الفصل الأول
الفلسفة والأيديولوجية
في القرن التاسع عشر
تتميَّز فترة الفلسفة الحديثة الواقعة بين إمانويل كانت وبين إرنست
ماخ بأنها فترة مرَّت فيها الميتافيزيقا — التي كان ديفيد هيوم قد أجهز
عليها منذ عهد قريب، وكانت قد أُعلن موتها رسميًّا — بعهد إحياء معجز
عادت فيه إلى الظهور في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل، وعاشت حياةً
جديدة قوية في المذهب الطبيعي التطوري عند هربرت سبنسر، ووجدت، كما يرى
البعض، دارها الباقية في المادية الديالكتية عند كارل ماركس. كذلك كان
عصر الأيديولوجية فترةً بلغت فيها فلسفة التاريخ — وهي أشد المباحث
الميتافيزيقية بريقًا — أقصى مراحل الازدهار، وأتت معها بمجموعة كاملة
من النظريات الطامحة المتعلِّقة بطبيعة المسار التاريخي ومصير الإنسان.
وهكذا يبدو لأول وهلة أن القرن التاسع عشر، على خلاف القرن السابق
عليه، كان عصر تأمُّلاتٍ غير ناقدة، بل جامحة، في الطبيعة النهائية
للعالم الحقيقي، أكثر ممَّا كان عصر نزعة نقدية اجتماعية وسياسية،
سلَّمت بالمبدأ القائل إن الموضوع الصحيح لدراسة الفلسفة، إن لم يكن
لدراسة الجنس البشري ذاته، هو الإنسان.
ومع ذلك، فحتى لو قُبِل هذا الوصف على علَّاته، فما زال من الممكن
الدفاع عن الرأي القائل بأن القرن التاسع عشر كان عصرًا أيديولوجيًّا؛
فلفظ الأيديولوجية، يعني، في أحد معانيه المتعدِّدة، «التأمل النظري أو
الفكري المجرد». غير أن مثل هذا الوصف لفلسفة القرن التاسع عشر بأسرها
وصف غير كامل؛ فهو يُغفل ذلك الاتجاه والاندفاع الأساسي للتفكير
الفلسفي في القرن التاسع عشر، حتى في إطاره الميتافيزيقي ذاته. ولو
رجعنا إلى قاموس «وبستر Webster»،
لوجدنا معاني أخرى للفظ «الأيديولوجية» لها ارتباط أوثق بتلك المعاني
التي أقصدها حين أُطلق على هذه الفترة اسم «عصر الأيديولوجية»؛ ففي أحد
هذه المعاني يشير اللفظ إلى «نسق من الأفكار بشأن الظواهر، ولا سيما
ظواهر الحياة الاجتماعية؛ طريقة التفكير المميزة لطبقة أو فرد.» غير أن
هذا التعريف يغدو أكثر غموضًا كلما أمعن المرء التفكير فيه؛ ذلك لأن
الجزء الأول فيه يوحي بنظرية عن الظواهر، ولا سيما الاجتماعية منها، في
حين أن الجزء الثاني لا يوحي بنظرية، وإنما بطريقةٍ في التفكير أو نسق
من المواقف. فالأول يبعث في الذهن قضايا موضوعيةً تصف شيئًا موجودًا في
العالم، والثاني لا يوحي بقضايا يجوز فيها الصواب أو الخطأ، وإنما بشيء
أكثر ذاتية، يعبِّر عن الطريقة التي ينظر بها فرد أو جماعة إلى عالم
الواقع. هذا الغموض أو ازدواج المعنى، هو في رأيي كامن في الاستخدام
المألوف لكلمة «الأيديولوجية»، وهو أيضًا ازدواج يكمن في صميم التفلسف
المميز للفترة التي نتناولها ها هنا بالبحث؛ ذلك لأن نظرة معظم فلاسفة
القرن التاسع عشر إلى أية قضية ذات صورة فكرية على أنها شيء يُتصور،
ويُوضَّع (أو يُؤكَّد)، ويُرغب فيه، ويُتاق إليه، هي ذاتها التي تجعل
من العسير علينا أن نعرف متى يتحدثون عن طريقة التفكير ومتى يتحدثون عن
موضوعه. وهم كثيرًا ما يتحدثون عن الأمرَين معًا، أو على الأصح، عن
علاقة بينهما يعدونها أساسيةً لهما معًا. أمَّا السبب في تحدُّثهم على
هذا النحو، فإنه يؤلف جزءًا كبيرًا من مشكلتنا في هذا الكتاب. وعلى أية
حال فسواء أكانت هذه الفكرة صحيحةً أم باطلة، فإنها تمثِّل خروجًا على
طبيعة التفلسف النظري السابق، وهي تؤدِّي آخر الأمر إلى نظرة جديدة
تمامًا إلى عملية التفلسف ذاتها.
ولقد كان الفلاسفة في الفترة السابقة على القرن التاسع عشر يهتمون
كثيرًا بمشكلة المنهج، ولكنهم في عمومهم لم يشُكُّوا كثيرًا في وجود
حقيقة مستقلة موضوعية يمكن فهمها على نحو ما.
١ كما أنهم لم يرتابوا في وجود طريقة موضوعية للتفكير في
الواقع، مشتركة بين كل الحيوانات العاقلة، ولا تؤدِّي إلى تغيير أو
تشويه أساسي للشيء المعروف. فهم في واقع الأمر لم يتعمَّقوا كثيرًا
مفهوم الموضوعية ذاته، بل اقتصروا على استخدامه للتعبير عن إيمان شبه
شعوري بقدرة الملكة العاقلة على بلوغ موضوعها، وعن التطابق بين الشيء
في ذاته والشيء كما يُعرف. وقد نظروا إلى ما أسمَوه ﺑ «العقل
reason»، على أنه الملكة العاقلة
التي تُدرَك بها قوانين الطبيعة، وعلى أنه في الآن نفسه مبدأ النظام أو
القانونية اللذَين تدركهما الملكة العاقلة في الطبيعة. وهكذا نُظر إلى
العلاقة بين تفكير الإنسان في الواقع وبين الواقع ذاته على أنها علاقة
«تطابق»، شفاف، وعُدَّت أيضًا علاقةً خارجية صرفًا، لا تؤثِّر بحال في
الخصائص الكامنة في الشيء المعروف.
٢ أمَّا الانسجام المُقدَّر بين الذهن العارف والموضوع
الحقيقي للمعرفة فهو، تبعًا لهذا الرأي، معجزة إلهية لا يملك الإنسان
إلا أن يُعرب عن امتنانه لها.
أمَّا منذ وقت كانت، فقد أصبح افتراض وجود تطابق مقدَّر بين الذهن
وموضوعه، يُعَد افتراضًا دجماطيقيًّا (توكيديًّا) غير ناقد.
فإذا كان العقل الكامن في الأشياء هو ذاته العقل الذي نعترف بأنه
معيار التفكير السليم في أي موضوع، فما ذلك إلا لأنَّا نحن أنفسنا قد
حدَّدنا مُقدَّمًا الشروط التي ينبغي أن تتوافر في أي موضوع حتى نَعُده
«حقيقيًّا real». وبالاختصار، فالذات
المفكِّرة هي ذاتها التي تضع معايير الموضوعية. وإذا لم يكن العالم هو
«فكرتي»، على حد تعبير شوبنهور المضلِّل، فإنه على أية حال لا يكون
حقيقيًّا في نظرنا إلا بقدر ما يتمشَّى مع فهمنا الخاص للشروط الواجب
توافرها في أي شيء حقيقي.
وهكذا فإن أية صورة فلسفية للواقع تفترض مُقدَّمًا طريقةً للتفكير
فيه، وقاعدةً أو مبدأً لتنظيم التصورات، ينبغي أن يُسلِّم بها صانعها
تسليمًا. وبهذا يكون من المحال حذف عنصر الذاتية، مهما دقَّ تَخَفيه،
حذفًا تامًّا من أي مذهب فلسفي؛ فكل مذهب فلسفي يفترض، بطريقة شعورية
أو بغيرها، بعض الالتزامات أو «المواقف» النهائية الأخرى. وهذه
الالتزامات أو المواقف من صنع الحيوان العاقل ذاته، يضعها حتى يعيش
ويؤدِّي عمله، دون أن يكون ثمة جهة يحتكم إليها في حالة الاعتراض على
صحتها من بعد تصميمه هو على الالتزام بها.
٣
ومع ذلك فقد عُدِّلت هذه الذاتية العميقة تدريجيًّا بفعل عامل آخر
كان أقوى سيطرةً على تفكير معظم الفلاسفة في العصر الأيديولوجي؛ ذلك هو
ما يُسمَّى ﺑ «الوعي التاريخي». ولقد كان هيجل هو الفيلسوف الذي ساهم
بأكبر نصيب في دعم هذه الطريقة في التفكير. ومنذ وقت هيجل، أصبح
الاتجاه المُفضَّل هو النظر إلى الطبيعة البشرية في عمومها، بل إلى
العقل ذاته، على أنهما متطوِّران خلال التاريخ، وبالتالي على أنهما
يتأثران على الدوام بتغيُّر ظروف الفرد والحياة الاجتماعية. وهذا
ينطوي، أو يبدو منطويًا، على القول بأن العقل ليس مبدأً شاملًا ثابتًا
للفهم البشري والطبيعي، وإنما صورة للفكر متطورة تاريخيًّا، تخضع
معاييرُ الصحة فيها للتغير وفقًا لتغير مقتضيات الحياة البشرية
وظروفها.
ويتضمَّن قاموس «وبستر» معنًى ثالثًا للفظ «الأيديولوجية» هو بدوره
مرتبط بموضوعنا؛ ففي هذا المعنى — وهو المعنى الأصلي — يشير اللفظ إلى
«علم الأفكار؛ أي دراسة أصل الأفكار وطبيعتها، ولا سيما في مذهب
كوندياك Condillac، الذي استمدَّ جميع
الأفكار من الإحساس وحده».
غير أن دلالة هذه الإشارة التاريخية ليست واضحة، ولِزام علينا أن
نأتي بتفسير لها، نظرًا إلى أهميتها الأساسية بالنسبة إلى المشكلة التي
يتعرض لها هذا الكتاب. فقد كان أول من صاغ لفظَ «الأيديولوجية» فيلسوف
فرنسي أصبح الآن منسيًّا، اسمه «ديتوت دي تراسي
Destutt
de Tracy» (١٧٥٤–١٨٣٦م).
٤ وقد استخدمها دي تراسي للإشارة إلى التحليل التجريبي
المجدِّد للذهن البشري، وهو التحليل الذي صاغه في أكثر صوره اتساقًا
الفيلسوف «كوندياك» في القرن الثامن عشر، والذي يرجع آخر الأمر إلى
«طريق الأفكار الجديد
The new way of
ideas»، الذي وضعه لأول مرة جون لوك في كتابه «بحث
في الفهم البشري
Essay Concerning the Human
Understanding». وقد تبنَّى زعماء الثورة الفرنسية
هذا التحليل، الذي جعل من الإحساس مصدرًا لكل الأفكار، على أساس أنه
سلاح لا غنى عنه في محاربة العقائد السياسية والدينية المتسلِّطة التي
استغلَّها النظام القديم في الاحتفاظ بقبضته. بل إن حكومة الثورة قد
اعترفت بهذا التحليل بوصفه الفلسفة الوحيدة، وكان الفلاسفة الوحيدون
المعترَف بهم أثناء عهدها هم «الأيديولوجيون
les
idéologues» كما أصبحوا يسمَّون فيما بعد.
ومنذ ذلك الحين فقدت كلمة «الأيديولوجية» هذا المعنى المحدود، ولكن
ارتباطها بالمذاهب المستمدَّة من اعتبارات سياسية، والمؤيَّدة رسميًّا،
ظلت باقية. ومع ذلك فقد طرأ تحوُّل آخر على هذا المعنى للَّفظ خلال عهد
نابليون، عندما أصبحت «الأيديولوجية» تكاد تعني أي رأي ذي طابع جمهوري
أو ثوري؛ أعني أي رأي مضاد لنابليون ذاته. على أن هذه الارتباطات شبه
المجازية لم تختفِ تمامًا قطُّ من استعمالات هذا اللفظ، بل لقد ظلت
طوال القرن التاسع عشر تكتسب قوةً جديدة، ويتسع نطاقها، ولا سيما في
كتابات كارل ماركس وزميله فريدرش إنجلز؛ ففي كتابهما المشترك
«الأيديولوجية الألمانية»، ظل معنى اللفظ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا
بالفلسفة، ولا سيما تلك الفلسفات التي كانت في نظرهما معاديةً
لفلسفتهما الثورية الخاصة في التاريخ. وهكذا استخدما اللفظ، ليس فقط
للدلالة على التراث «البرجوازي» للمثالية الألمانية التي يُمثِّلها
هيجل وأتباعه، بل أيضًا للإشارة إلى الصور «الآلية» السابقة للمذهب
المادي، وهي الصور التي تعجز في رأيهما عن تفسير طبيعة التطور
التاريخي.
وهناك عدة سمات في مفهوم الأيديولوجية عند ماركس وإنجلز، تقتضي هنا
بعض البحث؛ فمن الملاحظ أولًا أن ما أطلقا عليه اسم «الأيديولوجية» لا
يشمل نظرية المعرفة والسياسة فحسب، بل يشمل أيضًا الميتافيزيقا
والأخلاق والدين، وأية «صورة للوعي» تعبِّر عن المواقف أو الالتزامات
الأساسية لطبقة اجتماعية. كذلك يتضمَّن كتاب «الأيديولوجية الألمانية»
عددًا من الفقرات الطريفة التي يبدو فيها أن ماركس وإنجلز يحاولان
إيجاد نوع من التمييز بين المكوِّنات «الأيديولوجية» للوعي وبين ما
يُطلِقان عليه تارةً اسم «المعرفة الحقيقية»، وتارةً اسم «العلم الوضعي
الحقيقي». وهما لا يقدِّمان أبدًا إيضاحًا تامًّا لمعنى هذا التمييز،
ولكنه يوحي على أية حال بأن الأيديولوجيات، أو «الأسباب» التي تدعو إلى
قَبولها، غير عقلية. كذلك يثير هذا التمييز مسألةً صعبة تتعلَّق بمركز
المادية الديالكتيكية ذاتها، التي تصوَّرها ماركس على أنها ليست
أيديولوجية الطبقات العاملة الثورية فحسب، بل على أنها أيضًا فلسفة
«علمية» يمكن وصفها، دون تردُّد، بأنها «صحيحة».
ولم يقم ماركس وإنجلز أو أحد من أتباعهما مطلقًا بتحديد دقيق للصلات
بين الأيديولوجية وبين العلم والمعرفة. ومع ذلك فإن القول بوجود
ارتباطات لا معقولة تتعلَّق بالمصالح الاجتماعية أو السياسية البعيدة،
وهي الارتباطات التي ما زالت تلحق المذاهب «الأيديولوجية» في كثير من
الأحيان، يرجع الكثير من جذوره إلى النظرية الماركسية القائلة إن
العناصر الأيديولوجية وبالتالي الفلسفية، في الوعي، تنتمي إلى «التركيب
الظاهر»
superstructure٥ للحضارة.
وتبعًا لهذا الرأي تكون هذه المذاهب، رغم مظاهرها الخارجية، مفتقرةً
إلى المضمون العقلي أو «المعرفي» المستقل، وليس لها مسار تاريخي قائم
بذاته.
ولقد كان كلام ماركس وإنجلز عن وجود معنًى مُضلِّل ودلالة «حقيقية»
باطنة للمذاهب الأيديولوجية أقوى أثرًا أو أعمق تغلغلًا في تفكير القرن
العشرين ممَّا يعترف به عادة؛ ففي رأيهما أن علاقات الناس وأفكارهم
عندما تصاغ في قوالب أيديولوجية، تظهر الصورة المقلوبة؛ أي إن
الأيديولوجية والفلسفة تتجهان إلى عرض الأفكار ذاتها كأنها قوًى
متحكِّمة قادرة على توجيه وتحديد العلاقات السياسية والاقتصادية بين
الناس. وإلى هذا الميل إلى أن نصبغ بصبغة موضوعية ونُشخِّص ما هو في
حقيقته مجرَّد ناتج ثانوي ذاتي للصراع الاقتصادي الطبقي، ترجع سيطرة
الأفكار الخالصة على من يؤمنون بها، ويعتقدون أن في إمكانها إحداث فارق
ملحوظ في حياتهم. وهذا كله باطل؛ فالصورة التي تُعرَض بها القضايا
الأيديولوجية تُخفي مضمونها الحقيقي، وهي في واقع الأمر لا تعدو أن
تكون مظهرًا للتضليل اللغوي اللازم للدعوة إلى أية «نظرية» أيديولوجية.
والواقع أن الأيديولوجيات في نظر ماركس إنما هي «انعكاسات» أو «أصداء»
لقوًى أخرى متحكِّمة تقوم هي ذاتها بالمهمة الأساسية في إحداث أي تغيير
اجتماعي حقيقي. ويُطلق ماركس على هذه العلل التنفيذية أو الفاعلة
للتغيُّر الاجتماعي اسم العلل «المادية»، وذلك إيضاحًا للتقابل بينها
وبين نواتجها العرضية الأيديولوجية.
وليس هذا موضع القيام بتحليل أو تقديرٍ شامل لأقوال ماركس وإنجلز
التي لم تكن متسقةً دائمًا، بشأن الصلات بين «التركيب الظاهر»
الأيديولوجي وأساسه الاقتصادي المادي. غير أن هذه النظرية توحي ضمنًا
على الدوام بأن المذاهب الأيديولوجية أساطير اجتماعية أو «مخدرات»
للشعوب، وبأن «أسباب» قَبولها لا صلة لها، في أساسها، باعتبارات
البداهة أو الواقع. وما زالت هذه الفكرة المتضمَّنة في النظرية مرتبطةً
بمفهوم الأيديولوجية حتى يومنا هذا.
وأود في هذا الكتاب أن أستخدم بعض، لا كل، المعاني والارتباطات
التاريخية المعقَّدة للفظ «الأيديولوجية». والرأي الذي أود أن أُقدِّمه
ها هنا هو أن الفلسفة لم تعد تُتصوَّر، خلال الجزء الأكبر من القرن
التاسع عشر، على أنها امتداد للعلم ذاته أو جزء منه. وهذا، كما سنرى،
يصدق حتى على أشد الفلاسفة تعلُّقًا بالعلم، مثل أوجيست كونت. غير أني
لا أستخدم لفظ الأيديولوجية بمعنًى مجازي لكي أوحي بأن هيجل أو كونت أو
حتى ماركس ذاته قد استخدموا فلسفاتهم — بشيء من المخادعة — ذريعةً
لتحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية الخفية؛ فلا المثالية، ولا
الوضعية، ولا المادية، يمكن أن تُفهم أو تُقدَّر بما فيه الكفاية إذا
ما عُدت مجرد أساطير أو مخدرات اجتماعية. كذلك لا أود أن أوحي بأن جميع
المذاهب الفلسفية لدى الفلاسفة الذين سنعرض لهم هي مذاهب «لا عقلية»،
بل إن استخدامي للفظ «الأيديولوجية» محايد تمامًا في هذه النواحي. ولا
جدال في أن الالتزامات الأيديولوجية لفلاسفة القرن التاسع عشر يمكن أن
توضع مقابل المعتقدات الواقعية المنتمية إلى النوع الذي يؤمن به الناس
العاديون أو رجال العلم من حيث هم علماء، غير أن هذا لا ينطوي على أقل
اعتقاد بأن هذه الالتزامات لا عقلية، أو بأنها تُقترح أو تُقبل بلا
سبب. ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل؛ فهو لم يفترض لحظةً واحدة أن
فلسفة التاريخ لديه تنتمي إلى مجال العلم الوضعي، ولكنه صاغ هذه
الفلسفة على نحوٍ نقدي واعٍ بذاته إلى حد بعيد، وهو يقدِّم ما يُطلِق
عليه «مِلْ» اسم «خواطر للتأثير في الذهن»، وهي في رأيه كفيلة بأن تجعل
هذه الفلسفة معقولة، وربما مقبولةً لدى أي شخص نزيه. وفضلًا عن ذلك،
فحتى لو كان صحيحًا أن صفة «الأيديولوجية» تُنسب إلى معظم القضايا
الفلسفية لفلاسفة القرن التاسع عشر، بحيث تضعها مقابل نظريات العلم
التجريبي، فهذا لا يعني بأية حال أنه لا توجد بين هذه الفلسفات وبين
العلم التجريبي أية علاقات سوى علاقة التضاد أو التقابل.
وهذا يُفضي بنا إلى بحث لا بد منه في أي تقدير سليم لفلاسفة القرن
التاسع عشر؛ فكتاباتهم عادة معقَّدة، وكثيرًا ما تكون غامضة، وذلك على
عكس أسلافهم في القرن الثامن عشر. غير أن من الأسباب الرئيسية لذلك
أنهم اضطلعوا بمهمة لم يكن لدى هؤلاء الأخيرين أبسط فكرة عنها. ومن
المُسلَّم به أن السهولة والسلاسة أمر يسير، طالما أن المرء يقنع بأن
يستخدم، دون تساؤل، تلك التصورات والمناهج المتوارثة التي فرضت عليه
«معقوليتها»، «وصحتها»، مُقدَّمًا. ولكن إذا ما بدأ المرء في الشك في
ضرورتها الأزلية الشاملة، وبالتالي في الشك في وجود معايير ومبادئ
موضوعية في «طبيعة الأشياء»، فإن عمل التحليل والنقد الفلسفي يبدأ
عندئذٍ في الظهور في ضوء مخالف. ففي «عصر العقل»،
٦ ظلَّت الإهابة بالعقل أو بالطبيعة لا تلقى انتقادًا، لا
لشيء إلا لأن معظم الفلاسفة كانوا يشاركون في نفس الإيمان بالعقل،
وقبلوا معظم ما تتضمَّنه نفس مجموعة المبادئ «العقلية». ولكن مثل هذه
الإهابة لم تعد ممكنةً بالنسبة إلى كانت وخلفائه. ولهذا السبب اضطُروا
إلى الاضطلاع بتلك المهمة التي هي أعجب وأغرب المهام الفلسفية، ألَا
وهي نقد العقل ذاته وتبريره؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا شُكاكًا بأي
معنًى معتاد للكلمة، وإنما كان شكهم محدودًا، وموجَّهًا في المحل الأول
إلى المفاهيم السائدة للعقل، وإلى الادعاءات الفلسفية التي كانت تُساق
بلا حساب باسم العقل.
كما أنه ليس من الإنصاف أن يستخف المرء بهم بحجة أنهم ليسوا إلا
رومانتيكيين لا عقليين؛ فهم لم يثوروا إلا على عصر العقل وعلى ما يمكن
أن يسمَّى بالحساسية الزائدة للعقل في الفلسفات العقلية السابقة. والذي
حدث هو أن مفهوم العقل لم يعد تلك الفكرة الواضحة المتميِّزة التي بدت
لديكارت أو اسبينوزا، ولم تعد قوانينه المزعومة تتسم بما ادُّعي لها من
وضوح ذاتي. ومع ذلك فإن هذه الشكوك لم تكن إلا إحدى مراحل اتجاهٍ عام
متزايد القوة إلى النقد الذاتي، كانت تمر به الحضارة الغربية بأسرها.
ففي ذلك العصر، امتدَّت إلى قلب الفلسفة ذاتها تلك الثورات السياسية
والاجتماعية والعلمية التي كانت مستمرةً منذ عصر النهضة، ممَّا أدَّى
آخر الأمر إلى التشكك في أداة التفكير الفلسفي ذاتها؛ أي العقل. وهكذا
تساءل المفكرون: أفلا يجوز أن يكون العقل، ذلك المحرِّر المزعوم للفكر
البشري، مجرد مستودع للأوهام البالية والعادات الذهنية العتيقة التي لا
تتسم بأي قدر من الصحة الشاملة؟ فإذا صح ذلك، فماذا إذن تكون «الصحة
Validity» ذاتها؟ وكيف تُحدَّد
معاييرها، أو تُعدَّل إذا اقتضى الأمر؟ بل كيف يكون نقد العقل ذاته
ممكنًا؟ أليس هناك نوع أساسي من الامتناع في نفس محاولة نقد وشروط
وحدود كل قول معقول، تقويم مهمة العقل العملي ذاتها؟
ولم تكن الإجابات التي أدلى بها كانت وخلفاؤه على هذه الأسئلة تتسم
بما يوده المرء من الوضوح. غير أن من أسباب إخفاقهم في هذه المهمة،
بالقياس إلى غيرهم، أنهم اضطُروا إلى إثارة مسائل لم تُثر من قبل، بل
لقد خلقوا، من العدم تقريبًا، إطارًا من التصورات ومنهجًا لمناقشتها.
وترتَّب على ذلك أنهم ارتكبوا أخطاءً، وكثيرًا ما ضلَّلوا قُراءهم، بل
أنفسهم، باللغة الجديدة الغريبة التي استخدموها في محاولة حل مشاكلهم.
وبدا أحيانًا أنهم يمارسون نشاطًا فلسفيًّا يشبه ما أطلق عليه الفلاسفة
السابقون اسم «الميتافيزيقا» أو «علم المعرفة». ولكن الواقع أن المرء
عندما يتأمَّل ما وراء شكل الألفاظ، يجد أن هدفهم كان في حقيقة الأمر
القيام بنقد أساسي، لا للعقل فحسب، بل لكل نظام المعايير والمبادئ في
الفلسفة الغربية. وهذه المهمة لم تتحقَّق، ولم يكن من الممكن أن
تتحقَّق، من طريق مجرد استخدام مناهج «عقلية» كانت هي المستخدمة
تقليديًّا في النظر الفلسفي؛ إذ إن هذه المناهج ذاتها كانت تؤلِّف
جزءًا أساسيًّا من الحضارة التي أصبحت معاييرها موضوعًا للشك
والتساؤل.
ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصوَّر أن فلاسفة القرن التاسع عشر كانوا
«مجرد أيديولوجيين»، أو أن مذاهب أسلافهم لم تكن لها أوجه أيديولوجية،
بل إن الأمر على العكس من ذلك تمامًا.
فالموضوعات التي كانت تندرج تحت اسم «الفلسفة»، كانت في عمومها تشتمل
دائمًا على أمور تزيد على ما ينطوي عليه معنى «الأيديولوجية» مهما
توسَّعنا فيه؛ ﻓ «الفلسفة» توحي بحب المعرفة فضلًا عن الحكمة العملية،
حتى لو توسَّعنا في العبارة الأخيرة بحيث تشمل «حكمة العالم». وكثير من
الفلاسفة، قبل كانت وبعده، كانوا يعتقدون أنهم يساهمون بنصيب، لا في
زيادة الحكمة اللازمة للسلوك في الحياة فحسب، بل في مقدار المعرفة أو
المعلومات النظرية المتعلِّقة بالعالم أيضًا؛ فالفلسفة كانت، ولا تزال،
أم العلوم ذاتها، أو على الأقل كانت هي مربية هذه العلوم وراعيتها.
ولقد كانت العلوم، شأنها شأن كل الأبناء، تميل دائمًا إلى إنكار آبائها
عندما تبلغ سن الرشد، غير أن الفلاسفة كثيرًا ما كانوا يثيرون بطريقتهم
النظرية أسئلةً أجاب عليها العلماء فيما بعدُ بطريقتهم التجريبية. وقد
ظلَّت الفلسفة في القرن التاسع عشر مستودعًا لمشاكل لم تُحل قبل ذلك،
حول طبيعة الأشياء. وساهم فلاسفة القرن التاسع عشر بدور أصيل مُفيد في
ميدانَي النظريات الاجتماعية وعلم النفس بوجه خاص. فهيجل مثلًا كان له
تأثير عميق في النظريات القانونية التالية، كما أن شوبنهور ونيتشه قد
ساهما بدور كبير فيها يسمَّى الآن ﺑ «علم النفس المتعمِّق». وكذلك لم
يكتفِ أوجيست كونت بنحت ذلك الاسم الأجنبي غير الموفق
٧ لعلم الاجتماع، بل ربما كان أول مفكر وضع علمًا عامًّا
للمجتمع. تلك كلها مساهمات هامة، حتى لو كانت مهمة إيضاحها وتأكيدها قد
تُركت للآخرين.
ومن الصحيح مع ذلك أن الجهود الرئيسية لفلاسفة القرن التاسع عشر كانت
متجهةً إلى غاية أخرى؛ فهناك هُوة شاسعة بين كتابَين مثل كتاب
«الأخلاق» لاسبينوزا، وكتاب فشته «نظرية العلم
Wissenschaftslehre أو علم المعرفة
Science of knowledge كما تشيع
ترجمته خطأً في الإنجليزية. ومن مظاهر التباين بينهما، ذلك التحول
الأساسي في المفهوم الفعلي أو الممكن للمباحث الفلسفية الرئيسية،
كنظرية المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق؛ فاسبينوزا، الذي كانت كتاباته
تمثِّل مركزًا تتلاقى فيه المفاهيم السابقة لهذه المباحث الفلسفية،
وبالتالي لمهمة التفلسف ذاته، لم يكن يهدف إلى أقل من البرهنة، من خلال
بديهيات وتعريفات واضحة بذاتها، على الحقائق الأساسية الضرورية
المتعلِّقة بالله، والإنسان، وسعادة الإنسان. وقد استخدم نفس المنهج
الهندسي الذي استخدمه إقليدس، لا لشيء إلا لأنه كان يعتقد أنه المنهج
«الوحيد» الذي يمكن به الوصول إلى معرفة علمية لأي موضوع. وقد حاول
اسبينوزا في كتاب «الأخلاق» أن يحوِّل الحكمة الشعبية القديمة لدى
الأنبياء إلى علم للأخلاق، وأنظار القدماء في الطبيعة إلى حقيقة
ميتافيزيقية ضرورية. ففلسفة الإيمان والوحي اليهودية والمسيحية القديمة
قد استُعيض عنها، من وجهة نظره، بعقيدة للعقل، هدفها الوحيد هو معرفة
ما هو كائن. وهكذا عمد اسبينوزا — وكأنه يحاول في ذلك إقناع القارئ
نهائيًّا بأن الدين والفلسفة والعلم لها كلها نهج واحد — إلى وضع عبارة
«وهو المطلوب إثباته quod erat
demonstrandum» عند نهاية البرهان على كل نظرية في
«الأخلاق»، سواء أكانت هذه النظرية تقول بوحدة الله، أم بعدم وجود
إرادة حرة على الإطلاق، أم بأن غاية الحياة البشرية هي الحب العقلي
لله.
كل هذا بعيد تمامًا عن نظرة فشته إلى موضوعه؛ فالميتافيزيقا ونظرية
المعرفة والأخلاق تبدو بالنسبة إليه مباحث معياريةً في أساسها، مهمتها
تحليل وتقدير وإعادة تكوين المبادئ الأساسية التي ينبغي علينا أن
نفكِّر ونحيا بها. وإذا كان هو ومعاصروه قد أطالوا الحديث عن «عالم
الواقع reality»، فلم يكن ما يتحدَّثون
عنه هو الوجود اليومي الفعلي، وإنما الواقع «الفكري»، فحسب. ولا يحاول
فشته أن يبرهن على قضاياه الميتافيزيقية الأساسية، وإنما هو يكتفي
«بوضعها أو تأكيدها»، بوصفها مقتضيات لا مفر منها لأناه الخاص. ولا شك
أن القليلين من فلاسفة القرن التاسع عشر هم الذين يقبلون تلك الذاتية
المتطرِّفة في مذهب المعرفة عند فشته، بل إن فلاسفةً قليلين في أي عصر
هم الذين يتجرءون على قَبولها. ومع ذلك فإن معظم فلاسفة القرن التاسع
عشر يعترفون، بطريقة ما، بأن مهمتهم الأساسية، لا من حيث هم باحثون
أخلاقيون فحسب، بل بوصفهم ميتافيزيقيين ولاهوتيين وباحثين في نظرية
المعرفة أيضًا، ترتبط بالمسائل المتعلِّقة بالمبدأ أكثر ممَّا ترتبط
بالمسائل المتعلِّقة بالواقع، وتتعلَّق بمعايير الصحة والمعقولية في أي
مجال أكثر ممَّا تتعلَّق بالأشياء الخاصة التي تتفق مع هذه المعايير أو
لا تتفق، بل إن البعض منهم على الأقل يصل إلى حد الاعتراف بأن
الموضوعية ليست حقيقةً عن الكون بقدر ما هي مسألة معايير مشتركة في
الحكم والنقد. وبالاختصار، فهنا تُعد الموضوعية اشتراكًا بين الذوات في
أحكام واحدة. والمعايير المشتركة بين الذوات لا يتفق عليها أفراد
المجتمع لأنها موضوعية، بل إنها في الواقع تغدو موضوعيةً لأن الأفراد
قد اشتركوا في قَبولها.
ولقد كان اعتراف فلاسفة القرن التاسع عشر بوجود فارق في النوع بين
المسائل المعيارية والمسائل الواقعية (مهما كان غموض ذلك الاعتراف)،
وكذلك نظرتهم إلى مسائلهم الفلسفية الصرفة على أنها معيارية، كان ذلك
هو الذي حدا بمعظمهم إلى الاعتراف تدريجيًّا بأن عملهم، بوصفهم فلاسفة،
لم يكن، بما هو كذلك، جزءًا من العلم، وبأنهم لا يستطيعون استخدام
مناهج العلم. وليس معنى ذلك أنهم كانوا في عمومهم معادين للعلم؛ فبعضهم
كان كذلك، وبعضهم الآخر لم يكن. ولكن حتى أولئك الذين كانوا مناصرين
للعلم كانوا شاعرين، على نحو ما، بأن الدفاع عن العلم ليس في ذاته
جزءًا من النظرية العلمية المعترف بها رسميًّا؛ فالمفكرون من أمثال
كونت ومِل كانوا، من حيث هم فلاسفة، شهود إثبات في المحكمة أكثر ممَّا
كانوا قضاةً أو أعضاءً في هيئة المُحلَّفين. ولقد كان كانت، الذي تبدأ
به قصتنا، عالِمًا، وصديقًا للعلم طوال حياته، غير أن كتابه «نقد العقل
الخالص»، الذي يستهدف أمورًا منها؛ كيف، وبأي الشروط، تكون المعرفة
العلمية ممكنة، لا ينتمي هو ذاته إلى العلم. ومثل هذا يصدق على الفلسفة
الوضعية عند أوجيست كونت.
ونحن لا نُنكر مع ذلك أن بعض فلاسفة القرن التاسع عشر، مثل هربرت
سبنسر، قد اعتقدوا أن جزءًا من أقوالهم، على الأقل، كان قابلًا للتبرير
علميًّا. ولكن الاهتمام الفلسفي لدى هؤلاء الفلاسفة أنفسهم لم يتجه إلى
الوقائع بما هي كذلك، وإنما إلى المواقف الأساسية التي تؤيِّدها
الوقائع كما وصفوها؛ فهم لم يكونوا باحثين علميين في المحل الأول، كما
كان تشارلس دارون، وإنما أصحاب مواقف، يسعَون إلى استخلاص النتائج
الصحيحة من الكشوف التي توصَّل إليها فرض التطوُّر. وقد أنكروا، بوصفهم
باحثين طبيعيين، وجود أية كِيانات عالية على التجربة. ولكن اهتمامهم
باستخدام هذا الإنكار في إثارة شكوك عملية حول المواقف الدينية
والأخلاقية التقليدية، كان أعظم كثيرًا من اهتمامهم بمجرد وصف السِّمات
الشاملة للوجود بما هو كذلك.
وإنا لنجد في نيتشه مثلًا رائعًا على ما نقول؛ فمن صفات كتابه «أصل
نشأة الأخلاق
The Genealogy of
Morals»، أنه استبق بوقت طويل الدراسات التاريخية
والأنثروبولوجية الحالية في تطوُّر الأفكار والعادات الأخلاقية. وهناك
خط واضح يصل مباشرةً بين نيتشه وبين هبهوس
Hobhouse ووسترمارك
Westermark ومالينوفسكي
Malinowski مثلًا.
٨ ولكن رغم أن نظرة نيتشه إلى هذه الدراسة كانت ذات نزعة
تجريبية وطبيعية واضحة، فإن اهتمامه الكامن من ورائها لم يكن علميًّا،
وإنما أيديولوجي؛ أي إنه يستخدم آراءه في أصل نشأة الأفكار الأخلاقية،
بل فكرة وجود أصل ونشأة الأخلاق ذاتها، وسيلةً لتخليص قُرائه من
التزاماتهم القديمة الساذجة تجاه أسلوبٍ في الحياة يراه مناقضًا لذاته؛
فالنظرة التاريخية إلى دراسة الأخلاق ذاتها هي في رأي نيتشه أداة
أساسية في «انقلاب كل القيم» عنده. وبالاختصار، فقد كان التاريخ والعلم
بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى كونت وماركس، أدوات للتغيُّر
الحضاري، تُستخدم قصدًا لإعادة تشكيل مواقف الإنسان الغربي تجاه تراثه،
وبالتالي تجاه ذاته.
ولكن هناك مع ذلك معنًى أوسع كان فيه التفكير الفلسفي في القرن
التاسع عشر ذا طابع «أيديولوجي». فمن الممكن، من وجهة نظر معينة، النظر
إلى تاريخ الأفكار في العصر الحديث بأسره على أنه تاريخ الانهيار
التدريجي للمذهب المسيحي الوسيط الذي عبَّر عنه توما الأكويني في
«الجامع
Summum»
٩ على أدق نحو ممكن، وعبَّر عنه دانتي في «الكوميديا
الإلهية» أقوى تعبير مؤثر مقنع. فمنذ عصر النهضة، كانت أولى «المشاكل
الوجودية» للإنسان وأهمها هي تكييف المواقف والأفكار الجديدة مع القيم
المتوارثة والنظرة التقليدية إلى مصير الإنسان كما تتمثل في المذهب
الوسيط. ولكن، منذ أواسط القرن الثامن عشر، أخذ الشك في إمكان هذا
التكيُّف ذاته يتزايد على مستويات حضارية متزايدة الأهمية. وفي القرن
التاسع عشر، أصبح فلاسفة كثيرون يُنكرون إمكان هذا التكيُّف. وهكذا
قرَّروا أن يُعيدوا بناء المُثُل العليا للحضارة الغربية على أساس
دنيوي وإنساني خالص؛ أي على أساس غير مسيحي. وربما كان ذلك من الأسباب
التي جعلت فلاسفة القرن التاسع عشر أشد اهتمامًا بمسألة معنى الرموز
الدينية منهم بوجود الله، وهو من الأسباب التي جعلتهم، على خلاف
شُكَّاك القرن الثامن عشر، الذين شكُّوا في وجود علة أولى للأشياء،
يبدءون في التساؤل عمَّا إذا كان «الإله قد مات»؛ فبعضهم قد اعتقد
فعلًا بأن «الإله»؛ أي الرمز التقليدي للألوهية، قد مات.
وهم يقصدون بذلك أن هذا الرمز لم يعد له أي فائدة للناس في عصر
النُّظم السياسية والاجتماعية الدنيوية. وغيرهم، ممن لم يكونوا أقل من
هؤلاء شكًّا في جدوى السؤال اللاهوتي التقليدي عن وجود الله بالنسبة
إلى الإنسان الحديث، قد سعَوا إلى إعادة تفسير الرموز الأساسية للعقيدة
الغربية على نحو يجعلها معبرةً عن محن الإنسان الحديث ومواقفه. غير أن
النتيجة في كل حالة هي نقد انقلابي عنيف للعقيدة، لم يعد يقنع بآراء
الدين «الطبيعي» العقلية، ولا بالعقيدة الإنجيلية أو المُنزَّلة كما
تُفسَّر تقليديًّا. وكثيرًا ما يبدو هذا النقد «لا عقليًّا»، على الأقل
من وجهة نظر المعايير الأسبق عهدًا للمعقولية الفلسفية، ولكنه ليس في
الحق إلا واحدًا من أوجه النقد المستمر للعقل ذاته.
مثل هذه الآراء قد تساعد على إيضاح السبب الذي دعا فلاسفة القرن
التاسع عشر إلى أن يأخذوا على عاتقهم تلك المهمة الهائلة، مهمة إعادة
البناء الأيديولوجية والثقافية، التي كان يستحيل معها التفلسف بالطرق
«العقلية» و«الموضوعية» التقليدية التي سادت الفلسفة الغربية منذ عهد
أفلاطون، وأرسطو؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا يستطيعون الاكتفاء بالتأمل
أو النظر أو ممارسة الاستدلال على طبيعة الأشياء؛ إذ إن نفس الإطار
الذي دار فيه التأمل والنظر والاستدلال الفلسفي التقليدي قد تزعزع حتى
أعمق جذوره. وبالاختصار، فقد كان عصرهم عصر أزمة طويلة الأمد للعقل،
كانت أعمق من أية أزمة مرَّت بها الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأصلي
بين الوثنية وبين المسيحية الأولى.