدِّيه في اليوم الذي أصابني فيه المرض.
كان عقلي يعمل على نحوٍ أبطأ، لكنْ بدقةٍ، وهو الأمر الذي أشعرني بارتياح كبير.
تركتني بمفردي حتى ذلك اليوم — أو بالأحرى المساء — الذي اعتَدْنا فيه مشاهَدةَ التليفزيون معًا، ثم وصلَتْ وهي تحمل في يدها عبوةً من الحساء، التي لم تكن تكفي لصنْعِ وجبةٍ متكاملةٍ قائمةٍ بذاتها، ولم تكن شيئًا صنعَتْه بنفسها، ومع هذا كانت بمنزلة مساهَمةٍ لا بأسَ بها في الطعام. وقد وصلَتْ مبكرةً كي يكون هناك وقتٌ كافٍ لذلك. فتحَتْها أيضًا دون أن تسألني. كانت تعرف طريقَها جيدًا إلى المطبخ؛ سَخَّنَتْها، وأحضرت سلطانيتَيْ حساءٍ وتناولنا ما بهما معًا. ذكَّرَني سلوكها بأني رجلٌ مريض يحتاج إلى تغذية عاجلة، وكان هذا صحيحًا بدرجةٍ ما؛ فقد كنتُ في ظهيرة ذلك اليوم غيرَ قادرٍ — بسبب رعشةٍ ألَمَّتْ بي — على استخدام فاتحة العبوات بنفسي.
كان هناك برنامجان نشاهدهما معًا، الواحد تلو الآخَر، لكننا في تلك الأمسية لم نشاهد البرنامجَ الثاني مطلقًا، ولم تستطِعْ هي الانتظارَ حتى ينتهي البرنامج الثاني لتشرع في حوارٍ لم يكن مريحًا بالنسبة إليَّ.
وخلاصةُ ذلك الحوار أنها كانت تُعِدُّ نفسَها للانتقال للعيش معي في منزلي.
قالت إنها من ناحيةٍ لا تشعر بالسعادة في الشقة التي تعيش فيها، والتي كان الانتقال إليها بمنزلة خطأ كبير؛ حيث إنها تحب الإقامة في المنازل. لكن هذا لم يكن يعني أنها تشعر بالندم لأنها تركَتِ المنزلَ الذي وُلِدت فيه؛ فقد كانَتْ على وشْكِ الإصابة بالجنون وهي تعيش في ذلك المنزل بمفردها. وخطؤها أنها اعتقدَتْ أن الشقة يمكن أن تكون ببساطةٍ هي الحل. وأضافَتْ أنها لم تكن سعيدةً على الإطلاق في هذا المكان، ولن تكون كذلك أبدًا. وما جعلها تدرك تلك الحقيقة هو الوقت الذي أمضَتْه في هذا المنزل، عندما كنتُ مريضًا، وقد كان عليها أن تدرك ذلك منذ فترة طويلة جدًّا، عندما كانت فتاةً صغيرةً وترى منازلَ بعينها وتمنَّتْ أن تعيش فيها.
والشيء الآخَر الذي قالَتْه هو أننا غير قادرَيْن بنحوٍ كامل على الاعتناء بأنفسنا؛ فماذا لو مرضتُ أنا وكنتُ بمفردي تمامًا؟ وماذا لو تكرَّرَ ذلك الأمر ثانيةً؟ أو ماذا لو حدث هذا الأمر لها؟
قالت إننا نكنُّ بعضَ المشاعر أحدنا تجاه الآخَر، وهي ليست بالمشاعر المعتادة. وأضافت أنَّ بمقدورنا العيش معًا كأخ وأخت، وأن يعتني كلٌّ منَّا بالآخَر على هذا النحو، وسيكون ذلك من أكثر الأشياء الطبيعية في هذا العالَم. وقالت إن الجميع سيتقبَّل ذلك الأمرَ، ولِمَ لا يفعلون هذا؟
كنتُ أشعرُ بالانزعاج طوال الوقت الذي تتحدَّث فيه، بل أيضًا بالغضب والخوف والروع، وكان الأسوأ هو ما ختمَتْ به حديثَها عندما قالت إنه ما من أحدٍ سيعتقد أن في الأمر شيئًا ما. وكنت أستطيع أن أستشفَّ ما تقصده، وربما أتفق معها أن الناس سيعتادون على الأمر، وربما يُلْقُون بمزحة أو مزحتين سيئتين، وقد لا نسمع حتى بهما.
قد تكون محقة، وربما يكون حديثها منطقيًّا.
شعرتُ حينَها كما لو أن أحدهم قد ألقى بي في قبوٍ وصفَقَ البابَ فوق رأسي.
ولكنني لم أكن لأجعلها تعرف عن الأمر شيئًا.
قلتُ لها إنها فكرة جيدة، لكنَّ هناك شيئًا يجعلها مستحيلة.
قالت: ما هو هذا الشيء؟
قلت لها إنني نسيتُ أن أخبرها، مع كل ما مرَّ بي من المرض والقلق وسائر الأشياء الأخرى، بأنني عرضتُ المنزلَ للبيع، وقد اشتراه أحدهم.
قلتُ في نفسي: أوه، أوه! ولِمَ لم أخبرها بذلك؟
قلتُ بصدقٍ حينها، إنه لم يكن لديَّ أدنى معرفةٍ بما كانت تريده، لم أعرف أنها تخطِّط في ذهنها لذلك.
قالت: «إن هذا الأمر لم يَرِد على ذهني في الوقت المناسب، شأنه شأن كثيرٍ من الأمور الأخرى في حياتي. يبدو أنه شيء يتعلَّق بي أنا؛ فإنني لا أفكِّر في الأمور في وقتها الصحيح؛ دائمًا ما أعتقد أن هناك متسعًا من الوقت.»
لقد أنقذتُ نفسي ولكنْ ليس دون تكلفة؛ فقد كان عليَّ أن أعرض المنزل، هذا المنزل، للبيع وأبيعه بأسرع ما يمكن، تمامًا كما فعلَتْ هي بمنزلها.
وقد بعتُه بالسرعة نفسها تقريبًا، لكنْ لم أكن مُجبَرًا أن أقبل عرضًا تافهًا كما فعلَتْ هي. ثم كان عليَّ أن أواجِه مهمةَ التعامل مع كل الأشياء التي تراكَمَتْ في المنزل منذ أن انتقَلَ إليه والداي في شهر العسل، حيث لم يكن معهما نقود للقيام بأي رحلة.
واندهَشَ الجيران مما حدث. لم يكونوا جيراني منذ وقت طويل؛ فهم لم يكونوا يعرفون أمي، لكنهم قالوا بأنهم اعتادوا مجيئي وذهابي، ومواعيدي المنضبطة.
كانوا يريدون أن يعرفوا خططي بخصوص الوقت الحاضر، وأدركتُ أنْ ليس لديَّ أيَّ خطط؛ فبخلاف عملي لم يكن هناك ما أفعله، وقد كنت بالفعل قد أقللتُ من مهام عملي حيث كنتُ أتطلَّع أن أمضي شيخوختي بعنايةٍ وحرصٍ.
•••
بدأتُ أجوبُ البلدة بحثًا عن مكانٍ أعيش به، واتضح أنه من بين كل الأماكن التي يمكن أن تناسبني لم يكن هناك سوى مكانٍ واحد فقط شاغر، وكان هذا المكان شقة في العمارة التي شُيِّدت مكان منزل أونيدا القديم، ولم تكن الشقة بأعلى طابق، وتطلُّ على منظر رائع كما كانت شقتها، بل كانت بطابق سفلي. وعلى أية حال، لم أكن أهتم بأن تطلَّ شقتي على منظر رائع؛ لذا أخذتُها، ولم أَدْرِ ما الذي يمكنني أن أفعله بعد ذلك.
بالطبع كنتُ أنوي أن أخبرها بالأمر، ولكنه ذاعَ حتى قبل أن أنتقل إلى شقتي. وعلى أية حال، فقد كانت لها خططها الخاصة بها، وكان فصل الصيف قد حلَّ، ولم تكن برامجنا تذاع في ذلك الوقت. وفي تلك الأيام، لم نكن يرى كلٌّ منَّا الآخَرَ بانتظام، ولم أعتقد أنه عندما يحدث ذلك يجب عليَّ أن أعتذر لها أو أطلب إذنها بالسماح لي بالإقامة في نفس عمارتها. وعندما ذهبتُ لأُلقِي نظرةً على المكان وأوقِّع عقدَ الإيجار، لم تكن هي متواجِدةً هناك.
هناك شيء واحد أدركْتُه في تلك الزيارة، أو حينما فكَّرْتُ بها فيما بعدُ. تحدَّثَ إليَّ رجل لم أتعرَّف عليه في البداية، وبعد دقيقةٍ أدركتُ أنه شخصٌ عرفتُه لسنواتٍ، وظللتُ نصف عمري أُحَيِّيه في الطريق. لو كنتُ رأيته هناك لَكنتُ عرفتُه بالرغم من آثار تقدُّم العمر، لكني لم أتعرَّف عليه، وقد ضحكنا على ذلك، وأراد أن يعرف إنْ كنتُ سأنتقل بالقرب من ساحة العظام (أيْ منطقة تخزين وتفكيك المركبات القديمة).
قلتُ له إنني لم أكن أدري أنهم يُطلِقون عليها ذلك، ولكني كنتُ سأفعل.
ثم أراد أن يعرف إنْ كنتُ أمارس لعبة اليوكر، وقلت إني ألعبها، ولكن ليس كثيرًا.
قال: «هذا شيء جيد.»
ثم فكَّرْتُ حينها أن العيش لفترة طويلة بدرجة كافية كفيلٌ بأن يمحو كلَّ المشكلات، ويضعك ضمن مجموعة مختارة من الناس. ومهما كانَتْ إعاقتك، فإن مجرد العيش حتى هذا العمر الذي كنت فيه يمحوها إلى حدٍّ بعيد؛ فكل وجه سيُعَانِي، وليس وجهك فقط.
وهذا جعلني أفكِّر في أونيدا، وكيف كان مظهرها حينما كانت تتحدَّث عن الانتقال إلى منزلي؛ فلم تَعُدْ رشيقةً، لكنها كانت هزيلةً متعبةً، بلا شك، من الليالي التي أمضَتْها مستيقظةً بجواري، لكن عمرها كان يكشف عمَّا هو أبعد من ذلك. كانت تتمتَّع بجمال هادئ طوال الوقت؛ فقد كانت امرأةً شقراء تعلو وجهَها حمرةٌ، وبه ذلك المزيجُ الغريب الذي يكشف عن رغبةٍ في الاعتذار، وينمُّ عن ثقةِ أبناء الطبقة العليا حيال ما تمتلكه وما فقدْتَه. عندما قدَّمَتْ عرضَها لي كانت تبدو متوترةً ويعلو وجهها تعبيرٌ غريب.
بالطبع لو كان لي الحق في الاختيار، لَكنتُ بطبيعة الحال، وبالنسبة إلى طولي، اخترتُ فتاةً أقل حجمًا، كالفتاة الجامعية الجميلة، ذات الشعر الداكن، التي كانت من معارف آل كريبس، وعملت في متجرهم لفترة الصيف.
وفي أحد الأيام قالت لي هذه الفتاة بطريقةٍ لطيفة إنه يمكنني الحصول على نتيجةٍ أفضل بالنسبة إلى وجهي في هذه الأيام، وقالت إنني سأندهش من النتيجة، وإن ذلك لن يكلفني كثيرًا خصوصًا في ظل برنامج التأمين الصحي بأونتاريو.
كانت محقة، لكن كيف لي أن أوضح لها أنني لا أستطيع الذهاب إلى عيادة أحد الأطباء وأقول له إنني أرغب في شيء لا أعرف كنْهَه؟
•••
بدت أونيدا على نحوٍ أفضل مما كانت عليه قبل ذلك، وذلك عندما ظهرت أثناء حزمي لأمتعتي وأشيائي وتخلُّصي من بعضها. كان شعرها مصفَّفًا، وقد تغيَّر لونُه بعض الشيء، ربما أضحى بنيًّا أكثر.
قالت: «لا يتعيَّن عليك أن تُلقِي بكل شيء دفعةً واحدة؛ أيْ كل ما جمعتَه عن تاريخ هذه البلدة.»
قلت لها إنني كنتُ انتقائيًّا في فرز الأشياء، بالرغم من أن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا. بَدَا لي أن كلَيْنا كان يتظاهر بالاهتمام بما حدث بدرجةٍ أكبر مما نحن عليه بالفعل، وعندما فكَّرْتُ في تاريخ البلدة في ذلك الوقت، تراءى لي أن كل البلدات يجب أن تشبه بعضها بعضًا في النهاية.
لم نذكر أي شيء عن انتقالي إلى العمارة التي تقطن بها، كما لو أننا ناقشنا الأمر بالكامل وأصبح شيئًا مسلَّمًا به منذ فترة طويلة.
قالت إنها ستذهب في واحدة من رحلاتها، وفي هذه المرة ذكرت اسم المكان؛ وهو جزيرة سافاري، كما لو أن هذا كان كافيًا.
سألتها بأدبٍ عن المكان الذي كانَتْ ستقيم فيه، فأجابَتْ قائلةً: «أوه، إنه قبالة الساحل.»
قالت ذلك وكأنَّ هذه إجابةٌ وافية لسؤالي.
وأردفَتْ قائلةً: «حيث تعيش صديقةٌ قديمة لي.»
بالتأكيد، قد يكون ذلك صحيحًا.
«لقد بعثَتْ لي رسالةً بالبريد الإلكتروني، وقالت إن ذلك ما يجب أن أفعله. أنا لستُ مهتمةً بالأمر إلى حدٍّ ما، لكن ربما عليَّ أن أجرِّب الذهابَ إلى هناك.»
«أعتقد أنكِ لن تعرفي شيئًا عن المكان إلا إذا جرَّبْتِ الذهابَ إليه.»
شعرتُ كما لو أنه كان عليَّ أن أضيف شيئًا آخَر؛ كأنْ أسأل عن أحوال الطقس هناك، أو شيء آخَر يتعلَّق بالمكان الذي كانت ستذهب إليه، لكنْ قبل حتى أن أفكِّر فيما يجب أن أقوله، أطلقَتْ صيحةً أو صرخةً صغيرة غريبة، ثم وضعَتْ يدَها على فمها، وسارت بخطواتٍ شديدةِ الحذر نحو نافذتي.
قالت: «سِرْ بهدوءٍ، بهدوء. انظرْ، انظرْ هناك.»
كانت تضحك بلا صوت تقريبًا، ضحكة قد تُوحِي حتى بأنها كانت تتألم، وأشارت إليَّ بيدها من خلف ظهرها بينما كنتُ أنهض من مكاني حتى أتحلَّى بالهدوء.
كان يوجد بالفناء الخلفي لمنزلي حوض للطيور، ولقد وضعتُه منذ سنوات حتى تتمكَّن أمي من مشاهدة الطيور. كانَتْ مولعةً جدًّا بها، وكان بمقدورها التعرُّف عليها من خلال أصواتها وأشكالها كذلك. كنت قد أهملتُه لفترةٍ، لكني ملأْتُه بالماء هذا الصباح.
والآن ماذا حدث؟
امتلأ بالطيور، طيور ذات لونين أبيض وأسود تندفع نحوه كالعاصفة.
لم تكن طيورًا؛ فقد كانت أكبر حجمًا من طيور أبي الحناء وأصغر من الغربان.
قالت: «إنها ظَرَابِيُّ، ظَرَابِيُّ صغيرة. إن اللون الأبيض بها يفوق اللون الأسود.»
لكن يا لجمالها! كانت تتحرَّك برشاقة وتتمايل، ولا يعترض أحدها طريقَ الآخَر، حتى إنك لا تستطيع أن تعرف عددَها، وأيها تحرَّكَ أو توقَّف.
وبينما كنا نشاهدها، دفع كلٌّ منها بنفسه الواحد تلو الآخَر خارجَ المياه، وشرعَتْ في السير عبر الفناء بسرعةٍ لكنْ في خطٍّ قطري مستقيم، كما لو أنها كانت تزهو بنفسها لكنْ في هدوء. كان عددها خمسة.
قالت أونيدا: «يا إلهي! في البلدة.»
بَدَتْ علاماتُ الانبهار على وجهها.
«هل رأيتَ مثل هذا المنظر من قبلُ؟»
قلتُ لها لا، مطلقًا.
خُيِّلَ إليَّ أنها ربما تقول شيئًا آخَر قد يُفسِد المشهد، لكنها لم تفعل، لم يفعل كلانا ذلك.
كنا في أقصى قدرٍ من السعادة يمكن أن نصل إليه.