مقدمة
إن التفكير الفلسفي في أي عصر هو دائمًا أشد تنوُّعًا وتعقيدًا ممَّا يبدو لأول وهلة. ومع ذلك فإن القرن التاسع عشر يفوق بمراحل عديدة القرنَين السابع عشر والثامن عشر — مع احترامنا الكامل لسلفَيه العظيمَين هذَين — وذلك على الأقل من حيث تعدُّد أفكاره الفلسفية وتنوُّعها وتعقيدها. ولذا كان من الصعب إلى حد بعيد أن يهتدي المرء إلى قضية أو مسألة أساسية تدور حولها آراء مُعظم كِبار مفكِّري تلك الفترة، بل إن مجرد الجمع بين أسماء ضخمة مثل هيجل ونيتشه، وماركس ومل، وكونت وكيركجورد، لَيبعث في الذهن على التو فروقًا لا نظير لها، لا في المزاج والأسلوب الفلسفي فحسب، بل في المؤثرات السابقة والمنهج أيضًا. ففي القرن التاسع عشر تزدهر مملكات فلسفية كاملة، ثم تدول، خلال بضع سنوات قصيرة، وسرعان ما يتحوَّل المصطلح الفني لدى إحدى المدارس إلى هُراء في نظر المدرسة التالية. وباقتراب نهاية ذلك القرن، يتزايد تداخل الحدود الفاصلة واختلاطها، حتى لَتكاد التصنيفات المفيدة الصادقة للفلاسفة تغدو مستحيلة. ومع ذلك فقد تبيَّن لي، رغم هذا كله، أنه توجد من وراء معظم المشاهد المحيِّرة التي تعرض لمن يؤرِّخ فلسفة القرن التاسع عشر ويقتطف منها نصوصًا مختارة، مجموعة رئيسية من المشاكل يرجع إليها القدر الأكبر من غرابة هذه الفلسفة وصعوبتها؛ فمنذ «كانت» طرأ تعديل أساسي عميق على نفس مفهوم التفلسف كما كان يسود منذ وقت أرسطو، ممَّا استتبع تغييرًا هائلًا حتى في معاني ألفاظ أساسية في مصطلح الفلسفة التقليدية مثل «الميتافيزيقا» و«المنطق». وتبيَّن حينئذٍ أن هناك مشاكل لم يشكَّ أحد في قيمتها أو دلالتها طوال ألفَي عام، قد أصبحت تُعد خِلوًا من المعنى، واستُعيض عنها بمسائل أخرى لم تخطر من قبلُ على بال أحد. وإلى هذه الحقيقة يرتد مباشرةً كثيرٌ من الغموض الذي يكتنف الكتابات الفلسفية في القرن التاسع عشر.
ولا جدال في أن هذا قد زاد من عمق فلاسفة القرن التاسع عشر وأصالتهم، غير أنه لم يزِدهم وضوحًا، ولم يجعل كتاباتهم أسهل قراءة.
ولقد كُتب «عصر الأيديولوجية» هذا للقارئ المفكِّر الذي قد لا يهتم بمناقشات الشُّراح العلمية المعقدة، وإنما يلتمس شيئًا قد يكون ذا صلة بمشاكله العقلية والروحية الخاصة، أو يلقي بعض الضوء على الخلافات الأيديولوجية التي ورثها عصرنا من القرن السابق عليه. وهكذا حاولت أن أضع هاتَين الحاجتَين المشروعتَين نصب عينَي دائمًا، دون أن أُشوِّه آراء الفلاسفة الذين عرضت لهم ها هنا. وبالاختصار، فقد هدفت إلى أن أكتب لأولئك الذين يعتقدون أن التفكير الفلسفي ليس ترفًا محفوفًا بالخطر، وإنما هو عنصر لا غنى عنه يعيننا على السلوك في الحياة. ويؤمنون مثلي، في الوقت ذاته، بأن من المستحيل التمسك بقول سقراط «اعرف نفسك!» إن لم يكن المرء يعرف شيئًا على الإطلاق. ولو أتاح هذا الكتاب لقارئٍ أن يهتدي في تفكير فيلسوف مثل كانت أو مل أو نيتشه إلى مفتاح مُعيَّن لحل مشاكل عميقة خاصة به، أو شجَّعه على الاستزادة من قراءة هؤلاء المفكِّرين الكبار، لكنت بذلك قد حقَّقت كل ما أرمي إليه من هذا الكتاب.
وعلى ذلك فالرأي الذي أُدافع عنه لا يقتصر على القول بأن أبرز سمات مذاهب فلاسفة القرن التاسع عشر وأقواها أثرًا كانت ذات طابع أيديولوجي في الأساس، بل إني لأذهب في رأيي هذا أيضًا إلى القول بأن الفلاسفة قد ازدادوا منذ عهد «كانت» إدراكًا لطبيعة الهدف الأساسي للنقد الفلسفي، من حيث هو لا ينتمي إلى «العلم»، بأي معنًى معتاد للكلمة، وإنما إلى شيء لا تنطبق عليه إلا كلمة «الأيديولوجية».
أمَّا من حيث ما قدَّمته من شروح على كل فيلسوف بعينه، فإن دَيني عظيم لعشرات من الباحثين، وهو في الحق أكبر من أن أعترف هنا بتفاصيله، فلهم جميعًا الشكر على ما اقتبست منهم عن وعي ومن غير وعي. ومع ذلك فبودِّي أن أعبِّر عن امتنان خاص لعدة أشخاص؛ أولهم زوجتي «ليليان ودورث أيكن»، التي أبدت حكمةً ومساعدة جمة في قراءة كل المُسودات المتعاقبة لهذا الكتاب. كما أن صديقي وزميلي «بول زيف» قد قرأ أجزاءً كبيرة وناقشني بالتفصيل في عدة فلاسفة ممن كتبت عنهم، فله مني ثناء حار على تشجيعه لي. ويسرني أن أُعرب لزميلَين آخرَين هما «مورتون وايت» و«و. ف. كواين» عن شكري للصحبة العقلية والولاء اللذَين أعاناني طوال سنوات عديدة كنت خلالها أتحسَّس طريقي نحو آفاق فلسفية لا أظن أنها تختلف كثيرًا عن آفاقهما. ولقد اعتمدت على «الوعي التاريخي» لدى الأول — وهو أعمق كثيرًا ممَّا لديَّ من هذا الوعي — اعتمادًا أعظم ممَّا يعلم. على أن دَيني الأعظم إنما هو إلى «رالف بارتون بيري»، الذي أُهدي إليه هذا الكتاب بمودة واحترام، والذي استمددت منه أهم ما لديَّ من معايير التفوق خلال السنوات التي انقضت منذ أول أيام دراساتي العليا بجامعة هارفارد.
ماساتشوستس. هنري ديفد أيكن